الربيع العربي الذي انهمرت عليه امطار التغيير بدء من أول قطرة
(بوعزيزي) في تونس لتجري رياح التغيير الى الدول العربية الأخرى، شكَل
صدمة كبيرة للحكومات الدكتاتورية ومفاجأة غير متوقعة للدول الغربية،
هذه الانعطافة عبرت بشكل صريح عن مدى تشارك الشعوب في مظلوميتها وأظهرت
بما لا يقبل الشك صور الحكومات الفاشية والفاسدة التي لم تدخر جهدا
ووسيلة إلا واستخدمتها للبقاء في عروشها ولو كان على حساب انهر من دماء
الأبرياء.
وبعد مرور اكثر من عام على بداية ذلك الربيع، ظهر مخاوف لدى الشعوب
العربية والمراقبين من احتمالية تحول مسار ذلك الربيع الدافئ الى صيف (جاف)
وطويل مرة أخرى، هذه المخاوف ظهرت وبشكل لافت بعد السير المتخبط والنمو
البطيء والضبابية وعدم الوضوح في الدول التي طالها التغيير، سواء كان
ذلك بتدخل خارجي لوقف حركة التغيير او بطبيعة ذاتية فان كلا الحالتين
تسير الى نتيجة واحدة.
وهناك أسباب عدة لظهور هذه المخاوف أهمها:
1- الانفلات الأمني والفوضى التي تحدث غالبا في الدول التي يطالها
التغيير، في وقت يحاول اغلب الحكومات رفد سوق التخريب والفوضى بكل ما
لديه من وسائل وجعلها مصد رياح دون نهاية حكمها.
2- محاولة انهاك الشعوب الطالبة للتغيير عن طريق إطالة أمد التحول
او التقليل من نتائجه الايجابية إضافة الى التحريض على الحروب الداخلية،
وبذر الانشقاقات بشكل قومي او طائفي، بشكل يوحي لأغلب الشعوب بان
البقاء تحت سياط الدكتاتورية أفضل من مذابح الحرية والفوضى والانفلات.
3- العمل العشوائي للكتل السياسية البديلة للأنظمة السابقة
واحتوائها خليطا غير متجانس يتبادل اغلبها العداء والحقد والتنافر
والتحريض.
4- فقدان البدلاء السياسيين لرؤية بناء الدولة وتركز جهودهم على
أحكام القبضة على السلطة معتمدين على نظام محاصصة طائفية او سياسية،
وغير مكترثين بعامل الرأي العام ودوره في وصولهم للسلطة.
5- عدم ظهور بوادر الدولة المدنية والمؤسساتية بشكل واضح في الدول
العربية التي شهدت التغيير رغم قناعة الجميع بضرورة التخلص من نظم
فاسدة وفاشلة، لم تستطع خلال قرون تقديم اي شيء لدولها.
6- خلق جهات معادية للتغيير، نتيجة وجود أخطاء بطرق التغيير وأساليب
التعبير أدت الى ظهور طبقات غير متحفزة للتعاون مع الوضع الجديد، ورأت
في الوضع السابق حالا أفضل مما عليه الآن.
7- إثارة الشحن الطائفي من خلال محاولة بعض الحكومات الفاسدة تصوير
الربيع العربي على انه موجة طائفية قادمة من دول معينة الغاية منها ضرب
الطائفة التي يحاول الحاكم او الملك التشبث بالانتماء اليها، وتصوير
المعركة على أنها بين طائفتين لا بين شعب مضطهد وحاكم فاسد.
8- دور بعض القنوات الإعلامية الموجه في تصنيف الثورات، بحسب
البلدان لمحاولة زجها في أتون حرب أهلية واقتتال داخلي لصرف الأنظار عن
الهدف الأسمى وهو التحرر من قبضة الدكتاتورية، ففي سوريا يحاول الأغلب
وصف الحالة بأنها حرب سنية ضد طائفة علوية، فيما تكون الصورة معكوسة في
البحرين حيث يصورون مطالب الشعب البحريني المشروعة بأنها ثورة شيعية ضد
طائفة سنية وهكذا دواليك.
9- التدخل الواضح من قبل أطراف دولية فاعلة في الساحة العربية
لإعطاء صورة باهتة عن التغيير العربي والدفع لإيجاد موانع وعوائق
لاستمرارية الربيع العربي، ومحاولة إقناع باقي شعوب المنطقة بعدم
المسير بنفس المسلك مع حكوماتها كون اغلب تلك الأنظمة القائمة تنتمي
الى معسكر تلك الدول الغربية وتغييرها يعني ضياع مكسب اقتصادي وسياسي
كبير لتلك الدول الكبرى.
10- عجز واضح للسلطة القضائية في اغلب دول المنطقة في مكافحة الفساد
والقصاص او محاسبة المتورطين بدماء الأبرياء وخصوصا المشاركين في
تظاهرات التغيير، او تمييع القضايا الكبرى ولو كانت بمستوى جرائم
الرؤساء او من على شاكلتهم.
فترات التغيير لا تأتي على فواصل زمنية قريبة بل إنها قد تستغرق
قرونا طويلة كي تثمر مثلما أنتجته الشعوب في الوقت الحاضر وفقدان زخمها
يعني ضياع فرصة كبيرة في إحداث التغيير المنشود في خلق دول مدنية
دستورية حقيقية ومؤسسات مهنية بعد سنوات عجاف من حكومات لم تكن تخلق
سوى الأزمات، وكان دورها لا يتعدّى دور المحافظ على الأمن الخاص بها،
عن طريق كبت الشعوب وسحق حركات التمرد أو الثورة، طمعاً في البقاء في
سلطاتها أطول فترة ممكنة.
من جانبها كان بإمكان قوى المعارضة والحركات السياسية المناوئة
للأنظمة أن تكون بمستوى أفضل من حيث استغلال هذا الجو المهيأ لقيام
حكومات كفوءة تعطي نموذجا يقتدى به، وبناء جسور الثقة فيما بينها عن
طريق التخفيف من غلواء شروطهم على الطرف الآخر، في خضم الصراع على
البقاء في السلطة، أو محاولة الوصول إليها عن طريق انتزاعها من الطرف
الآخر.
فبين سوء أداء المعارضة وعشوائيتها وفساد وتهري منظومة الحكومات
الحالية بقيت الشعوب في حيرة من أمرها فالأخيرة أيقنت بان لا جدوى من
البقاء على وضعها الحالي المزري حتى تلك التي تعيش أوضاع اقتصادية جيدة
إلا إنها في حقيقة الأمر تعيش حياة لا كرامة فيها تحت رحمة ملوك
وسلاطين للفساد ورعاة الإرهاب الحكومي والبقاء على دولة العسكر والنظام
البوليسي إنما هو العيش في سجن كبير ولو كان بحجم دولة.
ومن جانب آخر فالطريق الربيعي لن يكون ورديا ولا نزهة للتغيير بل
إنه بدا يتعقد يوما بعد آخر، وهو يمر اليوم بمنعطف خطير يتمثل في
إمكانية استمراره او ذبوله وتلاشيه، وإذا ما انتهى بحجمه الحالية فهذا
يعني بقاء الخريطة السياسية للعسكر القديم بحالها، ولن يكون هنالك
تأثير كبير في ما جرى من تغييرات في بعض الدول على المنطقة برمتها كون
أقطاب المنطقة الأخرى لم تتأثر بهذه الموجة.
لذا فان الجميع اليوم يتحمل مسؤولية تضامنية مشتركة سواء حركات
معارضة او جهات دينية او مؤسسات مجتمع مدني أو إعلام حر مهني في الحفاظ
على ديمومة واستمرارية (ربيع المظلومين)، وعلينا أن لا نقف متفرجين او
بالضد منه حتى وان كنا نختلف مع بعضه بطرق وأساليب التعبير لكننا نتفق
جميعا بان التغيير يجب أن يطال كل فساد ودكتاتورية، بغض النظر عن
انتماء هذا الحاكم أو تلك الحكومة ويجب أن لا نصنف ولا نميز ولا نلون
حركات التغيير بألوان طائفية أو قومية او عرقية فالجميع بني الإنسان
ومن حقه ان يقرر كيف يعيش وأي الطرق يسلك.
إننا نؤمن بان طريقة التوريث والملوكية وحكومات الانقلابات
والعسكرة هي من جرت الويلات على بلدان المنطقة وجعلت شعوبها من أفقر
دول العالم رغم إمكانياتها الهائلة، فالشعوب اليوم بحاجة أكثر من أي
وقت مضى للمشاركة في بناء بلدانها وإسماع صوتها والإصغاء له، إما طريقة
سياط الدكتاتورية والدولة البوليسية فقد أثبتت فشلها وان بقيت فترة من
الزمن إلا إنها في حقيقة الأمر بناء هش ونظام قلق لا يبني الإنسان ولا
يضمن لأي شخص بقاء في سلطة، لذا فان الربيع العربي ظاهرة صحية يجب ان
لا توأد ولا تترك لتذبل دون قطف ثمارها، وعدم جرها الى العنف والعسكرة
من أهم المقدمات لذلك.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |