في ذاكرة كل ذي روح عاقلة من ذكر أو أنثى مشاهد وحوادث عاشها أو
عايشها تخلد إلى النسيان كثيرها وتظل قليلها عالقة بحبال اليقظة،
والقليل من القليل يتردد بين الفينة والأخرى في شاشة الذاكرة للأثر
العميق الذي تركه إلكترون الحدث في العدسة الفسفورية، وتعظم مثل هذه
المشاهد ويزداد الحنين إليها كلما تباعد المرء عن موطن الحدث واتسعت
المسافات عن شخوصه، وأعظم الذكريات أسى هي تلك التي يعجز الإنسان عن
استعادت تفاصيلها أو بعضها وترجمتها من جديد على أرض الواقع لظرف ما،
فكم من صاحب ذكرى تمنى الإرتماء في أحضان أمه يسترجع معها الأيام
والليالي والساعات بحلوها ومرِّها فلا يجد ملاذا سوى منافي الغربة
القسرية، فيفقد الأم برحيلها ولا يختفي شبحها؟ وكم تاقت نفسه إلى ملاعب
الحي وخلان الصبا، يقلِّب الماضي القريب أو البعيد فتقف حواجز قهرية
دون أن يشتم عطر الحارة ورفقة الصديق وصحبة الرفيق؟
قبل فترة وقفت على كتاب للمؤرخ العراقي الدكتور السيد سلمان بن هادي
آل طعمة صادر عام 2010م بعنوان "القرّاء والمقرئون في كربلاء"، فجرَّني
عنوانه إلى تصفحه لأعرف ما كتبه عن أستاذي في علم التجويد الفقيد الحاج
الملا حمود الحاج مهدي النجار الحِمْيَري (1345- 1425هـ)، فوقع ناظري
على صورة قديمة لي تعود إلى 26/10/1972م اُلتقطت في محفل القرآن الكريم
الذي كان يديره الفقيد الحميري في ديوانية آل شهيب داخل ممر باب الرجاء
في الصحن الحسيني الشريف بكربلاء المقدسة، وكان لي من العمر أحد عشر
عاماً، وتجمعني الصورة بأستاذي الفقيد وإلى جانبه الحاج صالح تيرانداز
الحائري والشهيد السيد ضياء صادق آل طعمة (1377- 1403هـ) والحاج محسن
الحاج علي الفراتي، وهو المحفل القرآني الذي كان عامراً العامر في تلك
المدينة المقدسة الوادعة الذي استقطب رجالات كربلاء من أمثال المقرئ
ومؤذن الصحن الحسيني الشريف الأستاذ مصطفى الحاج محمد حسين الصراف،
والفقيه العالم السيد كمال بن محمد باقر الحيدري، وغيرهما، فبعض توزع
في ظاهر البلدان والآخر عاد إلى باطن الأرض، وكلنا إليها صائرون.
في الواقع أن الصورة أعادتني إلى حدث قديم وحديث، فالقديم حيث سنوات
الصبا التي عشتها في مسقط رأسي أواظب على حضور دروس علم التجويد عند
الفقيد الحميري وبصورة متقطعة عند المرحوم السيد محمد حسن سيف (1328-
1401هـ) في حسينية الإمام علي (الطهرانية)، حتى تمكنت من القواعد
والطور فبت أرتقي المنابر لقراءة القرآن أفتتح بها المجالس الحسينية
رغم حداثة سني، وبخاصة في مجالس الشيخ ضياء بن حمزة الزبيدي، فقرأت في
جامع الصافي الذي كان قائماً عند باب قبلة الإمام الحسين(ع) قبل
التوسعة الأولى في العهد الجمهوري، وجامع الإمام الصادق(ع) القائم حتى
يومنا هذا بجوار متوسطة الكرامة في منطقة باب الخان، وغيرهما، ولم يدم
الأمر كثيراً فالعمل السياسي جعلني فترة رهين السجن وما فيه من معاناة،
ثم أبعدني خارج العراق قهرا لسنوات طوال، فساقني الدهر إلى حيث السياسة
والصحافة والبحث والتحقيق والعمل الجامعي دون أن يصدني ذلك تلاوة
القرآن هنا وهناك تبركاً واستحباباً، وربما لو قُدِّر لي المكوث في
العراق لأصبحت من حزب قرّاء القرآن الكريم وأساتذته دون تنظيم العمل
الإسلامي وكوادره الذي هو الآخر خلعت لباسه بعد عامين من حلولي المملكة
المتحدة عام 1990م دون أن أخلع إيماني بأهمية العمل التنظيمي في إدارة
شؤون الأمة في إطار التعددية والحرية السياسية.
وأما الحدث الجديد، فهو استعادتي لذكرى أول لقاء مع المرحوم الحميري
مباشرة بعد عودتي إلى العراق عام 2003م، إذ كان تغمده الله برحمته
الواسعة في قائمة الذين حرصت على لقائهم بعد انقطاع عن الوطن دام 23
عاماً، فزرته في منزله في حي 14 رمضان وهو المنزل ذاته الذي كان
يستقبلنا فيه على طعام الإفطار في ليالي القدر من شهر رمضان الكريم
بوصفنا طلبة نجباء.
وعدت إلى الصورة ثانية لمّا انفلتُّ من قراءة كتاب "شريعة التجويد"
للعالم الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر مؤخراً (1432هـ- 2011م)
عن بيت العالم للنابهين ببيروت ومكتبة دار علوم القرآن الكريم في
كربلاء المقدسة في 104 صفحات من القطع الصغير، فاختلطت الذكريات
القديمة والحديثة ببعضها، وكلَّ ما أنتهي من قراءة مسألة من 117 مسألة
شرعية تضمنها الكتاب إلا وتذكرت دروس أستاذي الفقيد، الذي رحل عن
الدنيا وخلَّف وراءه نجله الحاج علاء الدين النجار الحِمْيَري مدرِّساً
لعلم التجويد في مسجد الإمام علي (البلوش) بكربلاء المقدسة فضلا عن
المئات من قراء القرآن الكريم وأساتذته الذين نهلوا من علمه ودروسه
ناهيك عن كتابه في علم التجويد الموسوم (نور الطالب إلى علم التجويد)
الذي طبع أكثر من مرة.
بيان وتبيان
تحتفظ المكتبة العربية بالكثير من الكتب والمخطوطات الخاصة بعلم
التجويد ولا تخلو مدرسة قرآنية من كتاب لقواعد التجويد وفنونه ترجع
إليه، فبالرغم من أن قواعد التجويد لا تستوعب الكثير من الصفحات، بيد
أن الأهمية تكمن في تطبيق جزئياتها وتطويع اللسان على أدائها بصورة
سليمة، فهي قواعد نعرف تطبيقاتها من خلال القراءة، ولذلك نستطيع
التمييز بين المقرئ الناجح من غيره من التزامه بقواعد التجويد، فجمالية
الصوت والتثبُّت من المقامات والأطوار وأدائها بصورة حسنة لا تغني عن
أداء قواعد التجويد، صحيح أن التجويد من حيث اللغة هو: (مطلق التحسين
والإتيان بالأفضل) كما يعبر عنه الفقيه الكرباسي، ولكن باصطلاح القرّاء
هو: (قراءة القرآن بنمط خاص من الصوت مع مده مع مراعاة قواعد التجويد
وقراءات القراء) وباصطلاح أهل الفن هو: (أداء الحروف من مخارجها
والإلتزام بالوقف في مواضعه والإرسال في مواضعه)، وبتعبير الفقيه الشيخ
حسن رضا الغديري الذي قدّم على كتاب "شريعة التجويد" وعلَّق عليه، أن
المراد بالتجويد هو: (حراسة اللسان عن الخطأ في الأداء)، فهو إذن أداء
القراءة القرآنية بصوت حسن مع مراعاة كامل قواعد التجويد ومعرفة
الأطوار والمقامات وممارستها بما يتناسب والأوتار الصوتية لكل قارئ.
غير أنَّ "شريعة التجويد" يتفق مع كل الكتب الخاصة بعلم التجويد
ويختلف عنها بأنَّ الفقيه الكرباسي لم يرد منه بيان قواعد التجويد بقدر
حرصه على تبيان الأحكام الشرعية الخاصة بعلم التجويد لا القراءة
التجويدية بما يجعل التلاوة بخاصة في الصلاة متوافقة مع القواعد العامة
للتجويد، لأن الوقوف في بعض مواضع الآيات أو الاسترسال يغير من المعنى
كما أن الخطأ في تحريك الكلمات يغير المعنى والإعراب معاً، ما يضع
الصلاة في بعض القراءات الخطأ موضع البطلان، وغير ذلك من المسائل، من
هنا تأتي أهمية "شريعة التجويد" الذي يمثل إضافة جديدة إلى سلسلة فقه
الحياة، لأن معرفة ذلك ضرورة يومية للعابد من حيث أن: (الإلتزام بمخارج
الحروف في قراءة القرآن مع القدرة عليه واجب وتركه في الصلاة مبطل وفي
عموم الكلام والتحدث مفضل)، ويؤيد الغديري فيما ذهب إليه الكرباسي
ويضيف: (ويمكن أن نقول بوجوب تحصيل علم التجويد إلى حدِّ حفظ الأداء عن
الخطأ).
تفاهم حسن وأداء أحسن
صحيح أن التجويد من حيث اللغة هو مطلق الأداء الحسن، ولكن المفردة
اختصت بقراءة القرآن، ومثلها كلمة الترتيل التي تعني عند أهل الفن: (تجويد
الحروف أداءاً ومعرفة الوقوف والوصل والإسترسال)، وعند قراء القرآن: (حسن
الأداء مع ترسل مستحسن في قراءة القرآن)، وفي تعبير النبي الأكرم
محمد(ص): (لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن) الكافي: 2/615، وفي
بيان قوله تعالى: (ورتِّل القرآنَ ترتيلا) المزمل: 4، يقول الإمام علي
بن أبي طالب(ع) أي: (حفظ الوقوف وبيان الحروف) بحار الأنوار: 81/188،
ولهذا ينصح عليه السلام معشر المسلمين عند قراءة القرآن: (بيِّنه بياناً،
ولا تهذه هذاء الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن إقرع به القلوب
القاسية ولا يكوننَّ همّ أحدكم آخر السورة) بحار الأنوار: 82/7.
وخلاصة القول في الترتيل هو لزوم الإبتعاد عن اللهجات المحلية
وتجنبها قدر الإمكان ولاسيما عند قراءة القرآن وتلاوته فـ: (المراد في
هذا الباب هو تلاوة آيات القرآن الكريم بأداء الحروف من مخارجها
الصحيحة والإلتزام بالشكل الذي يقرأه العرب الأقحاح من دون تغيير
بالحروف في لهجة من اللهجات الدارجة) وكما يوصي نبي الإسلام محمد(ص): (تعلموا
القرآن بعربيته ..) بحار الأنوار: 89/211، فالأداء الحسن أقرب الطرق
إلى أسماع الناس مهما اختلفت اللهجات، وهذه حقيقة يدركها كل من يلتقي
بأخيه العربي الذي يختلف معه في اللهجة، فأقرب الطرق للتفاهم السليم هو
التحدث باللغة العربية الفصحى، وخلال زيارتي للدار البيضاء في المغرب
يومي 26 و27 كانون الثاني- يناير 2011م وجدت من الصعوبة بمكان أن
أتفاهم مع أخي المغربي بلهجتي العراقية فلا هو يفهمني جيدا ولا أنا
أفهمه فكانت العربية الفصحى هي وسيلة التفاهم، ومن المفارقات أنني حضرت
في ليلة من اللَّيلتين اللتين قضيتهما في طريقي إلى العاصمة السنغالية
داكار إحدى مجالس القرآن الكريم في قلب المدينة، وكنت أجد صعوبة في فهم
رسم حروف القرآن الكريم وأنا أقرأ معهم فبعضها يختلف عما هو متداول بين
أيدي المسلمين في المشرق العربي، ولكن رغم اختلاف رسم الحرف وتشكيلته
فإنَّ القراءة السليمة كانت مفهومة لديَّ، وهذا الأمر بحد ذاته يوضح
لنا فضل القرآن الكريم في حفظ لغة العرب.
وإذا كان الأداء الحسن هو المطلوب في قراءة القرآن، فهو لا يعني
التغني به، فالغناء المصاحب للترجيع والطرب يحرمه الشرع إلا ما استثني
بالدليل كما في الأعراس، ومن باب أولى تشتد الحرمة في التغني في
القرآن، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أنه: (لا يجوز التغني بالقرآن ولا
يُعد من تحسين القراءة).
كما أن الأداء الحسن يقتضي الصوت الحسن مع أداء التجويد من حيث
تطبيق قواعد القرآن الكريم في كل موضع يتصدر القارئ لترتيل القرآن
وتجويده، وقد يتساهل البعض في الفواتح التي تقام لاستذكار المتوفى،
فيؤدي القراءة دون مراعاة للوقف والوصل والاسترسال، ويتجاوز بعض
القواعد، وهذا نوع من التساهل غير الحسن مع قواعد التجويد وبخاصة لقراء
القرآن المشهود لهم بحسن الأداء صوتاً وقواعداً، من هنا يرى الفقيه
الكرباسي أنّه: (إذا أجَّر شخص نفسه لقراءة القرآن على الميت مثلاً
فالواجب عليه أن يقرأ الآيات صحيحة ..) فالحسن هو حسن في كل موضع
ومقام، ومن يتولى قراءة القرآن يفترض فيه مراعاة القواعد في كل المجالس
والظروف، بوجود حضور أو قلَّتهم، بوجود عدسة الفضائيات أو بانعدامها،
لأن القرآن الكريم هو بذاته يشهد على قارئه.
وفي تقديري أن "شريعة التجويد" الذي جمع بين قواعد التجويد وأحكام
الشريعة هو خير معين لأساتذة القرآن الكريم الذين يصبون إلى تطوير
مداركهم العلمية وتوسيع أفق طلابهم ومريديهم بما يجعلهم ملمين بالقرآن
الكريم كتجويد قراءةً وكأحكام شريعةً.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن |