ظهر في فقه القانون الجنائي مصطلح الجرائم الاقتصادية التي عرفها
بعض شراح القانون الجنائي بأنها (كل فعل غير مشروع مضر بالاقتصاد
القومي إذا نص على تجريمه في قانون العقوبات، او في اي قانون آخر من
القوانين التي تتعلق بخطط التنمية الاقتصادية الصادرة من السلطة
المختصة) ومن روج لهذا المفهوم فقهاء القانون في المعسكر الاشتراكي
بسبب العقيدة الاشتراكية التي تدير الحياة وتنظمها ودخول الدولة في كل
مفاصل الإنتاج والخدمات وسواها من ميادين الحياة العامة والخاصة أحيانا.
وكان تبرير ذلك حماية المجتمع من الأفعال التي تمس حياته
الاقتصادية بحكم مسؤولية الدولة عنها، إلا إننا نجد إن الأمر اقل حدوثا
في المعسكر الرأسمالي بحكم مفهوم الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج
والاقتصاد الحر، إلا في حالات استثنائية تحتاج إلى تدخل الدولة، وفي
الآونة الأخير اختلف أسلوب معالجة الأزمات الاقتصادية من تجريم بعض
الأنشطة وفرض عقوبات عليها إلى دعم مواطن الخلل بوسائل مالية تحافظ على
نسغ الحياة الاقتصادية في بعث روح المنافسة، مثلما حصل أخيرا في الأزمة
المالية العالمية التي مرت بها الولايات المتحدة والدول الأوربية وبعض
البلدان الأخرى فان المشرع لم يلجأ إلى أسلوب العقوبة والتجريم، إنما
عمد إلى ضخ رؤوس أموال لدعم الأسواق وهذه آلية تختلف عن السابق في
القرن الماضي، الذي تميز باتساع مجال التصرفات المحظورة.
وفي العراق مثل غيره من البلدان التي لم يقف عند إستراتيجية ورؤيا
واضحة في الميدان الاقتصادي، والسياسة الاقتصادية فيه تتخبط بين هذه
النظرية وتلك الرؤيا، وأفعال سلطاته كانت ردود افعال تجاه الأزمات
تتميز بالمعالجة الآنية غير المحسوبة النتائج، وهذا ما اشره العديد من
الاقتصاديين في العراق، مثلما عكسته السياسة التشريعية التي ينتهجها
البرلمان العراقي، إذ أصدر عدد من القوانين التي تكرس لتدخل الدولة في
كل تفاصيل الحياة على خلاف التوجه الدستوري في النزوع إلى الاقتصاد
الحر الذي أشير إليه في نص المادة (25 ) من دستور العراق لعام 2005
التي ألزمت الدولة على تحديث الاقتصاد بالطرق الحديثة وفي المادة (26)
على تشجيع الاستثمار الذي يعد روح الاقتصاد الحر.
وفي قانون مكافحة تهريب النفط ومشتقاته رقم 41 لسنة 2008 مثال على
حالة النكوص عن مبدأ الاقتصاد الحر الذي أشير إليه في الدستور وعلى وفق
ما تقدم بيانه، إذ تدخلت الدولة في تفاصيل من الممكن ان يكون للقطاع
الخاص دور في توفير هذه الخدمة، والقانون أعلاه تضمن خروقات أخرى تتعلق
بمبادئ حقوق الإنسان التي ورد ذكرها في الدستور، وهذا القانون يدخل ضمن
مفهوم قوانين الجرائم الاقتصادية، إذ ورد في أسبابه الموجبة إن تهريب
النفط يعد من الجرائم الاقتصادية، وهذا التسبيب ينطوي على آثار خطيرة
منها إن مجال الجرائم الاقتصادية يتسع فيه التفويض التشريعي ويقتصر دور
المشرع على إصدار نصوص على بياض ويعهد بها إلى السلطة التنفيذية لملئها
على وفق قناعتها وهذا ما ذكره الدكتور فخري عبدالرزاق الحديثي في كتابه
الموسوم (قانون العقوبات ـ الجرائم الاقتصادية ـ منشورات جامعة بغداد
عام 1981 ـ ص96).
وفي هذا الباب كان لقانون مكافحة تهريب النفط ومشتقاته دور في منح
الحكومة سلطة تقديرية تجاه أي حالة تشتهي أن توقع بها، والمشرع العراقي
أعطى من حيث يعلم أو لا يعلم سلاح بيد الحكومة لحماية فشلها في توفير
الخدمات إلى المواطن لان من واجباتها توفير المشتقات النفطية بالكميات
التي تسد الحاجة اليومية للمواطن وفي حال الوفرة تنعدم فكرة المضاربة
والتهريب لان قانون العرض والطلب في السوق هو الفاعل، مثلما وفر لها
فرصة الإيقاع بالآخر لان القانون فيه مجال يتسع لكل ما يدور في الأذهان
حتى مركبتك الصغيرة من الممكن أن تعتبر وسيلة تهريب والجهة التي تحدد
ذلك لجنة فنية تابعة إلى السلطة التنفيذية على وفق حكم المادة (7) من
القانون التي منحت وزير المالية والنفط سلطة إصدار التعليمات.
وفي التطبيق اليومي في المحاكم نجد إن الأجهزة التنفيذية تضبط
عشرات المركبات تحت وازع التهريب مع إن اغلبها لا يعد تهريبا لكن مشيئة
التنفيذي أن تكون وسيلة تهريب ومن الأمثلة على ذلك ضبط مركبة حمل
(تريلة) محملة بمادة الحنطة وإحالتها إلى المحاكم على إنها من المركبات
التي تعتبر من وسائل التهريب المشتقات النفطية، وحيث إن القانون قد غل
يد القضاء في الإفراج او إخلاء سبيل السائق أو الحائز للمركبة إلا بعد
إكمال التحقيق وإحالته المحكمة الكمركية على وفق حكم الفقرة (أولا) من
المادة (2) من القانون أعلاه التي جاء فيها الآتي (يحال على المحكمة
الكمركية سائق المركبة أو الزورق أو ربان السفينة و مستخدمو وسائط
النقل الأخرى ومن إشترك معهم في إرتكاب الجريمة ممن يتم ضبطهم بموجب
أحكام هذا القانون، ولا يطلق سراحهم في مرحلتي التحقيق والمحاكمة إلا
بعد صدور حكم بات في الدعوى).
ومهما اجتهد القضاء لحسم التحقيق فانه لا ينتهي إلا بمدد ليست
بالقصيرة تجاه حرية المواطن وفي ذلك مخالفة دستورية لان المتهم برئ حتى
تثبت إدانته على وفق حكم الفقرة (خامسا) من المادة (19) من الدستور
وانه يبقى كأي مواطن اعتيادي ولا يجوز حبسه أو توقيفه إلا بمقتضى
القانون أو بأمر قضائي فان القانون أعلاه تعدى على هذا الحق بان منح
السلطة التنفيذية سلطة الضبط دون قرار قضائي على وفق حكم الفقرة (
رابعا ) من المادة (5) من القانون التي جاء فيها الآتي (تتولى الأجهزة
الأمنية المختصة والهيئة العامة للكمارك مهمة ضبط النفط ومشتقاته المعد
للتهريب من قبل المتهمين وحجز المركبة أو أية واسطة نقل مستخدمة،
وتحويل المجرمين الى المحكمة الخاصة لإتخاذ الإجراءات القانونية
اللاحقة بشأنهم.) وبما انا وضعنا هذا القانون مثلا للقوانين التي تجرم
النشاط الاقتصادي لا بأس من ذكر الأخطاء التي وردت فيه، إذ ذكر كلمة
مجرم على المتهم بالقضية علما إن المتهم برئ حتى تثبت إدانته على وفق
ما ذكر آنفا وتوصيفه بالمجرم قبل ثبوت التهمة يعد خرق لحقه في السمعة
وعدم مراعاة لحقوقه الإنسانية الأخرى، كما وجدت عبارة (المحكمة الخاصة)
في القانون وعلى وفق حكم الفقرة (رابعا) من المادة (5) من القانون وحيث
إن الدستور منع تشكيل المحاكم الخاصة على وفق حكم المادة (95) من
الدستور، لذلك فان الصياغة للقانون لم تكن موفقة إذ بإمكان المشرع أن
يسميها بالمحكمة المختصة.
ومن خلال ما تقدم نجد إن المشرع عند تشريعه للنص القانوني لم يتلمس
المبادئ الدستورية تجاه الفكر الاقتصادي الذي يختطه للبلد فضلا عن
القصور في المعرفة الصياغية في فن وعلم الصياغة التشريعية، واني إذ أرى
بان القانون كان تبريرا لفشل في توفير الخدمة للمواطن ونقل العبء على
عاتقه ووضعه موضع الاتهام ولم يكن تنظيم لعمل الحكومة تجاه توفير
الخدمة، لان فعل التهريب لا يحدث في داخل حدود الدولة الواحدة وإنما
يكون بين دولة وأخرى إذ لا يمكن تصور تهريب منتج او سلعة من بغداد إلى
بابل لأنهم في إقليم الدولة الواحدة والموطنين فيها من مواطني البلد
الواحد، وتعرف جريمة التهريب في فقه القانون الجنائي بانها نقل البضائع
والاشخاص بين الدول دون موافقة السلطات فيها وتعرف ايضا بانها ادخال
واخراج السلع والبضائع عبر الحدود بطريقة غير شرعية وعدم دفع الضريبة
الجمركية ومخالفة النظم المعمول بها وفي قانون الكمارك العراقي رقم 23
لسنة 1984 المعدل حدد الخط الكمركي الذي يعد الفيصل في تحديد فعل
التهريب وعلى وفق حكم الفقرة (الحادية عشر) من المادة (1) من القانون
أعلاه والتي جعلت خط الحدود السياسية للجمهورية العراقية مع البلدان
المجاورة هو الخط الكمركي، وبذلك فان أي انتقال للبضاعة داخل الخط
الكمركي لا يعد جريمة تهريب كما عرفته بعض الاتفاقيات الدولية ومنها
بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، المكمِّل
لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية الصادر
سنة 2000 الذي عرف تهريب المهاجرين بأنه ( تدبير الدخول غير المشروع
لشخص ما إلى دولة طرف ليس ذلك الشخص من رعاياها أو من المقيمين
الدائمين فيها، وذلك من أجل الحصول، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على
منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى) ويشير الى الانتقال بين الدول، لكن
المشرع العراقي ما زال وريث العقلية الشمولية التي كانت سائدة في
العراق في مرحلة ما قبل عام 2003 ولا يقبل ان يضع نفسه في نطاق التقصير
وإنما يلقي بأعبائه على المواطن.
وبعد ذلك أرى أن يلتفت المشرع العراقي إلى هذا القانون لتعديله بما
ينسجم والتوجه الدستوري وحقوق الإنسان والصياغة القانونية الصحيحة
للحفاظ على الحقوق وصيانتها. |