شاعر الحرية... الحر ابن مفرّغ الحميري

محمد طاهر الصفار

 

شبكة النبأ:

حي ذا الزور وانهه ان يعودا... إن بالباب حارسين قعودا

من أساوير لا ينوون قياماً... وخلاخيلٍ تسهر المولودا

وطماطيمٍ من سبابيج غتمٍ... يلبسوني مع الصباح قيودا

لا ذعرت السوام في غلسِ الليل... مغيراً ولا دُعيتُ يزيدا

يوم أعطي من المخافة ضيماً... والمنايا يرصدني أن أُحيدا

انه شعر قوي يحمل في طيّاته عزماً لا يلين وإرادة لا تستكين وهو يدل على أن صاحبه قد صمم على أمر عظيم لا يثنيه عن تحقيقه سوى الموت وهو ماضٍ لما عزم عليه مهما كلفه هذا الامر ومما يدل على قوة هذا الشعر وما يحمل من معانٍ كبيرة وهمة عالية.

ان الإمام الحسين (ع) قد تمثّل بالبيتين الاخيرين منه حينما طلب منه والي المدينة الوليد بن عتبة البيعة ليزيد بن معاوية فأبى سيد الشهداء (ع) قائلا: إنّا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ومثلي لا يبايع مثله، ثم خرج وهو يتمثّل بهذين البيتين.

فعلم كل من سمعه انه (ع) سيخرج على يزيد فمن هو الشاعر صاحب هذه الأبيات؟

وما هو الامر الذي عزم عليه وحمله بين اضلاعه فلا يهدأ له بال حتى يحققه؟ ولماذا هو مستميت في سبيل انجاز ما أراده حتى ولو كلفه الامر حياته؟

انه شاعر ليس كباقي الشعراء من الذين يتغزلون بالجواري والإماء بل انه شاعر حمل الشعر رسالة انسانية عليه تأديتها على اكمل وجه وكلمة حق يجب ان تطلق في وجوه الظالمين فصدح بها غير آبهٍ بما سيؤول اليه مصيره من تشريد وتعذيب وتنكيل، فحقق بذلك أعظم الجهاد كما قال رسول الله (ص): (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

انه شاعر عشق الحرية ورفض أن يعيش في أغلال العبودية والظلم رغم الأساليب القمعية والوحشية التي مورست ضده، فلم يهن ولم يستسلم حتى آخر رمق في حياته، فكان في كل احواله مجاهراً ومندداً بالظلم ولم تستطع سجون بني أمية إسكات هذا الصوت الهادر، فأطلق هذا الشعر من سجنه وهو يصف حاله في السجن من المراقبة الشديدة والمعاملة العنيفة التي يتلقّاها من حراسه.

ورغم ذلك فقد اطلق صوته متحدياً سجونهم وجلاديهم وجبروتهم انه الشاعر الحر يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرّغ الحميري، هذا هو نسبه الذي يرجع الى حمير القبيلة العربية اليمانية العريقة المعروفة بالشجاعة والكرم والنجدة وقد قيل ان مفرّغ لقب لربيعة لا والد له وانما سمي مفرّغاً لأنه راهن على سقاءٍ من لبن يشربه كله فشربه حتى فرّغه فسمي مفرّغاً، فعرف شاعرنا بقلب ان مفرّغ الحميري وهو جد الشاعر محمد بن اسماعيل الحميري المعروف بـ(السيد الحميري) شاعر أهل البيت (ع)، الذي توارث عن جده ابن مفرّغ خصائصه الذاتية والنفسية من صلابة الايمان وقوة العقيدة وثبات المبدأ.

ولد شاعرنا في البصرة وكان يكنى بـ(ابي عثمان) كمال قال ذلك الشيخ عباس القمي في (الكنى والألقاب) وكان يتّقن من اللغات الى جانب العربية اللغة الفارسية بحكم اختلاط العرب بالموالي في البصرة والكوفة وغيرها من المدن.

في ذلك الوقت ولم تشر المصادر الى سنة ولادته غير انه كان من أسرة حمير وأشرافها وبيته رفيع الشأن فيها ومثل هذه النفوس الأبية ذات الهمم العالية لا تستسلم للخنوع والذل ولا يمكن أن تسكت وهي ترى جرائم الامويين وموبقاتهم واستهتارهم بالدين والقيم الاخلاقية وتوليهم الادعياء على رقاب الناس.

ففي ذلك العهد الدموي لم يتلكأ ابن مفرّغ امام قوى الطغيان واعلان سخطه من أساليبهم الوحشية فسخّر شعره في هجاء بني امية حتى عُرف بهجائه لسياساتهم المستبدة فشاعت أهاجيه في البلاد وتناقلتها الافواه حتى تغنى بها الناس في كل مكان وكان جزاؤه جرّاء اطلاقه هذه الاهاجي من التعذيب ما وصفه المؤرخون بأنه: (مالا يصبر عليه انس ولاجن ولا يحتمله إلاّ الحديد)، ولكن كل هذه الآلام لم تثنه عن مواصلة دوره في اداء رسالته كشاعر أصيل دعاه الواجب الانساني الى نصرة الحق ودحض الباطل والاسهام في تحطيم الاصنام الاموية والتصدي لها مهما كلّف الامر.

وقد بدأت أهاجي ابن مفرّغ عندما رفع صوته معلناً استياءه من استلحاق زياد بن ابيه وضمه الى بني أمية من قبل معاوية وزياد هو ابن سمية وهي أَمَة للحرث بن كلدة الثقفي زوجها الحرث مولاه عبيد فولدت زياد على فراشه فخالف معاوية قول رسول الله (ص): (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقال ايضاً(ص): (من ادعى لغير أبي فليتبوّأ مقعده من النار) وقد استنكر الكثير من المسلمين هذا الاستلحاق، منهم الحسن البصري ويونس بن عبيد والجموح بن عمرو الفهمي وغيرهم اما ابن مفرّغ فقد رفع صوته قائلاً:

ألا أبلغ معاوية بن حربٍ... مغلغلةً من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عفٌ... وترضى أن يُقال ابوك زاني

فأشهد أن رحمك من زيادٍ... كرحم الفيل من ولَلَد الأتانِ

وأشهد انها ولدت زياداً... وصخرٌ من سمية غير داني

فأراد زياد قتله ولكنه لا يستطيع أن يقدم على هذا الشيء بدون اذن معاوية فاستأذنه في ذلك ولكن معاوية أبى لأنه كان يخشى أن تثور ثائرة قومه وعشيرته ولكنه أمره بتأديبه فحبسه مرة ثم اجاره المنذر بن الجارود ولما كان زياد يستشعر نسبه المخزي وحسبه الدنيء هذا ولم يستطع انكاره او اخفاؤه بإنه أراد أن يحظى ببعض الشرف عند الناس بإدعائه ان سمية أمه من بني تميم لكن ابن مفرّغ كان له بالمرصاد ففضمه وعرّى إدعاءه من الصمة فقال:

فأُقسم ما زياد من قريشٍ... ولا كانت سمية من تميمِ

ولكن نسل عبدٍ من بغيٍ... عريق الاصل في النسب اللئيمِ

قال المسعودي في مروج الذهب (جـ3 ص17)، (وكانت سمية من ذوات الرايات)، من ذوات الزنا) بالطائف تؤدي الضريبة الى الحارث بن كلدة وكانت تنزل بالموضع الذي تنزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا).

وكان لسمية ثلاثة اولاد فإضافة الى زياد فلديها نافع ونفيع ابا بكرة وكان لكل واحد منهم أب يدعى به فزياد هو ابن أبيه ثم أدعاه معاوية لأبي سفيان ونافع هو ابن الحارث بن كلدة الثقفي ونفيع ابو بكرة بن مسروح فقال فيهم ابن مفرّغ:

إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة... عندي من أعجب العجب

إن رجالاً ثلاثة خلقوا... من رحم أنثى مخالفي النسب

ذا قريشي -كما يقول- ... وذا مولى وهذا ابن عمه عربي

وكان ابن مفرّغ يصدح بهذه الاشعار الهجائية في الطرقات وفي كل مكان يمر به غير آبهٍ بعواقب هذا الامر، فهو يأنف أن يلي اموره وامور المسلمين من نسبه وصمة وتأبى حميته أن يتحكم برقاب الناس واموالهم واعراضهم دعيٌ مثل زياد، ولما مات زياد عام53هـ تولىّ البصرة ابنه عبيد الله وكان اخوه عباد بن زياد والياً على خراسان، وكان عباد هذا طويل اللحية عريضها فمر ذات يوم في موكبه فرآه ابن مفرّغ، ورأى كثرة الناس حواليه وهم يوقرونه ولكن ابن مفرّغ كان ينظر الى عباد بعين السخرية والتهكم وهو يقول:

ألا ليت اللحى كانت حشيشاً... فنعلفها خيول المسلمينا

كان ابن مفرّغ يشعر بالحيف وهو يرى هذا المشكوك في نسبه يلاقي مثل هذا التوقير والتبجيل من الناس واسرع الواشون ليخبروا عباداً بما قال ابن مفرّغ وليملؤا صدره غيضاً وحقداً، وبلغ ذلك القول عبيد الله بن زياد فأمر بالقبض عليه فأخذه من دار المنذر بن الجارود فسجنه وعذّبه ولكن أي نوع من انواع التعذيب كان؟ لقد أفرغ ابن زياد عما في نفسه الدنيئة من احقاد وبما يشعر به من نقص في الشخصية ووصمة في النسب بالانتقام من الأشراف والنفوس الابية امثال بن مفرّغ بالتنكيل بها واهانتها امام الناس بأساليب مبتكرة اخترعتها نفسه المريضة.

فقد امر ان يسقى ابن مفرّغ التربذ وهو شراب مسهل مع النبيذ وان يحمل على بعير وتربط به خنزيرة ويطاف به في أزقة البصرة واسواقها فأمشاه بطنه مشياً شديداً، فكان يسيل ما يخرج منه على الخنزيرة فتصيء فكلما صاءت قال ابن مفرّغ:

ضجت سمية لما مسّها القرن... لا تجزعي إن شر الشيمةِ الجزعُ

وهو يشبّه الخنزيرة بسمية ام زياد وجده عبيد الله فكان الناس يصيحون خلفه فمر به فارسي فرآه فقال له: أين جيست فقال له المفرّغ:

آبست نبيذ ست عصارات... زبيبست سمية روسفيدست

ومعناه هذا نبيذ، هذا عصارة زبيب،  وسمية عاهر فلما رأى حاله الناس رثوا له ورقّوا لحاله فقيل لابن زياد: ان الذي به ربما يؤدي الى حتفه فأمر به فأنزل واغتسل فلما خرج من الحمام قال:

يغسل الماءُ ما فعلت وقولي... راسخٌ منك في العظام البوالي

وهي قصيدة طويلة رواها ابو الفرج الاصفهاني في الاغاني، نعم لقد زادت اهاجي ابن مفرّغ لابني زياد حدة وزادت لهجته شدة ومن اهاجيه في عباد بن زياد:

أعباد ما للؤم عنك محوّلُ... ولا لك أمٌ في قريش ولا أبُ

وقل لعبيد الله مالك والدٌ بحقٍ... ولا يدري امرؤٌ كيف تنسبُ

وكانت هذه الاهاجي تقع مواقع النصال بقلب ابني زياد حتى قال عبيد الله بن زياد: ما هُجيت بشيء أشد عليّ من قول ابن مفرّغ.

ومرت الايام وتزداد اهاجي ابن مفرّغ ويزداد معها حقد عباد واخيه وغضبهما عليه فقامت قيامتهما وهما يسمعانه وهو يذيع مخازيهما وينشر فضائحهما بين الناس دون هوادة حتى صار شبحاً يتهددهما ويتوعدهما.

وكان عباد قد كتب جميع ما قاله ابن مفرّغ فيه وفي أخيه وأبيه من الاهاجي وارسلها الى اخيه عبيد الله فبدأت المطاردة الرسمية وبث الاخوان جنودهما في كل مكان للقبض على ابن مفرّغ فكان ابن مفرّغ لا يستقر في مكان حتى يغادره الى غيره، وكان كلما ينتقل من بلد الى آخر كان اصراره يزداد على فضحهما ولم يكتف بما كان يقوله بين الناس في هجائهما فكان يكتب كل ما هجاهما به على حيطان الخانات وأماكن الاستراحة ومفترق الطرق كل من يمر بها من عابري السبيل والتجّار والمسافرين وغيرهم على كثرتهم وتنوع بلدانهم، فذاعت تلك الاهاجي على الألسن وانتشرت بين الناس وسعى ابن مفرّغ لأن تكون اهاجيه التي يقولها ويكتبها لاذعة وفيها من السلاسة ما يجعلها سريعة الحفظ فكان مما قاله:

فكّر ففي الامر أن فكّرت معتبرٌ... هل نلت مكرمةً إلا بتأميرِ

عاشت سمية ما عاشت وما علمت... إن ابنها من قريشٍ في الجماهيرِ

سبجان من ملك عباد بقدرته... لا يدفع الناس اسباب المقاديرِ

وقال أيضاً:

فأشهد ان امك لم تباشر... أبا سفيان واضعة القناعِ

ولكن كان امرٌ فيه لبسٌ... على رجلٍ شديدٍ وامتناعِ

وجدّ إبنا زياد في طلب ابن مفرّغ واكثرا العيون والجواسيس وهو يفر من بلد الى بلد ولا يخرج من مكان حتى يملؤه دوّي شعره وتملأ حيطانه أهاجيه حتى قبضا عليه وأُودع السجن ولم يدع ابن زياد لؤم القدرة فعذّب ابن مفرّغ عذاباً وصف بأنه: (ما لا يصبر عليه أنس ولا جن ولا يتحمله إلا الحديد).

ورغم ذلك لم يذعن ابن مفرّغ لابن زياد ولم يطلب منه الرحمة بل ازداد اصراراً على هجائه فوكّل ابن زياد به رجالاً ووجههم معه وأمرهم أن يأخذوه الى جميع الخانات والاماكن التي هرب اليها وكتب على حيطانها شعره الهجائي وان يمحوها بأظافره فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئاً مما كتبه من الهجاء أجبروه على محوه بأظافره فكان ابن مفرّغ يفعر ذلك ويحكه حتى ذهبت أظافره ثم كان يمحوه بعظام اصابعه دمه فكانت دماؤه تصبغ الحيطان ورغم ذلك فقد زادت أهاجيه وهو في السجن فكان ما قاله في الابيات التي ذكرناها في مقدمة الموضوع وهي كما رآها القاريء تدل على عزيمة واصرار عجيب من هذا الرجل الذي لم تزده الآلام إلاّ مضاءا.

كما ركز في شعره أشد التركيز على مسألة عدم عفّة سمية وكذلك غضبه وسخطه على ابن زياد وهو يراه بأم عينيه يركب الجرائم بحق الابرياء ويتطاول على الأشراف وهو ابن زنا ولابن مفرّغ أهاجٍ يكشف فيها حقيقة مأبونية ابن زياد وهي مثبتة في ديوانه وقد آثرنا الاعراض عن ذكرها.

وطال حبس ابن مفرّغ وطال تعذيبه وطال حزنه وأساه لما آل اليه امر الناس جرّاء ظلم بني أمية وعدوانهم وخاصة بعد مقتل سيد الشهداء(ع) الإمام الحسين وأهل بيته وصحبه وسبي نسائه فيقول:

كم يا عبيد الله عندك من دمٍ... يسعى ليدركه بقتلك ساعي

ومعاشرٌ أنفٌ أبحتْ حريمهم... فرقتهم من بعد طول جماعِ

اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً... وبني عقيل فارس المرباعِ

 ولما طال مقامه في السجن استأجر رسولاً الى دمشق وقال له: اذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق وانشد هذه الابيات:

أبلغ سراة بني قحطان قاطبة... عضّت بظهر أبيها سادة اليمنِ

أضحى دعيُ زيادٍ فقع قرقرةٍ... يا للحوادث يلهو بابن ذي يزنِ

والحميري صريع وسط مزبلةٍ... ماذا تريد بذي الاحقادِ والاحنِ

ففعل الرسول ما أمره به وأنشد الابيات فأخذت اليمانية الحمية وغضبوا وركب طلحة الطلحات الى الحجاز فقال لهم: يا معشر قريش ان اخاكم وحليفكم ابن مفرّغ قد أبتلى بهذه الاعبد من بني زياد وهو عديدكم وحليفكم ورجل منكم ووالله ما أحب أن يجري الله عافيته على يدي دونكم ولا أفوز بالمكرمة في امره وتخلوا انتم منها فانهضوا معي بجماعتكم الى يزيد بن معاوية فإن اهل اليمن قد تحركوا بالشام.

فركب خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله في وجوه خزاعة وكنانة وخرجوا الى يزيد وفي الطريق نزلوا للاستراحة في بعض الليالي فتناهى الى اسماعهم صوت راكب يتمثل بشعر ابن مفرّغ ويتغنى قصيدته:

قلت والليل مطبق بعراه... ليتني متّ قبل ترك سعيد

ليتني متّ قبل تركي اخا... النجدة والحزم والفعال الشديد

عبشمي أبوه عبد مناف... فازمنها بتاجه المعقود

قل لقومي لدى الاباطح... من آل لوي بن غالب ذي الجود

سامني بعطكم دعي زيادٍ... خطة الغادر اللئيم الزهيد

كان ما كان في الاراكة واجتبّ... ببردٍ سنام عيشي وجيدي

أوغل العبد في العقوبة والشتم... وأودى بطارفي وتليدي

فاطلبوا النصف من دعي زيادٍ... وسلوني بما ادعيت شهودي

فدعوه الى الانضمام اليهم وسألوه عن الشعر الذي سمعوه فقال: هذا قول رجل والله ان أمره لعجيب رجل ضاع بين قريش واليمن وهو رجل الناس، فقالو له: من هو؟ قال: ابن مفرّغ، فقالوا: والله ما قمنا بسفرنا هذا إلا من أجله وانتسبوا له فعرفهم وانشدهم قوله:

فناديت فيهم دعوة يمنية... كما كان آبائي دعوا وجدودي

ودافعت حتى ألغ الجهد عنهم... دفاع أمرئ في الخير غير زهيد

فإن لم تكوني عند ظني بنصركم... فليس لها غير الأغر سعيد

بنفسي وأهلي ذاك حياً وميتاً... نضارة وعود المرء اكرم عود

فكم من مقام في قريش كفيته... ويوم يشيب الكاعبات شديد

وخصمٌ تحاماه لؤي بن غالب... شببت له ناري فهاب وقودي

وخير كثير قد أفأت عليكم... وانتم رقود أو شبيه رقودِ

وتأثر القوم غاية التأثر من هذا الشعر واسترجعوا وهم يأسفون أن تركوا ابن مفرّغ بيد ابني زياد يسومانه سوء العذاب وقالوا: والله ذلك رؤوسنا في العرب ان لم نغسلها بكفه،  ثم ساروا مسرعين الى الشام وهناك اجتمعوا بأصحابهم من اليمانية ودخلوا على يزيد وكلموه في أمر ابن مفرّغ فأمر بإطلاق سراحه وأرسل امر ذلك بيد رجل اسمه حمحام فلما اطلق سراحه وقرب اليه دابة من بغال البريد استوى على ظهرها وقال:

عدس ما لعباد عليك إمارة... نجوت وهذا تحملين طليقُ

طليق الذي نجّى من الحبس بعدما... لا حم في درب عليك مضيقُ

ذري وتناسي ما لقيت فإنه... لكل أناسٍ خبطة وحريقُ

قضى لك حمام بارضك فالحقي... بأهلك لا يؤخذ عليكِ طريقُ

والبيت الاول شاهد مشهور في النحو على ان (هذا) بمعنى الذي والكلام عليه في الخزانة واللسان ولم تنته قصة ابن مفرّغ مع ابني زياد عبيد الله وعباد فبعد أن يئسا من قتله خوفاً من قومه وخشية من ان تدور الدائرة عليهما بعد أن امر يزيد بإطلاق سراحه راحا يدبران له المكيدة والمكر فلقّنا المرتزقة ان ابن مفرّغ استدان منهم اموالاً وهو يأبى أن يسدد ما عليه من ديون وجعلا شهوداً على ذلك من بعض المرتشين ففعلوا ذلك فحوصر ابن مفرّغ وماذا يستطيع لأن يفعل اذا كان والي المدينة والقاضي وجلساء الوالي من المتنفذين ضده ولن يجديه إنكار ما اتهموه ولا دفع التهمة عن نفسه فامر ببيع كل ما يمتلك لكي يعطي غرماء لا يعرفهم ولا يعرفونه فكان فيما بيع غلام له كان قد رباه يقال له (بُرْد) كان يعدل عنده ولده وجارية يقال لها (أراكة) أو(أراك) فكانت المصيبة عظيمة على ابن مفرّغ بفقدهما.

ويلمس القاريء عمق الفاجعة التي حلّت بابن مفرّغ وهو يقرأ هذا الشعر الذي قاله فيهما او بالاحرى (رثاهما) فهو أسبه بالرثاء فلنسمعه وهو يقول:

يا برد ما مسّنا دهرٌ أضربنا... من قبل هذا ولا بعنا له ولدا

اما الأراك فكانت من محارمنا... عيشاً لذيذاً وكانت جنة رغدا

لولا الدعي ولولا ما تعرّض لي... من الحوادث ما فارقتها أبدا

ولم نر في الشعر العربي من يشبه غلامه بولده وجاريته بمحارمه بل انه في قصيدة اخرى يتمنى الموت على فراق برد فيقول في قصيدته التي مطلعها:

اصرمت حبلك من امامه من بعد ايام برامه

والتي يقول فيها:

وشريت برداً ليتني من بعد برد كنت هامه

أو بومة تدعو الصدى بين المشقّر واليمامة

وله فيهما قصائد طويلة ذكرها ابن سلام في الطبقات وابو الفرج الاصفهاني في الاغاني وابن الاثير في الكامل في الادب وغيرهم، وقصائده فيهما تفيض أسىً ولوعة على فراقهما ولكن قدر لأبن مفرّغ أن يتشفى من ابن زياد ويشهد هروبه ومقتله ولا تفوته هذه الفرصة من ان يسجلها شعراً فقال في هروب ابن زياد وتركه امه:

أعبيج هلاّ كنت أول فارسٍ... يوم الهياج دعا بحتفك داعي

أسلمت امك والرماح تنوشها... يا ليتني لك ليلة الافزاعِ

إذ تستغيث وما لنفسك مانعٌ... عبد تردده بدار ضياعِ

هلا عجوز إذ تمد بثديها... وتصيح أن لا تزعن قناعي

فركبت رأسك ثم قلت أرى العدا... كثروا وأخلف موعد الاشياعِ

فأنجي بنفسك وابتغي نفقاً فما... لي طاقة بك والسلام وداعي

ليس الكريم بمن يخلّف أمه... وفتاته في المنزل الجعجاعِ

حذر المنية والرماح تنوشه... لم يرم دون نسائه بكراعِ

متأبطاً سيفاً عليه يلّمق... مثل الحمار أثرته بيفاعِ

لا خير في هذرٍ يهز لسانه... بكلامه والقلب غير شجاعِ

لابن الزبير غداة يذمر مبدراً... أولى بغاية كل يوم وقاعِ

وأحق بالصبر الجميل من امرىء... كز انامله قصير الباعِ

جعد اليدين عن السماحة والندى... وعن الضريبة فاحشٍ منّاعِ

كم يا عبيد الله عندك من دمٍ... يسعى ليدركه بقتلك ساعي

ومعاشر أنف ابحت حريمهم... فرقتهم من بعد طول جماعِ

اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً... وبني عقيل فارس المرباعِ

اما في قتل عبيد الله بن زياد فلم يكن شيء أشد فرحاً على قلبه من هذا الخبر يقول في ذلك:

ان الذي عاش حثّاراً بذمته... ومات عبداً قتيل الله بالزابِ

العبد للعبد لا أصلٌ ولا طرفٌ... ألوت به ذات اظفار وأنيابِ

ان المنايا إذا ما زرن طاغية... هتكن عنه ستوراً بين أبوابِ

هلا جموع نزار إذ لقيتهم كنت... امرءً من نزار غير مرتابِ

لا أنت زاحمت عن ملك فتمنعه... ولا مددت الى قوم بأسبابِ

ما شق جيب ولا ناحتك نائمة... ولا بكتك جيادٌ عند أسلابِ

وهكا قيّض لهذ القصة ان تنتهي بموت الطاغية وانتصار الشاعر بعد حرب جسدية ونفسية طويلة ولم يعش ابن مفرّغ طويلاً بعد ابن زياد لكنه بالتأكيد كان موته مطمئناً بعد ان تأكد من موت الطاغية وكانت وفاة ابن مفرّغ عام69هـ.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/آذار/2012 - 23/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م