مع قرب انطلاق القمة العربية 23 في بغداد تتزاحم التقارير
والمعلومات والتحليلات التي تتمحور حول جامعة الدول العربية والعمل
العربي المشترك، وتاريخ القمم العربية، ولكن للاسف الشديد لم اجد في
غالبية ماشاهدت وسمعت من تقارير انها انصفت الرجل الذي له الفضل في
هندسة العمل العربي المشترك، وصاحب البذرة الاولى في تأسيس جامعة الدول
العربية، وهو رئيس وزراء العراقي الاسبق نوري باشا السعيد.
والمحزن في الامر ان الجميع يتصور ان الفضل في انشاء جامعة الدول
العربية يعود الى تصريح توني ايدن الشهير وهذا امر حقيقي، لكن توقيت
التصريح الاول لآيدن كان بعد القضاء على ثورة مايس في العراق 1941م،
وتصريحه الثاني جاء ردا على مذكرة نوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق
الاسبق عام 1943م.
يقول المرحوم محمد فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق الاسبق انه "بعد
استقلال العراق عن بريطانيا بدأ الملك فيصل الأول بالعمل على تنشئة
الدعوة القومية، وسار على نهجه تلاميذه وأعوانه ممن تقلدوا رئاسة
الوزارة العرقية من أمثال نوري السعيد، وياسين الهاشمي، وعلي جودة
الأيوبي، وجميل المدفعي، والعشرات غيرهم.
واستند المؤرخ المصري الدكتور محمد علي حلة على وثيقة هامة من وثائق
وزارة البحرية البريطانية (Memorandum on the Arab Unity by the Naval
Intelligenc Department ,June 4,1943.))
ويقول حلة "أخذ نوري السعيد زمام المبادرة بعد انتصار الحلفاء في
معركة العلمين نهاية 1942م وبعث في 15 فبراير/ شباط 1943م بمذكرة الى
الحكومة البريطانية، جاء فيها أن الوقت قد حان لبحث موضوع استقلال
العرب ووحدتهم، ومن بين الآراء التي عرضنا، أن تصدر الأمم المتحدة في
أعقاب الحرب إعلاناً بتوحيد كل من سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن،
فيما عرف باسم سوريا الكبرى، ومنها أيضاً قيام جامعة عربية تنظم اليها
على الفور كل من سوريا والعراق ومن يرغب من البلاد العربية الأخرى، على
أن يكون مجلس هذه الجامعة مسؤولاً عن شؤون الدفاع، والعلاقات الخارجية،
والنقد والجمارك، وتضمن مشروع نوري السعيد إعطاء اليهود شكلاً من أشكال
الحكم الذاتي تحت إشراف الدولة السورية الكبرى، وأن يمنح موارنة لبنان
نظاما خاصا مثل الذي تمتعوا به في ظل الحكم التركي (والكلام للمؤرخ
المصري د.محمد علي حلة في الصفحة 26 من كتابه، مصر وجامعة الدول
العربية).
ولقي مشروع السعيد معارضة كل من مصر والسعودية وكانت الاجابة من
وزير الخارجية توني ايدن يوم 24 شباط 1943م بأن بريطانيا تبارك قيام
اتحاد عربي على ان ينال مباركة الرأي العام العربي الامر الذي حرك جهود
انشاء جامعة الدول العربية.
ويقول السياسي العربي الراحل احمد الشقيري مؤسس واول رئيس لمنظمة
التحرير الفلسطينية: "أن رئيس وزراء العراق نوري السعيد قد تحرك بقوة
بعد انتصار الحلفاء في معركة العلمين في هذا الاتجاه، وأصدر في تشرين
الأول/أكتوبر 1943 مشروعاً عن وحدة الهلال الخصيب والذي اشتهر باسم
الكتاب الأزرق"(أحمد الشقيري، الجامعة العربية كيف تكون جامعة وكيف
تصبح عربية ص38).
ويذكر الجمالي رحمه الله انه في عام 1943م اصدر نوري السعيد الكتب
الازرق الذي يدعو الى توحيد الهلال الخصيب الذي يضم العراق وسوريا
ولبنان وفلسطين والاردن(محمد فاضل الجمالي، صفحات من تاريخنا المعاصر).
وبعد ان فشلت مساعي السعيد في اقامة الهلال الخصيب وانشاء جامعة
الدول العربية على هذا الاساس طرح انموذجين للتعاون بين البلاد العربية
في النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، الاول تكوين
اتحاد له سلطة تنفيذية، ويكون للاتحاد جمعية تمثل فيها الدول الداخلة
بنسبة عدد سكانها ويكون لقراراتها قوة تنفيذية على الدول الاعضاء،
والثاني في حالة عدم قبول الدول العربية بالنموذج الاول فلايبقى الا
الانموذج الثاني وهو تكوين اتحاد على اساس ان قراراته لاتكون ملزمة الا
لمن يقبلها.
وتشير الوثائق البريطانية الى ان المبادرة العراقية والاتصالات التي
جرت بين القاهرة وبغداد قد حركت المياه في نهر فكرة الوحدة العربية، في
السعودية والاردن بل واليمن، هذا فضلا عن سوريا ولبنان،(د محمد علي حلة
مصر وجامعة الدول العربية).
وينقل المرحوم الدكتور محمد فاضل الجمالي عن صديقه محمد فهمي
النقراشي باشا (رئيس وزراء مصري راحل) "انه بعد ان قدم السعيد مذكرته
للحكومة البريطانية، وبعد رد توني ايدن في شباط 1943م قام نوري السعيد
باقناع النحاس باشا بفكرة تأسيس جامعة الدول العربية،(محمد فاضل
الجمالي، صفحات من تاريخنا المعاصر، مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية
،ص 52)
واعتقد انني لست بحاجة الى جلب المزيد من الادلة على ان تأسيس جامعة
الدول العربية هو مشروع عراقي يرجع الفضل الاول فيه الى شخصية، وطنية،
قومية استثنائية تستحق منا قراءة سورة الفاتحة والترحم عليها، قبل
الدخول الى قاعات مؤتمر قمة بغداد.
ان الباشا السعيد رجل قومي من الطراز الواقعي، يستحق ان تضع
الجامعة العربية صورته في ممراتها الزاخرة بصور الباشوات المصريين،
وزعماء العرب الاخرين، لكن سياسات النظام السابق كانت تحاول اظهار ان
البعث هو من جاء بالفكر القومي العربي وان عفلق وغيره هم اصحاب الفضل
في ذلك وهذه جناية تاريخية خطيرة يضايق مرتكبيها ذكر وطني وقومي
ليبرالي مثل نوري باشا السعيد لذلك تم تغييب هذه الشخصية الهامة بعمد.
ومع انطلاقة قمة بغداد نجد انه من الضروري ان يعود للباشا حقه وان
يوضع اسمه على اكبر قاعات المؤتمر لتعطي للاشقاء صورة حقيقية هي انهم
في بلد له الفضل والريادة في تأسيس مؤسسات العمل العربي المشترك،
فمثلما نفتخر بمن اسسوا حضارات ودول في مابين النهرين قبل آلاف السنين،
ما المانع من ان نفخر بمن شيد مؤسسات العراق، وسعى للهلال الخصيب ورسم
حلف بغداد، واسس جامعة الدول العربية التي ينسبها البعض الى غيره
وغالبيتهم باحثون واعلاميون وكتاب عراقيون للاسف الشديد. |