الشعبي... موقف ورجل

محمد طاهر الصفار

 

شبكة النبأ: ربما لم يخطر ببال الشعبي انه سيخرج من مجلس الحجاج حياً ويروي ما رآه عنده في تلك الليلة الرهيبة عندما وقف الحراس ببابه وهم يأمرونه بإجابة دعوة الحجاج للحضور عنده أيقن بالموت فالشعبي يعرف الحجاج جيداً اكثر من غيره ذلك الشيطان بصورة انسان والذي كان يتلذذ بمنظر الدماء والرؤوس المقطوعة والاعضاء المفصولة اكثر من تلذذ الرضيع بمحالب امه، كان لا ينام ولا يهدأ له بال حتى يرضي نزعته السادية ويشبع نهمه الدموي وبلغ تماديه في سفك الدماء إلى الحد الذي حيكت حوله الاساطير وضربت به الامثال في القسوة والوحشية حتى قيل انه عند ولادته رفض أن يرضع ثدي أمه، فيقال ان الشيطان تصوّر لهم في صورة الحرث بن كلدة حكيم العرب فقال لهم: إلعقوه دم جدي يومين وفي اليوم الثالث إلعقوه دم تيس اسود ثم دم ثعبان سالخ اسود واطلوا به وجهه ثم اخبرهم انه سيرضع ثدي أمه في اليوم الرابع (1).

وهذه الحكاية سواءً أصحت أم لم تصح إلا انها تشير إلى الصورة البشعة التي يمثلها هذا الرجل في التاريخ وما تركه من رعب في نفوس الناس في أيام ولايته المشؤومة على العراق فقد ولي العراق عشرين سنة فأحصي عدد من قتلهم فبلغ مائة وعشرون ألف ووجد في سجونه بعد موته ثلاثة وثلاثون الفاً لم يكن أي واحد منهم يستحق أن يسجن (2).

كان الشعبي يعلم كل ذلك ويعلم ان شهوة الحجاج لا يطفؤها سوى الدم لذلك فمثل هذا الاستدعاء وفي مثل هذا الوقت المتأخر من الليل يمثل الموت بعينه وقد نزل عليه نزول الصاعقة ولكنه لا يملك غير الاجابة فقام وتوضأ وأوصى وفرائصه ترتعد ورجلاه ترتجفان ثم سار مع الحراس إلى...الحجاج.

ما إن دخل الشعبي على هذا الطاغية حتى كاد يغمى عليه من هول المنظر فالنطع منشور والسيف مسلول والجلاد في أتم الاستعداد لتنفيذ أوامر الحجاج بقطع رأس من وقع اختيار الحجاج عليه تلك الليلة ورغم ان الشعبي قد تعوّد على مثل هذا المنظر في مجلس الحجاج إلاّ ان هذه المرة تختلف فقد كان هو المستدعى.

سلّم على الحجاج في خشية ووجل فرد عليه الحجاج بعض الطمأنينة عندما ردّ عليه السلام ولما رأى الحجاج شحوب وجهه وانخطاف لونه وارتجاف يديه ورجليه أراد أن يستعيد الشعبي قواه الذهنية والجسمية وان يكون مستعداً للمهمة التي أرسل اليه من اجلها فطمأنه قائلاً: لا تخف فقد أمنتك الليلة وغداً إلى الظهر ثم أمره بالجلوس، ولم يشر المؤرخون إلى ما كان بينهما وأي أمر جرى بينهما والذي جعل الشعبي يتيقن ان الحجاج سيقتله لا محالة غير ان الحجاج أمهله إلى ظهر الغد ولعلها كنت بيعة الشعبي لابن الاشعث عندما خرج على الحجاج.

ما إن استقر المقام بالشعبي حتى اشار الحجاج بيده إلى الحاجب لتنفيذ امر قد أعده مسبقاً وما هي إلاّ لحظات حتى أدخل إلى المجلس من وقع عليه اختيار الحجاج تلك الليلة لقطع رأسه ولكن لماذا استدعى الحجاج الشعبي لحضور قتل من اراد قتله تلك الليلة وأي رجل هذا الذي أراد قتله أن يكون بحضور الشعبي وأي جريمة ارتكبها؟

فالحجاج يقتل من يشاء بدون محاكمة ولا قضاة ولا محامين ولا حتى شهود على التهمة التي توجه إلى المشتبه به كل هذه الاسئلة لم يجد الشعبي الإجابة عليها سوى انتظار ما ستؤول اليه الاحداث في هذه الليلة العصيبة لكنه استشف من خلال استدعائه للحضور فقط وليس القتل وبما انه كان له حضور وادراك في مجالس العلماء وفي نفس الوقت هو من وعاظ السلاطين فإن القتيل اليوم له اهمية في ميدان العلم وانه رجل ليس كبقية الناس ولكن ما الذي يرمي اليه الحجاج من جمعهما معاً؟

وماذا جال في خاطره من أمر فالحجاج ولا صنيعة بني أمية والشعبي من ابواقهم والموالين لهم ومع ذلك فقد كان تحت مراقبة الحجاج لا ينجيه من طائلة العقاب اذا زاغ عن ولائه لبني أمية وأوامر الحجاج ولكن لما لم يكن الحجاج عازماً على قتله تلك الليلة فلم استدعاه؟

لقد كان الحجاج عازماً على قتل رجل آخر ليس من حزبه وليس على شاكلة الشعبي رجل لا يجيد عن قول الحق ولو على قطع رأسه وقد كان الحجاج يعلم منه ذلك فمثل هؤلاء الرجال يرعبون الطواغيت امثال الحجاج بصلابتهم وثباتهم ومبدئيتهم واستهانتهم بالموت في سبيل عقيدتهم كان الحجاج يعرف هذا الرجل جيداً منذ أن كانا معاً في حلقة واحدة حلقة ابن عباس فكان الحجاج يحضر هذه الحلقة قبل ان يصبح والياً وكان العداء بينهما قد بدأ منذ ذلك الوقت فكان يحسده لما رأى من قابلياته العلمية وادراكه ونبوغه وتفوّقه عليه وعلى كثير من اعضاء الحلقة.

ثم تحول حسد الحجاج إلى حقد وبلغ الحقد ذروته وهو يرى استاذ الحلقة ابن عباس يشيد بعلمية خصمه ويرجع من يستفتيه اليه بينما لم يكن الحجاج رجل علم بل قادته نواياه الدنيئة إلى التسلط والتجبر والتزلف إلى الظالمين ولكن خصمه قد سلك سلوكاً مغايراً لسلوكه فنتهج منهج الحق ولازم طريق الصواب بإتباعه مذهب أهل البيت (ع) وموالاته لهم فاستفحل العداء بينهما وازدادت البغضاء وآن تصفية الحساب لقد بلغ من حقد الحجاج على هذا الرجل إلى الحد الذي لم يشف قتله غليله فأراد أن يطعن عقيدته ويثلم علمه قبل قتله وسوّلت له نفسه انه يستطيع ذلك وان يكون الشعبي –بما له من حضور في حلقات العلم- شاهداً على ذلك فأحضر الشعبي ثم أمر فجيء بالرجل وأدخل عليه كان الرجل في حالة يرثى لها فالقيود والأغلال أكلت يدي ورجليه وقد غيّر السجن وجهه وآثار التعذيب بادية عليه ورغم ذلك فقد وقف بثبات وشموخ غير آبهٍ بالمنظر الذي ارتعدت فرائص الشعبي منه فلم يرعه الجلاد ولا سيفه المسلول ولا نطعه المنشور وتظاهر الحجاج انه لم يلحظ ذلك فبادر بالقول موجهاً الكلام إلى الشعبي: ان هذا الشيخ يقول ان الحسين (ع) والحسين (ع) كانا ابني رسول الله (ص) ليأتيني بحجة من القرآن وإلاّ لأضربن عنقه، اذن فهذه هي كل جريمة هذا الرجل والتي من اجلها استحق عليها كل هذا العذاب من الحجاج رقّ الشعبي لحال الشيخ وهزه ضميره بأن يتدخل، فطلب من الحجاج أن يحل قيده مبرراً منطقية مطلبه بقوله: انه -أي الشيخ- اذا احتّج واقام الحجة على دعواه فإنه لا محالة سوف يذهب إلى حال سبيله ويطلق سراحه وإن لم يأتِ بحجة على ذلك وأعياه الجواب فإن السيف لا يقطع هذا الحديد.

استجاب الحجاج لمطلب الشعبي وأمر بحل قيوده وأغلاله وماان رفعت الأغلال حتى بانت الدهشة على وجه الشعبي فقد عرف الرجل انه سعيد بن جبير وتأسّف ان يقف مثل هذا العالم الكبير امام هذا الطاغية الوغد بمثل هذا الموقف ويبدو من خلال كلام الشعبي ان سعيد لم يكن مكبلاً بالحديد بقدميه ورجليه فقط بل ان وجهه ايضاً قد غطته الأغلال ولا نملك فكرة عن نوع هذه الأغلال تسمى بالمقامع واحدها مقمعة تغطي الوجه سوى العينين ويبدو ان سعيد كان قد أُلبس وجهه بها لأن الشعبي لم يعرفه حتى أزالوا الأغلال عنه وبالتأكيد فقد كانت هذه المقمعة من ضمن الأغلال.

ثم يؤكد ذلك قوله للحجاج: وان لم يحتج ولم يستطع فقد كانت على دعواه فالسيف لا يقطع هذا الحديد ومن المؤكد ان الشعبي لا يقصد الحديد الذي في يدي سعيد ورجليه. ورغم ان الشعبي كان من وعّاظ السلاطين كما قلنا ومن المتقوّتين على موائد الحكّام فهو اذن موالٍ لبني أمية بحكم تقلّدهم للخلافة واستتباب الامر اليهم وهو معهم ما داموا على عرش السلطة كما كان بحكم عداء بني امية لبني هاشم منحرفاً عن أهل البيت (ع).

إلا انه اخذته الشفقة على سعيد وأحزنه ان تقف شخصية علمية كبيرة مثل سعيد بهذه الحالة امام هذا الطاغوت المتجبر فقال في نفسه: كيف سيجد حجة على ذلك من القرآن؟وقطع تساؤل الشعبي صوت الحجاج الجهوري وكان هذه المرة موجهاً نحو سعيد: أئتني بحجة من القرآن على ما ادعيت وإلا ضربت عنقك.

ازداد قلق الشعبي من هذا الموقف المتصلب كيف سيأتي هذا الشيخ بحجة على ذلك فالحسن والحسين لم يرد اسمهما نصاً في القرآن الكريم وهاله منظر سعيد وهو يقف بتلك الطمأنينة والثبات وهو يجيب الحجاج قائلاً: انتظر وساد المجلس صمت للحظات حتى قطعه صوت الحجاج بحدة اشد من الصوت الأول مكرراً نفس العبارة ويأتي الجواب كسابقه: انتظر وتعاد الكرّة للمرة الثالثة بين السائل والمجيب ليرتفع بعدها صوت سعيد في أرجاء المجلس مرتلاً آيات من كتاب الله عز وجل محدثاً عن ابراهيم (ع) قوله تعالى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ووهبنا له اسحق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داوّد وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين) (3).

ثم سكت سعيد ولعله ظن ان احجاج قد فطن إلى مراده غير ان الحجاج وقع في الفخ الذي نصبه لسعيد فقال له: أكمل فأكمل سعيد: (وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) (4).

ثم بيّن سعيد مراده من قراءة هاتين الآيتين الشريفتين بقوله مخاطباً الحجاج: كيف يليق ها هنا عيسى؟ قال الحجاج: انه كان من ذريته فقال سعيد: ان كان عيسى من ذرية ابراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن بنته فنسب اليه مع بعده فالحسن والحسين أولى ان ينسبا إلى رسول الله مع قربهما منه.

ساد المجلس صمت رهيب ولم يستطع الحجاج إلاّ الانحناء لهذه الحجة البالغة التي نزلت عليه كالصاعقة فأحس بصغره امام هذا الجبل الأشم وأسقط ما في يديه وتبددت كل ما سوّلت اليه نفسه من أغراض دنيئة امام هذا الصوت الصادح بالحق فتمنى لو ان الارض قد انشقت وابتلعته قبل ان يقف موقفه المخذول هذا وحاول الحجاج أن يتخلص من هذا الموقف المحرج بعد هزيمته المنكرة.

فأمر بإطلاق سراح سعيد كما أمر له بعشرة آلاف دينار تحمل إلى داره. لقد أراد الحجاج أن يقلل من عظمة سعيد وينتقص من شخصيته بعمله هذا فرد الله كيده إلى نحره ببركة الحسن والحسين وزادت شخصية سعيد أهمية عند الناس وبلغت شهرته العلمية الذروة بعد تناقل الناس هذا الموقف على الألسن ولم ين الشعبي المعروف بولائه لبني أمية ليحضر حلقة سعيد العلمية قبل تلك الليلة لكنه في صباح اليوم التالي عزم على نفسه حضور مجلس سعيد والتعلم منه وهو يخاطب نفسه: قد وجب علي أن آتي هذا الشيخ فأتعلم منه معاني القرآن الكريم لأني كنت أظن اني اعرفها فإذا انا لا أعرفها.

فقد وجد الشعبي عند سعيد مالم يجده عند غيره من باقي العلماء من علمية فذة وقدرة فائقة على الاحتجاج بالقرآن الكريم ومعرفة به وفي اليوم التالي جاء الشعبي الى المسجد فرأى سعيد جالساً وتلك الدنانير التي اعطاها له الحجاج بين يديه وهو يوزعها الى الفقراء والمحتاجين وطلبة العلم عشراً عشراً وهو يقول: هذا كله من بركة الحسن والحسين لئن كنا أغممنا واحداً لقد افرحنا ألفاً وأرضينا الله ورسوله.

...................................

(1) شذرات الذهب في اخبار من ذهب/لابن العماد الحنبلي ج1،ص107.

(2) مروج الذهب/المسعودي ج3،ص166-167.

الكامل في التاريخ/ابن الأثير ج4،ص133.

(3) الانعام (84).

(4) الانعام (85).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/آذار/2012 - 30/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م