ام سلمة... مثال المرأة المؤمنة

محمد طاهر الصفار

 

شبكة النبأ: لقد نذرت هذه المرأة الطاهرة نفسها وزوجها وولدها لله والإسلام والرسول (ص) وبذلت جهدها في نصرة أهل البيت (ع) والدفاع عن الحق ومقارعة الباطل فكانت أول مهاجرة من أزواج الرسول (ص) وأفضلهن بعد السيدة خديجة (ع) وأشدهن تمسكاً بسنته الشريفة وأكثرهن طاعة لأوامره.

رافقت هذه السيدة الفاضلة النبي (ص) في حياته الحافلة بالأحداث فكانت مثالاً يحتذى به في الحكمة والفضيلة والدين والصدق والإخلاص فجسدت أروع مثال للمرأة المؤمنة آمنت بالدعوة المباركة، وجاهدت وهاجرت في سبيلها فتشرّفت بالزواج من سيد الأنبياء محمد (ص)، وبعد ان خلفها (ص) في من خلف من أمهات المؤمنين بعد ان لحق بالرفيق الأعلى لم تشط عن النهج الذي اختطه الرسول لأزواجه وأمته ولم تتخط السيرة التي فرضها الله ورسوله في كتابه المجيد لأمهات المؤمنين بالخصوص، فنصحت ما استطاعت النصح وأرشدت ما وسعها الإرشاد وأنذرت في مواقع الإنذار.

وكانت في كل ذلك ترجو الهدى لأمة محمد (ص) والتوجه لما يرضي الله ورسوله (ص)، فمضى (ص) وهو عنها راضٍ كأحسن ما تكون عليه الزوجة المخلصة الناصحة، وبعد وفاته (ص) التزمت بوصية الرسول بالتمسك بأهل البيت (ع) حبل الله المتين ولازمت ولاءهم ومودتهم فلم تزج نفسها في أحداث وفتن تغضب الله ورسوله، بل أدّت ما عليها من النصح والإرشاد فكانت مثلاً سامياً للمرأة الصالحة، انها السيدة ام سلمة التي اقتبست من آثار التعاليم الإلهية ونهلت من فيوض الرسالة المحمدية فنالت درجات رفيعة في الإيمان والتفقه في الدين وحفظ الحديث الشريف.

ولدت هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرة بن مخزوم في بيت يعد سنام المجد من بني مخزوم، فقد كان ابوها يلقّب بزاد الراكب لجوده وفيض يده فكان إذا سافر لم يترك لأحدٍ من رفقته أن يحمل معه زاداً بل كان يكفيهم جميعاً مؤونة أنفسهم ويحمل الزاد عنهم، أما امها فهي عاتكة بنت عامر بن مال الكنانية من بني فراس المعروفين بالبطولة والشجاعة فكانت هند-ام سلمة- من أشرف نساء العرب نسباً وأكرمهن أصلاً لما بلغت هند مبلغ النساء تزوجها ابن عمها ابو سلمة عبد الله بن عبد الاسد بن المغيرة المخزومي ابن عمة رسول الله (ص) برّة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاع.

وكانت حياة ام سلمة في كنف هذا الصحابي الجليل حياة مشاركة وجدانية ومحبة وانسجام في الطباع والأخلاق فعاشا كأحسن ما تكون عليه العلاقة الزوجية وعندما ظهرت دعوة الحق بالوحي واعلن الرسول رسالته السماوية المقدسة.

كان ابو سلمة من اوائل المستجيبين لهذه الدعوة المباركة وصدراً من صدور السابقين الاولين الذين استجابوا لنداء الإسلام، وكانت معه زوجته ام سلمة فتحمّلا كثيراً من أذى المشركين في جنب الله، وحينما أذن الرسول (ص) للمسلمين بالهجرة الى الحبشة كان في طليعتهم ابو سلمة وزوجته فتحملا المشاق مع بقية المسلمين في هجرتهم وهناك في الحبشة يرزق ابو سلمة وزوجته مولودهما الاول ويسمع المسلمون وهم في الحبشة بأن قريشاً قد تركت أذى المسلمين وأطلقت لهم الحرية في اداء رسالتهم فعادوا الى مكة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فقريش زادت في عتوها وتجبرها وكفرها بالإسلام وشددت الاذى على المسلمين وزادت في تعذيبها لهم وكادت أن تأخذ ابا سلمة، لولا انه استجار بأبي طالب ولاذ به فاستظل بظل سيد قريش وشيخ بني هاشم وعم الرسول وحصنه المنيع فمشى اليه رجال من مخزوم فقالوا: يا أبا طالب منعت منا ابن اخيك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا؟ فقال ابو طالب: انه استجار بي وهو ابن اختي وإن انا لم امنع ابن اختي لم امنع ابن أخي وحينما هاجر الرسول (ص) من مكة الى المدينة المنورة استجاب ابو سلمة لأوامر الرسول وعقد عزمه على الهجرة مع زوجته وابنه سلمة وتقف قريش مرة اخرى حائلاً بينه وبين الهجرة ونترك الحديث عن ذلك لأم سلمة لتحدثنا عن هجرتها مع زوجها وابنها فتقول: لما أجمع ابو سلمة الخروج الى المدينة رحّل بعيراً له وحملني وحمل معي ابني سلمة ثم خرج يقود بعيره فلما رآه رجال من بني مخزوم قاموا اليه وقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه على مَ نتركك تسير بها في البلاد ونزعوا خطام البعير من يده واخذوني، فغضب عن ذلك بنو عبد الاسد وأهووا الى سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها اذا نزعتموها من صاحبنا، وتواصل ام مسلمة في اكمال قصتها المؤلمة فتقول: فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به بنوا عبد الاسد ورهط ابي سلمة وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي ابو سلمة حتى لحق بالمدينة ففُرّق بيني وبين زوجي وابني، فكنت اخرج كل غداة واجلس بالابطح فما ازال أبكي حتى أمسي سبعاً او قريبها حتى مرّ بي رجل من بني عمي، فرأى ما في وجهي فقال لبني مخزوم: ألا تخرجون من هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها، فقالوا: إلحقي بزوجك إن شئت وردّ عليّ بنوا عبد الاسد ابني فرحلت ببعيري ووضعت ابني في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي احد من خلق الله فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن ابي طلحة أخا بني عبد الدار فقال: أي انت يا بنت أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي، فقال: هل معك احد؟ فقلت: لا والله إلا الله وابني هذا فأخذ خطام البعير وانطلق معي يقودني فوالله ما صبحت رجلاً من العرب كان اكرم منه فإذا نزل المنزل أناخ بي ثم تنحى الى شجرة فاضطجع تحتها فإذا اردنا الرواح قام الى بعيري قدمه ورحّله ثم استأخر عني وقال: اركبي فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى نزلت فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي الى المدينة فلما نظر القرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: ان زوجك في هذه القرية وكان ابو سلمة نازلاً بها فدخلتها على بركة الله تعالى ثم انصرف راجعاً الى مكة).

هذه القصة التي جاءت على لسان ام سلمة تكشف المصاعب التي لاقتها في سبيل الله ونصرة الاسلام ومن كان مع الله كان الله معه فهيأ الله لها من اوصلها سالمة غانمة الى مدينة الرسول (ص) والى لقاء زوجها ابي سلمة.

كان ابو سلمة من ابطال المسلمين الذين أبلوا احسن البلاء في معركة بدر ثم اشترك في احد وفيها اصيب بسهم فجرحه جرحاً بليغاً وبقي شهراً يداوي نفسه حتى ظن انه بريء منه فعاود مشاركة المسلمين في جهادهم ضد الكفار فيرسله النبي (ص) على رأس جيش تعداده مائة وخمسون لقتال العدو وفي خضم جهاده يشعر بأن الآلام تعاوده من جراحة أحد التي ظنها قد أنملت فلزم الفراش واشتدت به العلّة حتى فاضت روحه الطاهرة بين يدي زوجته ام سلمة ودخل عليها رسول الله (ص) يعزيها فقال: اللهم عز حزنها واجبر مصيبتها وابدلها خيراً منها ولم يكد ابو سلمة يواري الثرى حتى انفتق جرح قلب ام سلمة فقد فقدت قيّمها ومعيلها ورغم ذلك فقد رفضت كل من تقدّم لخطبتها ثم خطبها رسول الله (ص) ليعيل ابناءها ويحفظ أبا سلمة في ذريته فوافقت.

لقد وجدت ام سلمة من يواسيها في محنتها ويخفف عنها كربتها ويعزيها عن مصيبتها تقول: فتزوجني رسول الله (ص) وأدخلني بيت زين بنت خزيمة (ام المساكين) بعد أن ماتت فإذا جرّة فيها شيء من شعير واذا رحى وبرمة وقدر وكعب فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة واخذت الكعب فأدمته فكان ذلك طعام رسول الله وطعام اهله.

في هذا الزهد والتقشّف في الحياة والشظف في العيش عاشت ام سلمة لكن ذلك البيت النبوي اكسبها من اخلاق النبوة وخصائص الرسالة ما جعلها امرأة نادرة المثال راسخة الإيمان ثابتة اليقين في وقت تملّكت النوازع النفسية الانانية بعض ازواج النبي في كثير من الحالات وتأثرهن بالعوامل والظروف، لكن ام سلمة كانت تنظر الى الحوادث بعين البصيرة مجردة من هوى النفس وأبى عليها عقلها الكبير وبصيرتها النافذة أن تدخل فيما دخلن فيه رفيقاتها من خصومة وتنافر ومكايدة فقد سلكت الى الحقيقة طريقها الصحيح، فأحبت ما يحبه الله ورسوله وأبغضت ما يبغضه الله ورسوله فاستيقنت ان النبي يحب علياً فأحبته ووالته وناصرته ورأته يوصي الى علي فشايعته ووكدت نفسها على طاعته وقد سمعت من حديث سول الله وحفظت ما فيه الهداية الى الصراط المستقيم بالتمسك بأهل البيت (ع)، وكانت حريصة على ان لا يفوتها شيء من حديث النبي (ص) وروى الذهبي ان احاديثها بلغت (378) حديثاً وروى عنها الكثير من الصحابة والتابعين.

فممن روى عنها من الصحابة ابن عباس وعائشة وأبو سعيد الخدري وقصيبة بن ذؤيب وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام واسامة بن زيد وغيرهم، اما ابرز من روى عنها من التابعين اولادها عمر وزينب وأخوها عامر بن امية ومواليها عبد الله بن رافع ونافع وسفينة وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب والشعب وغيرهم.

ومن جملة ما روته ام سلمة حديث الكساء المشهور كما روت أحاديث الرسول في حق امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) منها قوله (ص) لعلي (ع): (يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) وقوله (ص): (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) وقوله (ص): (علي بن ابي طالب والأئمة من ولده بعدي مادة أهل الارض وقادة الغر المحجلين يوم القيامة) وقوله (ص): (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) وقوله (ص): (علي مع القرآن والقرآن مع علي) وقوله (ص): (الحق بعدي مع علي يدور معه حيث دار) وغيرها من الأحاديث في فضل امير المؤمنين (ع).

كما كانت تحاجج بهذه الأحاديث أعداء أمير المؤمنين (ع) من ذلك ما رواه صاحب المستدرك على الصحيحين عن عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة في المدينة فقالت لي: أيُسبْ رسول الله (ص) فيكم؟ فقلت: معاذ الله، قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: من سبّ علياً فقد سبني، وروى عمر كحالة في أعلام النساء: ان أم سلمة كتبت الى معاوية: انكم تلعنون الله ورسوله على منابركم وذلك انكم تلعنون علي بن ابي طالب (ع) ومن أحبه وأنا أشهد ان الله أحبه ورسوله. ترسمت ام سلمة خطوات زوجها العظيم وسارت على النهج الذي رسمه لها ولم تحد عنه طرفة عين فتمسكت بعترة النبي (ص) واهتدت بهداهم فوقفت الى جانب الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع) حين طالبت بفدك فبعد أن خطبت الزهراء (ع) خطبتها التاريخية العظيمة في ذلك اليوم وأبى القوم إلاّ ان يمنعوها ارثها ويردوا شهادتها بحجة (نحن معاشر الانبياء لا نورث)، أطلّت ام سلمة لتلقي كلمتها التي سجّلها التاريخ في موقف عظيم دون أن تحسب لغضب احد سوى الله وقالت كلمة الحق فخاطبت القوم قائلة: (ألمثل فاطمة يُقال هذا؟ وهي والله الحوراء بين الانس والانس للنفس ربيت في حجور الانبياء وتناولتها أيدي الملائكة ونمت في المغارس الطاهرات نشأت خير منشأ وربيت خير مبرى أتزعمون ان رسول الله (ص) حرّم عليها ميراثه ولم يعُلمها؟ وقد قال الله تعالى:[وانذر عشيرتك الاقربين] فأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان وام سادة الشبّان وعديلة ابنة عمران وحليلة ليث الأقران تمت بأبيها رسالات ربه فوالله لقد كان يشفق عليها من الحر والقر فيوسدها يمينه ويدثرها شماله رويداً فرسول الله (ص) بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون فواها لكم وسوف تعلمون).

ما أروعك أيتها السيدة الجليلة وانت تصدحين بالحق ولا تخافين في الله لومة لائم وما أجلّك وانت تزدادين تمسكاً بالإسلام بالتزام نصرة أهل البيت (ع) رغم كثرة القوم وقلة الناصر.

وكما تحملت ام سلمة الأذى من قريش في بدء الدعوة فقد عاداها القوم كرة اخرى فكان جزاؤها على نطقها بكلمة الحق منعها من العطاء سنة كاملة كما كان لها مقام كبير في نصرة أمير المؤمنين (ع) والدفاع عنه وقد حاولت جهدها لصد عائشة عن سفرها الى البصرة لقتال امير المؤمنين وذكّرتها بأحاديث الرسول (ص) في حق علي وجرت بينهما محاورات طويلة يطول شرحها وبعد أن يئست من إرجاعها عن عزمها في الخروج أرسلت ابنها سلمة ليكون جندياً في جيش امير المؤمنين وأرسلت معه كتاب تقول في خاتمته: (ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج وأمرنا به لزوم البيت لم أدع الخروج اليك والنصرة لك ولكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة فاستوصِ به يا امير المؤمنين خيراً).

وقد شهد عمر حروب الإمام أمير المؤمنين كلها وأبلى بلاءاً عظيماً في جهاده مع إمامه وبالمقابل فقد تبوّأت ام سلمة منزلة كبيرة عند أهل البيت (ع) فقد روى الكليني عن الإمام الصادق (ع): ان علياً (ع) حين سار الى الكوفة استودع ام سلمة كتبه والوصية فلما رجع الحسن (ع) دفعتها إليه. وفي هذا الحديث وحده دلالة على مكانتها عندهم كما استأمنها الحسين (ع) الكتب والوصية عندما سار الى العراق فلما رجع علي بن الحسين دفعتها اليه, ولجلالة قدرها عند أهل البيت فقد كان كل من أراد الخروج من المدينة منهم يزورها لوداعها فزارها امير المؤمنين في سفره الى العراق كما زارها الإمام الحسين (ع) عند خروجه من المدينة.

امتد العمر بهذه السيدة الجليلة لتكون آخر من مات من امهات المؤمنين، وقد تسالم الرواة انه لما أراد الإمام الحسين (ع) الخروج الى العراق أتته أم سلمة فقالت: يا بني لا تحزن بخروجك الى العراق فإني سمعت جدك (ص) يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء... الى آخر الخبر، والقارورة التي فيها التراب اذن فقد توفيت ام سلمة بعد مقتل الحسين ومن المعروف ان واقعة كربلاء كانت عام61هـ وأما إن طال بها العمر بعد مقتل الحسين (ع) فأمر غير محقق لكن الروايات تدل على عكس ذلك فلم تلبث بعد هذه الواقعة الاليمة سوى مدة يسيرة فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمتها قوله: السيدة المحجبة الطاهرة هند بنت أبي أمية بن المغيرة... وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين عمرت حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد فوجمت لذلك وشي عليها وحزنت علي كثيراً ولم تلبث بعده إلا يسيراً وانتقلت الى الله.

وروى ابن ابي خثيمة انها توفيت سنة62هـ وبناءاً على هذا يكون عمرها الشريف82 سنة ودفنت بالبقيع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/نيسان/2012 - 12/جمادى الأولى/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م