الخبز والملح... في المعتقدات الشعبية والتراثية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما غزّر بيهم الملح والخبز، عبارة ذهبت مثلا راسخا في الحياة الشعبية العراقية، لا يكاد يمر يوم دون ان تسمعها على افواه الناس، وهم يتحدثون عن تقلب الاحوال باشخاص ارتبطوا معهم بعلاقات صداقة او جيرة او غيرها، ثم انقلبوا عليهم فجأة واداروا لهم ظهورهم.

ويقتصر هذا المثل على الخبز والملح تحديدا، حتى لو كانت بين هؤلاء المتعالقين سابقا اطعمة اخرى او افضال متعددة، الا انها لاتكاد تذكر ويتم التركيز على هاتين المفردتين وهما الخبز والملح، دون بقية اصناف الطعام والماكولات وانواعها.

في كتابه الشيق ارتقاء الانسان والذي صدر قبل ثلاثين عاما ضمن سلسلة عالم المعرفة يرى المؤلف ج. برونوفسكي ان نقطة التحول الهامة التي تسببت في انتشار الزراعة في العالم القديم، كانت في ظهور نوعين من القمح لهما سنبلة ضخمة ممتلئة بحبوب القمح، وهذه السنبلة لا تستطيع نثر حبوبها بوساطة الريح، وذلك لتماسك حباتها نتيجة كثرة الحبوب فيها وازدحامها.. وبذا التقى الانسان الراغب في البقاء في مكانه بالنبات الذي لا يتطاير بالرياح.. لقد اصبح لدى هذا الانسان حنطة يقتات بها واصبحت الحنطة معتمدة على الانسان.. لقد اضحت حياة كل منهما تعتمد على الاخر، وهذا التوافق هو الذي ادى الى نشوء الزراعة والى الاستقرار الذي تتطلبه العمليات الزراعية.. ومن هذا الاستقرار نشأت الحضارات القديمة.

وللخبز قدسيته في المعتقدات الشعبية لكثير من شعوب العالم، على اختلاف اديانها ومذاهبها، ولاننسى في هذا الصدد قصة المسيح (ع) وهو يناول تلامذته الخبز، ليتحول الى تقليد مسيحي لازال موجودا حتى الان.

في المعتقد الشعبي العراقي، اذا شاهد احدهم كسرة خبز في الطريق فانه لايطؤها بقدمه بل يلتقطها من الارض ويقبلها ويضعها في شقوق الحائط للاعتقاد بان الخبز هو نعمة الله وحرام ان ندوسه باقدامنا.

وفي ليلة الانتقال الى دار جديدة فان ام البيت تبّيت في الدار الجديد القران الكريم مفتوحا على سورة (انا فتحنا لك فتحا مبينا) مع مرآة ولبن وخضروات ورغيف خبز وقليل من الماء للاعتقاد بانها تجلب لهم الخير والسعادة والرزق الوفير.. اما اذا حلفوا على شيء يقررون ان يصنعوه ثم تغير رايهم فيه فلا بد ان يكسروا رغيفا من الخبز على راس صبي صغير كفارة عن الحنث في يمينهم.. كما يعتقدون انه لا يجوز للمرأة الحائض او المجنبة ان تعجن العجين وتخبزه كي (لا تطير بركته).

اما بالنسبة للمصريين فهم يطلقون على الخبز لفظ (العيش) فهو قوام طعامهم ووقود حياتهم، وهم يُقسمون به فيقولون (وحياة العيش والملح). الخبز عرفه المصري القديم منذ 6 آلاف سنة قبل الميلاد. و كان هناك نحو 100 نوع من الخبز عرفها المصريون القدماء، وكانوا يقدسونه، ولا يرضون أن يلقى في عرض الطريق، أو تدوسه الأقدام، فكل أفراد المجتمع كانوا يأكلون الخبز. وتذكر بردية هاريس أن القرابين المقدمة في عهد الملك رمسيس الثالث كانت حوالي 30 نوعا من الخبز. وفي الأساطير المصرية القديمة كانت إيزيس تصنع الخبز بيديها لزوجها أوزوريس دلالة على الحب والوفاء. أما عدد انواع الخبز لدى المصريين الآن فيقدر بحوالي 150 نوعا من الخبز.

وفي الشكوى الثانية من شكاوى الفلاح الفصيح إلى فرعون مصر يخاطب مديرة المنزل، مذكرا اياها بما يحتاجه الإنسان في الحياة قائلا: «إن ما يحفظ أودك في بيتك قدح من الجعة وثلاثة أرغفة من الخبز».

وقد ظل المصري على تبجيله للخبز في العصر القبطي أيضا، فكان يقدم كقرابين في الكنيسة، وأفضل قطعة خبز كانت تسمى (قربان الحمل)، والمصريون حتى عهد قريب جدا كانوا يضعون في قبر المتوفى خبزا وملحا وقلة فارغة (إناء من الفخار يستخدم في تبريد الماء للشرب) مثلما كان يفعل الفراعنة، حيث كان يدفن معهم بعض أشياء من الخبز وقليل من الملح. ولا تزال أنواع من الخبز المتداول تحتفظ باسمها الفرعوني مثل(البتاو) المشتقة من كلمة (بات) باللغة المصرية القديمة، الذي يصنع من القمح والسمن واللبن والذرة.

ومن العادات الشعبية التي لا تزال شائعة لدى الكثير من المصريين وضع قطعة خبز في المنخل بعد استعماله لحفظه ولدوام الخبز. وإذا تعرض أحدهم لكابوس يضعون له تحت الوسادة رغيف خبز به ملح وسكين لطرد الأرواح الشريرة. ولا يزال معظم المصريين إذا وجد أحدهم قطعة خبز ملقاة في الطريق يأخذها ويقوم بتقبيلها سبع مرات، ثم يضعها بجوار الحائط، وهذه العادات يقوم بها المسلم والمسيحي على السواء.

وفي المأثور الشعبي توصف السيدة التي يتخمر عجينها بسرعة بأنها غيورة، دمها حام، فتنتقل سخونتها إلى العجين. وبالعكس المرأة صاحبة الدم البارد، ذات البال الطويل، التي لا تتسم بسرعة الحركة فعجينها يأخذ وقتا إلى أن يتخمّر... ومن أهم مآثر الخبز في مصر الفرعونية أنه كان يتم إعطاؤه كمرتبات للبحارة وموظفي المراكب، وكان ثمة حكمة فرعونية تقول (إعط الشغال رغيفا تأخذ رغيفين من كتفه).

وفي الكثير من الأدبيات والوثائق الفرعونية يتمتع الخبز بمكانة خاصة. فمن واجب الزوج تجاه زوجته أن يطعمها بالخبز وكسوتها وتعطيرها بالعطور. وفي وصايا الحكيم آني يوصي ولده بأمه قائلا: (ضاعف الخبز لأمك واحملها إن استطعت كما حملتك).

في اوروبا قديما هناك الكثير من المعتقدات التي تتعلق بالخبز، منها ان رمي الخبز خرق للقدسيات، وان من اراد ان يتناول خبزا كان عليه قبل ذلك ان يرسم فوقه صليبا باشارة من يده او من راس السكين.

ومن غرز راس سكين في خبز رغبة في تناوله فقد جرح الله.. اما وضع الخبز على ظهره مقلوبا فيسبب الشقاء.. وهكذا كان الخبازون قديما يعزلون خبز الجلاد عن خبز الزبائن الاخرين... الى اخر الكثير من المعتقدات.

اما فيما يتعلق بالملح فهو في المعتقدات الاوربية ان ملح البحر يقي من اذى السحرة فيحسن ان يحمله اذا من اضطر الى الخروج ليلا.. واذا اسقط المرء ملحا على طاولة وجب ان يباشر القاء حفنة منه من فوق كتفه اليسرى ليطرد النحس.

وكان العراقي القديم ينظر الى الملح نظرة تقديس وجعله كإلاله يعبده ويقدسه ويقدم القرابين له ويخاطبه بقوله:

ايها الملح يامن خلقت في مكان نظيف

طعاما للاله جعلك (انليل)

بدونك لا تمد مائدة في (ايكور)

بدونك لا ينشق اله او ملك او سيد او امير

انا فلان بن فلان

وقعت اسيرا للسحر وقعت مهموما في احابيله

ايها الملح حل العقدة عني

ارفع السحر عني او كخالقي

وكذلك نرى ان بعض الشعوب البدائية كانت تنظر الى الملح نظرة تعظيم واجلال.. وكانت العرب في جاهليتها تعقد المحالفات بوجوده وكانت منزلته كمنزلة الماء والنار.

وفي المثل الشعبي العراقي هناك الكثير من الامثال المتعلقة بالملح للتعبير عن حالات اجتماعية او نفسية وغيرها، مثال ذلك: فلان عينه مالحة، فلان ما ينام بعينه ملح، سوّاها بلا ملح، فلان جلده املح، ايد فلان ما بيها ملح، بينهم زاد وملح، زاد فلان ما بيها ملح، فلان ما يغزر بعينه الملح، فص ملح وذاب، خبز وملح.. وغيرها من الامثلة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/آذار/2012 - 25/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م