نهاية عقود الحياد

رؤية الى مستقبل حركة دول عدم الانحياز

أ. محمد بن سعيد الفطيسي

من خلال نظرة تاريخية مختصرة على مفهوم ومصطلح ونشأة حركة دول عدم الانحياز يتبين لنا ان هذا المفهوم ولد نتيجة التحولات والمتغيرات والظروف الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم في ذلك الوقت الى معسكرين تتجاذبهما الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي السابق، والذي افرز بدوره تخوف الكثير من الدول حول العالم من الزج بها في أتون حرب عالمية ثالثة بين القطبين السابقين، فيما أطلق عليه لاحقا بالحرب الباردة، ورغبتها – أي – تلك الدول في البقاء بعيدا عن تلك التجاذبات والصراعات والمشادات بين القطبين، والتفرغ للتعمير والبناء والتطوير والمحافظة على استقلالها.

 ومن هذا المنطلق وتلك الرؤية نستطيع ان نستنتج ان معنى مصطلح ومفهوم عدم الانحياز، والذي أفرزته الظروف التاريخية سالفة الذكر يعني: انه موقف تتخذه دولة ما لتبقى بعيدة عن الصراعات او التجاذبات التي يمكن ان تزج بها في حرب ما، ويعني كذلك: موقف تبقى بموجبه خارجة عن نطاق حرب بين دولتين او فريقين او أكثر، وهو ما يعني بدوره بقاء تلك الدولة في حالة سلم في علاقاتها السياسية مع جميع أطراف الصراع، وعلى ذلك تشكلت أهم أهداف حركة عدم الانحياز كما بلورتها المؤتمرات الأولى للحركة في حرصها على التعايش السلمي بعيدا عن إبرام أحلاف عسكرية سواء أكانت جماعية أو ثنائية.

 وبالنظر الى حال واقع هذا المفهوم اليوم من خلال نظرة سريعة على وضع الدول التي تنضوي تحت جناحه عالميا في ظل المتغيرات والتحولات الدولية وضربات العولمة والحرب الكونية على الإرهاب وازدواجية معايير التدخل الإنساني والمصالح العابرة للقارات وتغيير فلسفات ونظريات الصراع الدولية وخلافه، والتي فأقمت من التعقيدات الأيديولوجية للحركة، وهو ما أدى بدوره الى تزايد مساحة الخلافات الداخلية بين أعضاءها بسبب تكوينها غير المتجانس، أو بسبب ضغوط القوى الكبرى عليها، والذي افرز بدوره ظهور العديد من التناقضات بين المصالح الفردية لدول حركة عدم الانحياز.

 وهو ما يؤكد لنا بان هذا المفهوم وبالرغم من بقاء أصوله النظرية والفلسفية، إلا أن الواقع يشير الى موته إكلينيكيا او سريريا من الناحية التطبيقية منذ فترات طويلة، والدليل على ذلك ان العديد من دول حركة عدم الانحياز اليوم لم تقدر ان تنأى بنفسها عن صراعات وتجاذبات الدول الكبرى، وهو ما زج بها عن قصد او عن غير قصد في اللعبة الدولية التي أرادت أن تتحاشاها من خلال تبنيها لمفهوم حركة عدم الانحياز.

 فنادرا جدا بالنسبة لأي دولة ان تتمتع بالحرية الكاملة او الاستقلال الكامل، او الاستقرار الكامل، فاغلب دول العالم اليوم بمن فيها القوى الكبرى لا تملك سيادتها الكاملة على قراراتها الداخلية، فكيف بها بالقرار السياسي الخارجي؟! – وبمعنى آخر – ان جميع دول العالم اليوم بلا استثناء ومهما حاولت الابتعاد عن الصدامات التي تتسبب بها التحولات والتجاذبات العابرة للقارات في السياسة الدولية، فإنها لن تستطيع ذلك، وشخصيا أشبه ذلك الوضع بشخص يقود سيارته دون أخطاء، ولكن في نفس الوقت لا يمكن ان يضمن أخطاء الآخرين التي يمكن ان ترتكب في حقه، وبالتالي يمكن ان تتسبب له بمشاكل لم يكن له يد فيها.

 كما انه وبنظرة تاريخية على مسيرة تلك الحركة منذ قيامها وحتى اللحظة الراهنة، نجد العديد من المؤشرات والدلائل على ان العديد من دولها او أعضاءها متحيزين لقضايا وأعضاء وتكتلات معينة، بل أنها متحيزة لبعض أعضاءها دون البعض الآخر (ففي أسيا – على سبيل المثال لا الحصر - كانت مشكلة كمبوديا والتي احتلتها دولة من دول عدم الانحياز وهي فيتنام، إلا أن الحركة لم يكن لها موقفاً يدين ذلك الاحتلال، كذلك كانت مشكلة أفغانستان وهي دولة من دول عدم الانحياز وقد احتلتها القوات السوفيتية، إلا أنه وضح اختلاف الرؤى والتوجهات حول أسلوب تناول المشكلة، أما في منطقة الشرق الأوسط فكان هناك القضية الفلسطينية ومشكلة لبنان والصراع الإيراني العراقي وكلاهما من دول عدم الانحياز، إلا أن المساعي التي بذلتها دول الحركة كانت محدودة، خاصة بعد أن رفضت إيران أي جهود وساطة من حركة عدم الانحياز) وهذه الأمثلة هي على سبيل المثال وليس الحصر.

 وهو ما يعني بصيغة أخرى، من ان أي دولة وان حاولت عزل نفسها عن الآخرين وصراعاتهم، فان تلك الدول لن تتركها في حالها، فالجسم الدولي كتلة واحدة يتداعى بأكمله في حال تعرضه لأي أزمة سياسية كانت او اقتصادية، فأزماتنا اليوم أزمات عابرة للقارات وقابلة للتصدير الى مختلف أرجاء العالم، فالدول (كلها تعيش في بيئة دولية كبيرة، لذلك فان تصرف أي دولة يؤثر في الدول الأخرى، وإذا كان هذا صحيحا في الماضي فقد أصبح الآن واضحا وجليا ويحس به كل الناس تقريبا بسبب التطورات التي حدثت في مجالات الثورة الاتصالاتية، والتأثير والتأثر بين الدول أصبح كبيرا جدا، وهذا ما يسمى بالمفهوم السياسي " بمنطق الاعتمادية " والتي تعني ان ما تفعله امة ما يؤثر في باقي الأمم في النظام ذاته).

 وهنا نطرح الأسئلة التالية، والتي يمكن من خلالها ان تتضح لنا تلك الرؤية بشكل أكثر وضوح حيال نهاية عقود الحياد الدولي او مفهوم عدم الانحياز او خلافه من المفاهيم التي تصور إمكانية بقاء بعض الدول التي تحاول النأي بنفسها بعيدا عن دائرة الصراعات والتجاذبات الدولية، فعلى سبيل المثال: هل تمكنت دول عدم الانحياز من التملص او عدم المشاركة في الحرب العالمية الكبرى على الإرهاب؟ وهي –أي – تلك الحرب التي ندرك جميعا بأنها توجه بواسطة أزرار أمريكية وبحسب مفاهيم اميريكية، والتي أدخلت مختلف دول العالم بطريقة او بأخرى في حرب لا نهاية لها ضد العديد من القوى الدولية والمنظمات التي أطلقت عليها الولايات المتحدة بمفهومها بالمنظمات الإرهابية.

 وماذا يعني وجود قواعد عسكرية للقوى الدولية كروسيا والولايات المتحدة الاميركية في العديد من دول عدم الانحياز؟ ماذا يعني انحياز بعض دول عدم الانحياز الى التكتلات والتحالفات الدولية على حساب دول وأحلاف وتكتلات أخرى؟، وماذا نفهم من وقوف بعض دول حركة عدم الانحياز وتحيزها مع دول بعينها وقضايا معينة ووفق مرئيات متحيزة لفكرة او اتجاه او رؤية من قضايا ثورات الربيع العربي في بعض دول الربيع العربي؟.

 نعم.... هنا تتضح لنا الحقائق جلية ودون لبس وغموض، انه ما من دولة من دول العالم اليوم قادرة على ان تتملص من براثن اللعبة الدولية وتجاذبات مصالح الدول الكبرى التي تشدها وتتجاذبها مهما حاولت ان تقف على جانب من الحياد الايجابي او حتى السلبي او عدم الانحياز لطرف على حساب طرف آخر كما تدعي او تسعى جاهدة لتحقيق ذلك، لأن الغالبية الساحقة من كتلة الدول الأعضاء هي منحازة شاءت أم أبَت سياسيا او عسكريا او اقتصاديا او حتى ثقافيا او إعلاميا.

 وكما ولد هذا المفهوم في بيئة معينة ونتيجة ظروف معينة في فترة معينة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فان هذا المفهوم لم يعد ممكنا تحقيقه او تطبيقه بشكل كامل في بيئة دولية جديدة او في ظل الظروف والتحولات السياسية والاقتصادية والإعلامية الدولية الراهنة في القرن 21، والتي تفرض على جميع دول العالم الاختيار و الانحياز الى قضية او الى طرف على حساب طرف آخر بطريقة مباشرة او غير مباشرة، فإذا لم يكن ذلك التحيز لحساب مصلحة طرف ما، فانه على اقل تقدير تحيز لمصالح الدولة نفسها على حساب بقية أطراف الصراع في اللعبة السياسية الدولية.

 ونحن وان كنا لا ندفع باتجاه التخلي الكامل عن هذا المبدأ او الاتجاه السياسي في العلاقات الدولية، لنؤكد على ان الضغوط والتجارب السياسية والاقتصادية والثقافية التي ستتعرض لها مختلف دول حركة عدم الانحياز وخصوصا الدول العربية خلال السنوات المتبقية من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وفي ظل العديد من القضايا الدولية الشائكة والعالقة ستثبت صحة مقولة " نهاية عقود الحياد او عدم الانحياز " على حساب " التحيز والانحياز "، والذي يفرض بدوره ضرورة الاستعداد النفسي والسياسي والثقافي لتقبل فكرة التحيز و المشاركة المباشرة او غير المباشرة في الصراعات والتجاذبات الدولية العابرة للقارات.

* رئيس تحرير مجلة السياسي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 17/نيسان/2012 - 26/جمادى الأولى/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م