دون الخوض بدقة وموضوعية المسميات التي تم إطلاقها على ما يجري في
بعض الدول العربية منذ يناير 2011 حتى اليوم، إن كانت ثورات أم
احتجاجات شعبية أم ربيع عربي أم مؤامرة خارجية تهيء لفوضى تؤسس للشرق
الأوسط الكبير الذي بشرت به واشنطن... فإن هناك شيئا جديدا يتشكل في
العالم العربي يؤثر ويتأثر بدول الجوار وباستراتيجية دول عظمى، أهم
سمات هذا الجديد دخول الحشود الشعبية الكبيرة بقوة في الحدث السياسي
وتزعزع هيبة الدولة والسلطة بل ثوابت الدولة في أكثر من حالة عربية،
بالإضافة إلى الحضور المكثف للإسلام السياسي في إطار علاقة شبه تحالفية
مع واشنطن.
كل متابع لما يجري تحت عنوان (الربيع العربي) سيلاحظ ما يشبه
المفارقة بين ما أوحت به كلمة ثورة أو ربيع عربي في بداية الأحداث
وواقع ما آلت إليه الأمور اليوم. في بداية التحركات الشعبية كان سقف
التوقعات والمراهنات الشعبية والآمال الكبيرة وحالة الفرح والحماس التي
كانت تسود الشارع العربي خلال الأيام الأولى للثورات العربية عالية جدا
في مقابل حالة من الخوف والقلق سادت الانظمة التي لم تشهد تحركات شعبية
واسعة وكذلك خوف وقلق إسرائيل وواشنطن، ولكن، بعد أشهر وقبل أن يطبق
العام تراجع التفاؤل والامل خصوصا بعد تدخل الأطلسي في ليبيا والحرب
الاهلية المندلعة فيها، ومع تداعيات الاحداث في سوريا، وبعد وصول
جماعات الإسلام السياسي للسلطة في الدول التي حدثت فيها الثورة وما
صاحب ذلك من أزمات أمنية واقتصادية وسياسية....
محل الفرح والتفاؤل بالثورة تسود اليوم عند الشعوب العربية خاصة (شعوب
الثورات) حالة من القلق والخوف وانعدام الثقة بالثورة ومن ركب موجتها،
وعند الشعوب التي لم تشهد ثورات تراجعت الدافعية عندها للقيام بالثورة
وفضلت الدخول بتفاهمات مع الأنظمة القائمة في إطار إصلاحات تدرجية.
الخوف من الآتي هو سمة المرحلة في بلدان (الثورة ) ليس فقط الخوف على
مستقبل الأوضاع المعيشية للمواطن بل على مستقبل الدولة والوحدة الوطنية،
من تونس وليبيا إلى مصر وسوريا والبحرين. بالإضافة إلى القلق الخاص
بالفلسطينيين الذين راهنوا كثيرا على هذه الثورات لتعيد صياغة العلاقة
المجحفة التي كانت تربط النظام السياسي العربي الرسمي بإسرائيل
وحليفتها واشنطن.
لا شك أنه من السابق لأوانه إصدار احكام قاطعة ونهائية حول نجاح أو
فشل الثورات، لأن الثورة ليست شعارات تُرفع أو مجرد خروج الناس للشارع،
وليست أيضا سقوط رأس النظام، بل هي عملية تاريخية مركبة ومعقدة تستغرق
وقتا حتى تظهر كل مفاعيلها وحتى يمكن الحكم إن كانت الثورة ناجحة أم
فاشلة. ولكن، طبيعة القوى السياسية الجديدة التي تتولى مقاليد السلطة
مباشرة بعد بدء الثورة وخلال المرحلة الانتقالية، وطبيعة برامجها سواء
فيما يتعلق بالاوضاع الٌاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية،
وطبيعة علاقتها ببقية مكونات المجتمع، أو تعلق الأمر بتوجهات سياساتها
الخارجية، كل هذا يعطي مؤشرا على مسار الثورة ومستقبل البلد، وخصوصا
بعد مرور سنة على الثورة.
مؤشرات كثيرة باتت جلية في الدول التي شهدت الثورة أو تلك التي ركبت
موجة الثورات ونصَّبت نفسها داعية للثورات وحامية حماها، مؤشرات لا
تبشر بأننا سنشهد قريبا عالما عربيا جديدا يمثل حالة مختلفة كثيرا عن
الحالة السابقة على مستوى السياسات الداخلية او الخارجية. لا يكفي
القول بأن الثورة ما زالت في مرحلتها الاولى وعلينا منح القادة الجدد
وقتا ليطبقوا برامجهم، ولا يكفي الزعم بأن قوى مضادة أو خارجية تتآمر
على الثورة وتمنعها من تحقيق انجازاتها، ولا يجوز القول بما أن جماعات
الإسلام السياسي حازت على أغلبية مريحة في الانتخابات فمن حقها إعادة
تشكيل الدولة والمجتمع كما تريد.
هذه المبررات كان يقول بها كل القادة القدامي – قادة الثورات
والانقلابات والوراثة وتزييف الانتخابات- في بداية حكمهم، وكانوا
يبررون عجزهم وفشلهم وفسادهم بقصر عهدهم بالسلطة أو بهذه القوى
المضادة. الواقع السياسي وعلم السياسة يقولان أنه لم يحدث لا في العالم
العربي ولا في غيره أن غابت المعارضة والتآمر والقوى المتربصة داخليا
وخارجيا عن أي نظام حكم، بل كانت الأنظمة العربية السابقة تتعرض لأعمال
إرهابية وتفجيرات ويتم إلقاء القبض على جواسيس من إسرائيل وغيرها وكانت
توظف هذه الأعمال أو الزعم بوجودها لتبرير قمع المعارضة والتضييق على
الحريات، كما أن الانتخابات تمنح تفويضا مؤقتا وجزئيا للحزب الحاكم.
سبب الخوف والقلق الذي ينتاب الشعوب العربية لا يتأتى من حداثة عهد
الحكام الجدد بالسلطة وغياب التجربة السياسية ووجود معارضين ومناوئين
لحكمهم، بل يتأتى من عدم وضوح جماعات الإسلام السياسي الحاكمة وخصوصا
الإخوان المسلمين ونكثهم بوعودهم ليس فقط وعود وشعارات ما قبل الثورة
الخاصة بالعلاقة مع إسرائيل أو الخاصة بالحفاظ على ثوابت الامة، بل
أيضا تلك التي قالوا بها بداية الثورة ومن أهمها الالتزام بمبدأ
الشراكة السياسية والسلم الاجتماعي ومدنية الدولة وعدم ارتباطهم أو
تبعيتهم لاجندة خارجية وخصوصا واشنطن الخ.
ما يجري في مصر نموذج لهذه المفارقة ولهذه التخوفات – ما يجري في
ليبيا وسوريا يثير تخوفات مختلفة نسبيا -، لأن ما سيجري في مصر ستتعدى
تأثيراته مصر لبقية أنظمة حكم الاخوان وسيكون له تأثير مباشر على
القضية الفلسطينية وخصوصا مستقبل الحكومة في غزة. فأن يسيطر الإخوان
على المجلسين: الشعب والشورى، ويسعون لتغيير الحكومة ليخضعوها لسيطرتهم
ويتقدمون بمرشح للرئاسة ويسيطرون على لجنة صياغة الدستور، ويعلن مرشحهم
للرئاسة خيرت الشاطر بأنه سيطبق الشريعة الإسلامية- والمشكلة ليس في
الشريعة الإسلامية بل في تطبيقها حسب رؤية سياسية حزبية أو أدلجة
الشريعة الإسلامية-، وبعد كل ذلك يتوجهون لواشنطن لطمأنتها، ومن خلال
واشنطن طمأنة إسرائيل، فماذا سيتبقى لشراكة سياسية مع بقية مكونات
المجتمع المصري؟ وما مستقبل العلاقة التي ستحكم مصر الإخوانية مع
واشنطن وحليفتها إسرائيل ؟.
يمكن رصد أهم مفارقات (الربيع العربي) بما يلي:-
أولا: على مستوى الوضع الداخلي لبلدان الثورة:
1- الخوف والقلق على المستقبل محل التفاؤل بمستقبل أفضل.
2- الفوضى وغياب الأمن بدلا من الاستقرار وأمن الناس على حياتهم
وأرزاقهم.
3- تردي الوضع الاقتصادي بدلا من القضاء على الفقر والجوع.
4- زيادة الفتنة الطائفية والجهوية بدلا من وأدها.
5- إعادة النظر بوحدة الامة وثوابتها بدلا من التأكيد عليها
وحمايتها. حيث لا يجوز لكل حزب سياسي يفوز في الانتخابات أن يعيد النظر
بدستور الدولة وبثوابت الأمة بما يتماشى مع أيديولوجية الحزب، وإلا فلن
يكون للأمة ثوابت.
6- تأسيس حكم شمولي بدلا من حكم الديمقراطية والشراكة السياسية على
أساس المواطنة.
ثانيا: على مستوى الوضع العربي العام وعلاقاته الخارجية:
1- زيادة الارتباط بالغرب وخصوصا واشنطن بدلا من التحرر من هيمنته.
2- طمأنة إسرائيل بدلا من زيادة خوفها ورعبها، وهذا ما تجسد في
السنة الأخيرة بممارسات إسرائيلية غير مسبوقة دون أي ردود فعل عربية.
3- تراجع مكانة واهمية العالم العربي والإسلامي بدلا من تعزيز حضوره
دوليا، وإقليميا.
4- تراجع مكانة وأهمية قرارات القمة العربية بدلا من أن تعكس القمة
حالة عالم عربي ثوري جديد، وهو تراجع بان في قمة بغداد الهزيلة.
5- إثباط روح المقاومة لدى الفلسطينيين وخصوصا حركة حماس بدلا من
تأجيجها ودعمها بالمال والسلاح، وهذا ما ظهر من خلال التزام حركة حماس
بالتهدئة مع إسرائيل بطلب من إخوان مصر بالرغم من تزايد العدوان في
الضفة وغزة وتزايد وتيرة تهويد القدس.
6- تراجع القضية الفلسطينية على سلم اهتمامات الأنظمة والشعوب
العربية.
Ibrahemibrach1@gmail.com |