عديدة هي المشكلات والتحديات التي تواجه الراهن العربي والإسلامي،
إلا أن مشكلة القطيعة والصدام بين السلطة والمجتمع من أهمها وأخطرها..
وذلك لأنها تعرّض الجميع إلى تداعيات كبرى وتهديدات جدية..
وسنبقى في المجالين العربي والإسلامي، أسرى للعديد من الظواهر
الصراعية ما دامت القطيعة قائمة، وموجبات التوتر متوفرة..
ومن الضروري في هذا السياق، العمل على بناء نظرية أو رؤية متكاملة،
تستهدف فض الاشتباك بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي،
وتأسيس قواعد جديدة للعلاقة بين الطرفي، تفضي إلى التفاعل والتكامل
والاحترام المتبادل..
وهذه الرؤية تنطلق من قناعة راسخة مفادها، أن استمرار حالات التوتر
بين أي دولة والمجتمع سيزيد من الأزمات والإخفاقات، ويحمّل الجميع
تداعيات خطيرة وذات طابع كارثي..
وإن الخروج من حالات التوتر والصدام، ليس مسألة بسيطة أو واضحة
المعالم والتفاصيل، وإنما الخروج بحاجة إلى تضافر كل الجهود واستمرارها
في سبيل بلورة رؤية ممكنة ومتاحة للعلاقة بين الدولة والمجتمع في
الفضاءين العربي والإسلامي، ولا تقع هذه الرؤية أسيرة الإرث الدامي بين
الطرفين، كما أنها لا تسبح في فضاء المثاليات واليوتوبيات، وإنما هي
رؤية إنسانية ممكنة، تنظم العلاقة وتزيد من مساحة التفاعل والتكامل،
وتحول دون انفجار نقاط التوتر بطريقة عنيفة.. وإنما تسعى إلى تنظيم
نقاط التباين وفق رؤية سلمية - حضارية.. وهذا المنهج هو الذي يبعد جميع
الأطراف عن النزاعات العدمية المطلقة التي لا ترى إلا بلونين، ولا
تتعاطى إلا وفق منهج إما مع أو ضد..
ولقد أبانت تجارب الدول العربية التي دخلت في منعطف التحولات
والتغيرات، القادمة من نزول الناس إلى الشارع، ومطالبتهم بإصلاح
أحوالهم وتغيير أوضاعهم، على أن العمل من أجل تدوير الزوايا بين السلطة
والمجتمع في العديد من الدول العربية، هو من الضرورات الوطنية والقومية
التي تؤسس لاستقرار سياسي عميق..
ولا ريب أن للاشتباك والتوتر الموجود بين السلطة والمجتمع في العديد
من مناطق العالم العربي والإسلامي أسبابه الواقعية وعوامله المتجذرة في
طبيعة الخيارات السائدة والممارسات المتبعة.. لذلك فإننا نرى أن طبيعة
الحلول المقترحة للخروج من مآزق التوتر، تدفع باتجاه أن الواقع العربي
والإسلامي، بحاجة إلى تحول نوعي على هذا الصعيد، حتى يتمكن من تأسيس
قواعد سياسية وثقافية جديدة للعلاقة بين الدولة والمجتمع.. قواعد لا
تلغي متطلبات الدولة العادلة، وفي ذات الوقت لا تضيع حقوق المجتمع
وواجباته الحضارية والسياسية.. وما نقوله هذا ليس وصفة جاهزة، وإنما هو
معالجة مفتوحة على كل الجهود الخيرة والنوعية التي يقوم بها المجتمع في
مختلف المجالات والحقول..
فالمجتمع القوي ضرورة من ضرورات إرساء قواعد سياسية جديدة تنظم
علاقة الطرفين.. كما أن الدولة العزيزة والعادلة ركن أساسي من أركان
تحويل هذه القواعد من طابعها النظري إلى رحاب الممارسة العملية
وإجراءات التنفيذ.. وبهذا في تقديرنا نتجاوز الخطيئة الحضارية الكبرى
التي وقعنا فيها جميعاً التي تتصور علاقة أحادية فقط..
بمعنى أن قوة المجتمع مرهونة بضعف الدولة، وأن قوة الدولة مرهونة
بضعف المجتمع..
إن هذه الخطيئة الحضارية التي كلفت مجالنا الإسلامي الكثير من
الجهود والطاقات والتضحيات.. آن الأوان بالنسبة لنا جميعاً لتجاوزها
واستيعاب دروسها والعمل على صياغة رؤية حضارية جديدة، قائمة على ضرورة
تكامل قوة المجتمع بقوة الدولة والعكس.. وذلك لأن قوة الدولة مع ضعف
المجتمع تؤدي إلى الاستبداد والتسلط، وتحول القوة إلى قوة غاشمة.. كما
أن القوة المنفصلة عن الشعب والمجتمع ليست قوة دائمة وفعلية وحيوية..
كما أن قوة المجتمع مع ضعف الدولة، تؤدي إلى سيولة القوة وتحولها في
بعض الظروف إلى قوة ضد الداخل بدل أن تكون سنداً له..
فالرؤية الحضارية الشاملة، تقتضي قوة الدولة وقوة المجتمع.. فمن
المجتمع وحيويته وفاعليته، تستمد الدولة كفاءاتها وإمكاناتها، ويستند
المجتمع على قوة الدولة أمام تحديات الواقع، وهي وسيلة تنظيم القوة
وتصريفها..
فقوة الدولة نابعة من قوة المجتمع، وعزة المجتمع بحاجة دائما إلى
قوة الدولة لصيانة المكتسبات والمحافظة على المنجزات..
والانتقال من واقع العلاقة الحالية بين الدولة والمجتمع في المجالين
العربي والإسلامي إلى المأمول من العلاقة، يتم عبر تطوير أساليب العمل
المدني - السلمي، وتعميق ثقافة المسؤولية والديمقراطية في النسيج
المجتمعي، حتى يتم التحول النوعي في هذه العلاقة بعد تراكم البناء
والعمل المتواصل في توطيد أركان المجتمع المدني ومؤسسات الدولة
العادلة..
فعالم ما بعد الحرب الباردة، بحاجة إلى تطوير آليات الفعل السياسي
والمجتمعي، وتنمية التطلعات الإنسانية الكبرى، حتى نتمكن من أن نقبض
على مستقبلنا، ويكون راهننا وفق إرادتنا وتصورنا..
وإننا نعيش في زمن الأسئلة الصعبة والحسابات الدقيقة والمعقدة، لذلك
ينبغي أن لا ننجرف تجاه الأوهام، وإنما نحاول أن نبني قناعاتنا
ومواقفنا استناداً إلى الحقائق والوقائع القائمة، وذلك ليس من أجل
الانحباس فيها أو الخضوع إلى السيئ منها، وإنما لكي تكون حركتنا
ووجهتنا منسجمة ومنطق التاريخ الإنساني..
فالإنصات الواعي إلى تساؤلات الواقع وتحديات الراهن، يؤدي إلى نضج
الخيارات وسلامة الاستراتيجيات، وذلك لأن هذا الإنصات هو الذي يؤدي إلى
تحديد البداية السليمة لعملية الانطلاق في معالجة المشكلات وبلورة
الحلول..
وإننا جميعاً مطالبون، أن نفتح عقولنا ونفوسنا على العصر وآفاقه،
حتى تتكامل اهتماماتنا ونزداد قدرة على اجتراح تجربتنا في البناء
والتنمية والعمران الحضاري.. |