بقيت بعيدة عن الأضواء ومواقع السلطة لسنوات عديدة ولم تحصل على
منصب رسمي في دولها العربية والإسلامية سواء في عصرنا الحاضر أو الحديث
على اقل تقدير، بل انها تعرضت لقمع شديد من قبل الانظمة الدكتاتورية
الحاكمة. إنها الحركات الإسلامية التي يرى البعض انها تمثل أوسع شريحة
من مكونات الشعوب الشرق أوسطية، ورغم كونها أقوى الحركات المعارضة، إلا
إنها بقيت خارج اللعبة السياسية لعقود، ولم يفلح الزخم الجماهيري
الواسع الذي تملكه في إحداث أي تغيير في المعادلة السياسة ولا تغيير
حكومة واحدة سواء من الملكيات او من المعسكر القديم في مواقع نشاطها.
ربيع الشعوب العربية أيقظ الحركات الإسلامية بشكل كبير ودفعها مرة
أخرى الى الواجهة، بل ان اغلب الثورات التي بدأت بشكل عفوي أخذت منحى
دينيا بعد تدخل سريع للإسلاميين فيها وركوب موجتها، بحيث أصبحت الثورات
المتتالية توسم بالمد الإسلامي حتى بطريقة التظاهر والشعارات التي ترفع،
وغدت أيام الجمع التي تشهد صلوات الجمعة مناسبة لحشد اكبر عدد ممكن
لأنصارها وتسخيرها لتثبيت وجودها بشكل او بآخر.
الأغلب ينظر الى تلك الحركات والأحزاب نظرة التبجيل كونها تستمد
شرعيتها من عنوانها الكبير وهو الدين الإسلامي الحنيف، بل ان هناك من
يقف لها ولتاريخها باحترام كونها مثلت سجلا حافلا بمقارعة الدكتاتوريات
والاستبداد، وان لم تفلح في إحداث تغيير في مساحات عملها ولكنها بقيت
تحظى عموما بحسن ظن قواعدها وحتى من لا ينتمي الى تنظيماتها ومسلكها.
هذه الثقة التي حصلت عليها تلك الحركات في سابق زمنها تمر اليوم
بمنعطف خطير واختبار حقيقي، فاغلبها تمكنت من الوصول الى السلطة
واستحكمت قبضتها عليها بشكل واسع، وهنا بدأ الاختبار والانتظار في ان
تجسد شعاراتها التي طالما رفعتها وطالبت غيرها من الحكومات الاستبدادية
بالسير فيها، مضافا لذلك إن المعادلة الدولية تعيش اليوم تغيير واضح
بقبول الإسلاميين كقابضين على حكومات والتعامل معهم من موقع السلطة بعد
أن رفضت اغلب دول الغرب وصولهم لهذه المواقع فترات طويلة.
ولما سبق يرى بعض المحللين في الوضع القادم لعمل الحركات الإسلامية
تصورا لإحدى الحالتين، فإما الظاهرة الطالبانية في أفغانستان
والإنقاذية في الجزائر واللتان مثلتا أقصى درجات الاستخفاف بحقوق
الإنسان والانتهاك الواسع لهما والغور في أعماق التشدد والتمييز وبناء
سلطة (المتطرفين) بعيدا عن أي قانون شرعي او عقلي معقول، أو الذهاب
باتجاه التجربتين الماليزية والتركية رغم إن كلاهما ليست عناوين
إسلامية بحتة بل هي عبارة عن مشروع عصري يجد في الإسلام خلفية لبناء
دولة مؤسساتية ومدنية ورفاهية واتزان.
من جانب آخر يطرح البعض أفكارا جديدة يحث من خلالها الإسلاميين
بالسير فيها بمنحى مغاير لما سبق لإثبات نجاحهم وقدرتهم على التواصل مع
قواعدهم ومحيطهم الإقليمي ودول العالم التي تنتظر منهم أن يقروا قوانين
لتعدد الحريات والانفتاح بشكل اكبر على العالم، يستند هؤلاء المفكرين
على نقاط عدة لضرورة نجاح حركات الإسلاميين كسلطة مشترطين فيها:
1- عدم الانفراد بالسلطة والوصول الى لغة تفاهمية مع شركائهم
الآخرين في الربيع العربي حتى التي لم تحصل على فرصة الفوز
بالانتخابات، والعمل على تشكيل برنامج يحدد طبيعة الوضع الذي يرغبون
بإنشائه والسير فيه مع الأخذ بنظر الاعتبار الوضع الدولي والإقليمي
الجديد والمجتمع الحالي ومتطلباته.
2- إيجاد صيغة للتفاهم مع الأحزاب والمكونات الأخرى بتوجهاتها
المختلفة والعمل على وضع برنامج سياسي واجتماعي مشترك يحترم مبادئ
التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، والحريات العامة والخاصة.
3- صياغتهم برامج تستمد من الحرية والتنمية وحقوق الانسان ، لها
القدرة على مواكبة روح العصر كحركات سلطة وليست معارضة، وبناء حكومات
صحيحة المسار مستفيدين من أخطاء الحكومات السابقة.
4- وضع قراءة جديدة للتعامل مع الدول الغربية لا تنزع عن الإسلاميين
شرعيتهم، وبنفس الوقت لا تضعهم في موضع الخنوع او التبعية بشكل يحفظ
عنوانهم الأسمى وحرية شعوبهم وكرامة العيش لمواطنيهم واسترداد حقوقهم.
5- العمل على إصلاح ما فسد من جوانب الدولة والاجتماعية منها خصوصا،
والتركيز على بناء الشخصية الإسلامية والإنسانية أولا كمفردة عليا دون
التجاوز والانتقاص من باقي الأديان وبطريقة عقلية ومخطط لها، او كما
يعبر المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في
كتابه (فقه الاجتماع) حيث يقول في هذا الجانب (...الإصلاح يكون
بالهندسة الاجتماعية، أي التخطيط الاجتماعي برسم خريطة عامة للبلاد في
الحاضر، وخريطة أخرى للبلاد في المستقبل مما ينبغي أن تكون البلاد
عليها)، ويؤكد الإمام الشيرازي، أن الإصلاح يجب أن يتحلى بالتجديد
والمغايرة وهذا أهم شروط نجاحه.
6- القراءة الصحيحة لطبيعة المجتمع الجديد الذي سيشكلون فيه قوة
أساسية وفاعلة، وعدم الاستخفاف بأي وجهة نظر و رأي مخالف او مؤالف على
حد سواء فهذا يعبر عن مدى قدرتهم على الاحتواء والانفتاح.
7- العمل على إنشاء حكومات نظيفة السمعة يكون هدفها الأول رفعة صورة
الإسلام وكرامة الإنسان وتقديم الخدمات ومدنية المجتمع وأمنه ومحاربة
الفساد، فان أي تنازل عن هذا المطالب ستنزلق الأمور الى حكومات فاسدة
لا تختلف كثيرا عما سبقتها من أنظمة دكتاتورية وان اختلفت في العناوين.
8- وضعهم لتصور عن آلية بناء دولة المؤسسات والمجتمع المدني بعيدا
عن العسكرة والعنف ونبذ الإرهاب والتطرف والظهور بصورة الإسلام الحقيقي
من صور العدالة والتسامح وقبول الآخر أيا كان صنفه وإشعار المواطن
بالأمن وكرامة العيش التي طالما فقدها في الأزمنة الماضية.
فليس بخاف إن إسلاميي السلطة يعيشون اليوم صراعا كبيرا، فالتوفيق
بين ما كانوا يرفعون من شعارات تصطدم اليوم بجدران كثيرة، والكثير من
قواعدهم تريد منهم الاستمرار بنفس الشدة والتصلب والتشدد الديني فيما
يرفض الكثير من فئات الشعوب التي باتوا يسيطرون على مقاليد الحكم فيها
أي كلام عن هذا النوع من الحكم، ولاسيما وان اغلب تلك الشعوب متنوع
القومية والطائفة والمذهب، وفيما لو قرروا الاعتدال والتعامل بطريقة
أكثر ايجابية وهدوء وبخطاب غير منفعل مع وضعهم القادم فان قواعدهم
وخصوصا التي صوتت لهم في الانتخابات ستنصرف عنهم بغير رجعة كونهم
يعتبرون ذلك خيانة لما وعدتهم به حركاتهم الإسلامية من بناء دولة
(الخلافة الراشدة)، وهذا مالا تسمح به لهم لا الظروف الإقليمية ولا
الدولية فضلا عن الداخلية.
الحركات الإسلامية اليوم ورغم إنها تعيش ربيعها المنشود منذ قديم
الزمان إلا إنها تعلم بأنها تتحرك ضمن وقت حرج وبفترات لن تدوم طويلا
حتى ينتهي الطريق بها، فأما نجاح في بناء دولة المؤسسات والمجتمع
المدني او أخفاق في آخر فرصة لاختبار السلطة.
لذا فان الإسلاميين وحركاتهم السياسية يعيشون فترة واختبار عصيب في
نفس الوقت، واجتيازه ليس صعبا ولكن يحتاج الى إذن واعية وعقلا متفتحا
وسعة في الصدر وتعاطيا ايجابيا مع الآخرين.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com/index.htm |