غزة ومشاطيح الفلفل

توفيق أبو شومر

تقاس حضارة الدول وتقدمها بحجم استفادتها من تجاربها، وكفاءتها في استغلال طاقاتها البشرية، وتُقاس كذلك بقدر فهمها لتاريخها وتاريخ العالم، كما أن استخلاص العبر من التجارب الطويلة تمهيدٌ رائع للإنجازات والاختراعات، فالشعوب تضع أسس بنائها مستفيدة من العثرات والأخطاء التي وقعتْ فيها أممٌ وشعوبٌ أخرى.

 أما الدول التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد من تجاربها فهي أممٌ زائلة حتى وإن كان اسمها مكتوبا على أطالس العالم، وكانت لها أعلام وطنية ووزارات وهياكل وظيفية!

 إن إسرائيل هي من أكثر دول العالم استفادة من تجربتها الطويلة فقد وظفت إمكاناتها وتناقضاتها واختلافاتها لدعم مسيرتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، فمن المعروف بأن إسرائيل هي من أكثر دول العالم تنافرا في فسيفسائها الاجتماعية والعرقية، فما بين أعراقها من تناقضاتٌ شتى، في اللغة والعقيدة والنشأة والتكوين، أكثر من أن يُحصى!

غير أنها تمكنت من توظيف هذه التناقضات لتخدم إسرائيل كلها.

 بصراحة نقول إنها من أكثر الدول براعة في استخلاص العبر من تجربتها القصيرة بحساب عمرها الزمني!

 وإذا طبقنا ذلك على آخر الأحداث التي مرت بها غزة في الفترة مابين 10-14 من شهر مارس 2012 بعد التصعيد الإسرائيلي، واغتيال ستة وعشرين فلسطينيا، ورغم قصر هذه المدة زمنيا، والتي لا تتجاوز خمسة أيام، فإن ما أنجزته إسرائيل يعتبر حدثا كبيرا، في مجال استخلاص العبر!

وأنا لن أدخل في تفاصيل استفادة إسرائيل في تطوير منظومة صواريخ القبة الحديدية، أو الصواريخ المعترِضة، ذات الطبقات، لأن هذا الأمر هو سرٌّ من أسرار إسرائيل، لم يتم الكشف عنه، غير أنني سأشير إلى ما صرَّح به وزير التعليم غدعون ساعر بأن الطلاب الذين يسكنون في غلاف قطاع غزة، والذين اضطروا للبقاء في الملاجئ، خوفا من أن تطالهم الصواريخ الغزية، ولم يتمكنوا من الذهاب لمدارسهم، قد تلقوا دروسهم وواجباتهم عبر شبكة إلكترونية خاصة طوال الأيام الأربعة!

كما أن سلطة الضرائب قررت تأجيل دفع قروض كل من يسكنون في غلاف قطاع غزة، كما أن وزارة الصناعة والتجارة قررت أيضا دعم المصانع التي أغلقت أبوابها في هذه الأيام!

وقامت أيضا فرقٌ من باحثي الجامعات الإسرائيلية، وأطباء علم النفس بعلاج كثيرين من الأطفال ممن تعرضوا للصدمات النفسية!

هذا بالإضافة إلى خبراء الجبهة الداخلية ممن قاموا بتفقد السكان في ملاجئهم لمعرفهم قدرات الملاجئ وحاجاتها!

إن ما سبق هو ما كشفته الصحف الإسرائيلية في ثناياها، وبالتأكيد هناك أشياء أخرى، تدخل ضمن إطار استخلاص العبر وتطوير القدرات، واكتشاف الأخطاء!!

 أما نحن فما نزال نقع في الأخطاء التي وقعنا فيها مراتٍ ومرات، فما زلنا عاجزين عن معرفة الكيفية التي نُسيِّر بها حياتنا في وقت الأزمة، على الرغم من أننا نخرج من أزمة لندخل أزمة أخرى، فغزة من أكثر مدن الأرض تعرضا للأزمات.

ففي كل أزمة يسألني أحفادي:

 هل نذهب إلى المدرسة غدا؟ فلم يبلغنا أحدٌ بأن غدا سيكون يوم دوام، وأصبح مألوفا لنا أن نشاهد طلاب المدارس الحكومية لا يذهبون إلى مدارسهم، بينما ينتظم طلاب المدارس التابعة لوكالة الغوث!!

ولم تقم أية جهة على الرغم من تجاربنا الطويلة وكفاءتنا في المجال الإعلامي من بلورة صيغة تمكن طلابنا من الدراسة عن بعد، مع العلم بأن دراساتٍ وأبحاثا قام بها تربويون من جامعة بير زيت، منذ عقد من السنوات، عالجت التعليم وقت الأزمات، ولكنني لا أعرف مصيرها حتى الآن!!

 وما زلنا عند بدء كل أزمة نشاهد الطوابير على المخابز والمحلات لتخزين الدقيق والمواد الغذائية وشراء البطاريات وأجهزة الراديو وغيرها، ولم يتغير شيء!

 فبعد كل أزمة تعقبها فترة استرخاء وراحة، نغفو وننسى، ثم نستيقظ من جديد على أزمة أخرى، ونمارس طقوس الأزمات، وكأننا مُنَوَّمون غافلون، على الرغم من أن جامعاتنا الفلسطينية مملوءة بالمتعلمين والخريجين وحاملي الشهادات العليا، فقد أصبح لقب( دكتور) سيد الألقاب في غزة، فهو اللقب الأكثر شيوعا واستخداما ربما أكثر من الصين وأمريكا والبرازيل مجتمعة!!!

إننا بحاجة ماسة إلى الباحثين والرواد والمفكرين، ممن يتمكنون من صياغة برامج حياة، تنفرد بها غزة وفلسطين عن كل دول العالم، لندخل كتاب غينس ليس من باب خمسين مترا طول صينية الكنافة، وخمسة كيلومترات مساحة الكوفية، وستة ألاف صحن من فتة الحمص، وعشرة أطنان أو (مشاطيح) من الفلفل الأحمر، وهو اقتراحٌ جديد ربما قمنا بتنفيذه في الأشهر القادمة!!

" مشطاح كلمة عبرية تعني حاوية ووعاء ضخم"

 بل في ابتداع طرق تدريب على إنقاذ المصابين، وتدريب النساء على التوفير والاقتصاد واستحداث وجبات (طعام الأزمة) والاقتصاد في استخدام المياه والكهرباء، واستخدام وسائل الإعلام للتثقيف والتوجيه، وأن نقوم (بأضعف الإيمان) بتوعية أهلنا بمخاطر الاحتشاد في المواقع التي تتعرض للقصف، لغرض حب الاستطلاع، وإعاقة المسعفين عن أداء عملهم، وتشكيل لجان من المتطوعين لهذا الغرض!!

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/آذار/2012 - 25/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م