الشريف المرتضى... مفخرة العلم والادب

محمد طاهر الصفار

 

شبكة النبأ: الحديث عن السيد الأجل الشريف المرتضى حديث شيّق يحمل ابعاداً علمية وفكرية وادبية، فهذا الرجل الفذ كان نادرة قلّما يجود بها الزمن واشراقة انارت تاريخ العلم والادب ولعل أدل قول ينطبق عليه هو قول ابن بسّام في كتابه الذخيرة حينما قال، (كان هذا الشريف امام أئمة العراق اليه فزع علماؤها ومنه أخذ عظماؤها صاحب مدارسها وجماع شاردها وآنسها وكان ممن سارت اخباره وعرفت به أشعاره وتصانيفه في احكام المسلمين ممن يشهد انه فرّع تلك الاصول ومن ذلك البيت الجليل).

وفي الحقيقة ان سفر هذا العلم الفذ بحر زاخر يموج بشتى المعارف والعلوم وهذه الحقيقة حينما يعيها الدارس عنه يشعر ان مهمته عظيمة على الذهن جليلة على الفكر كبيرة على القلم ولكنها في نفس الوقت رحلة ممتعة شيقة ساحرة تأخذ بروح القاريء الى آفاق علمية وادبية رحبة.

لقد تبوأ هذا العالم الجليل من المكانة السامية والمنزلة العلمية ما قلّ ان يتبوّأها احد وقد شاركه اخوه الشريف الرضي في هذه المكانة حتى قيل (لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس ولولا المرتضى لكان الرضي أعلم الناس)، فكانا قمران أضاءا فضاء العلم وبحران يهبان النماء.

في القرن الرابع والذي يعد من أخصب القرون في تاريخ الامة الاسلامية لما شهده من كثرة العلماء والادباء كانت بغداد على موعد مع ولادة نجمها الذهبي، ففي عام355هـ ولد ابو القاسم علي الملقب بـ(الشريف المرتضى) و(علم الهدى) بن الحسين بن موسى بن محمد بن ابراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب(ع)، وبعد اربع سنوات أي في عام 359هـ ولد اخوه لأمه وأبيه ابو الحسن الملقب بـ(الشريف الرضي) وأمهما هي السيدة فاطمة بنت الحسين بن الحسن (الناصر الاطروش صاحب الديلم وشيخ الطالبيين وعالمهم وشاعرهم)، بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب(ع).

درس السيد المرتضى هو وأخوه الرضي عند ابن نُباتة صاحب الخطب وهما طفلان،ثم درسا عند الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان العكبري البغدادي وهو من كبار علماء الامامية في ذلك الوقت وكان هذا الشيخ قد رأى في منامه ان فاطمة الزهراء(ع) دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين(ع) وهما صغيران فسلمتهما اليه وقالت (علّمهما الفقه) فإنتبه الشيخ وتعجب من ذلك، فلما اصبح دخلت عليه المسجد فاطمة بنت الناصر وبين يديها ابناها علي و محمد، فقام اليهما وسلّم عليهما،فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد احضرتهما اليك لتعلمهما الفقه، فبكى الشيخ وقصّ عليها المنام وتولّى تعليمهما وأنعم الله عليهما وفتح الله لهما من ابواب العلوم والفضائل ما أشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهذه الكرامة ليست جديدة على هذه الاسرة الطاهرة بأواصرها النبوية ومآثرها العلوية والتي توارثت الامجاد والمناقب سيداً عن سيد، فقد كان أبو احمد الحسين- والد الشريفين- نقيب الطالبيين وقد لقبه بهاء الدولة بن بويه بالطاهر الاوحد وكان السفير بين آل بويه وبين الحمدانيين وهو على جانب عظيم من المنزلة عندهم.

تلقى السيد المرتضى الفقه والاصول والتفسير وعلم الكلام عن استاذه الشيخ المفيد منذ حداثة سنه ورغم انه استقى من غيره من العلماء الكبار في ذلك الوقت أمثال سهل بن احمد الديباجي وابي الحسن الجندي واحمد بن محمد بن عمران الكاتب... وغيرهم، إلا ان أعظم الشيوخ الذين تلقى عنهم واستفاد منهم وكان له تأثير كبير عليه وتجلى ذلك في مؤلفاته هما الشيخ المفيد الذي انتهت اليه رئاسة الامامية في عصره والشيخ أبي عبد الله المرزباني الذي كان إماماً من أئمة الادب وعلماً من اعلام الرواية وكانت داره مقصد العلماء والادباء، ومعظم ما رواه السيد المرتضى في كتبه من الشعر واللغة والاخبار تلقّاه عنه وخاصة في كتابه الكبير غرر الفوائد ودرر القلائد المعروف بأمالي المرتضى ثم استقلّ المرتضى بالرأي بعد ذلك وتفرّغ للتدريس والتأليف فوضع الكثير من الكتب والرسائل والتصانيف واستنزف أيامه في المطالعة والتأليف، مؤثراً مجالسة العلماء وطلاب العلم على مخالطة الرؤساء وذوي السلطان بل انه زهد فيما ورّث له ابوه من نقابة الطالبيين والنظر في المظالم وإمارة الحج وآثر بها أخاه الرضي ليحقق رغبته في الانقطاع الى العلم والخلوة الى القراءة والدرس، ولم يتولّ شيئاً من هذه المناصب إلاّ بعد وفاة أخيه وقد اعانه ما تهيأ له من مكتبة واسعة تحتوي على اكثر من ثمانين ألف مجلد وقد قوّمت بعد وفاته بثلاثين ألف دينار كما ذكر الثعالبي ومن أشهر تآليفه (أماليه) و (دليل الموحدين) و(الحدود والحقائق) و(تنزيه الانبياء) و(جواب الملحدة في قدم العالم من اقوال المنجمين) و(الذخيرة في الكلام وفي اصول الدين)، و (الملخص في اصول الدين) و(الوعيد).

ومن كتبه الفقهية التي كانت تعد مرجعاً مهماً للشيعة في عصره وبعده (الانتصار فيما انفردت به الامامية) و(المرموق في اوصاف البروق) و (فنون القرآن) و (الذريعة في اصول الفقه) و(شرح الخطبة الشقشقية)... وغيرها، ومازالت كتبه ومؤلفاته حتى اليوم تعد مصدراً مهماً لأصول الشيعة كما تعد أراؤه معبراً عنهم في آرائهم حول تنزيه الانبياء والأئمة وعصمتهم، كما يتضح ذلك من كتابيه(تنزيه الانبياء) و(الشافي) في الامامة.

كان السيد المرتضى في نعم سابغة وخير كثير وثروة قلّ ان تتهيأ لمثله من العلماء وقد سخّر كل ثروته في سبيل العلم وطلابه، فقد روي انه كانت له ثمانون قرية بين بغداد وكربلاء يشقها بنهر ينتهي الى الفرات وكانت السفن تسير فيه رائحة غادية تحمل السفر والزوار وخاصة في موسم الحجيج وكان لهم فيما يساقط من ثمار الاشجار العاطفة على النهر فاكهة موقوفة عليهم ولغيرهم ممن تحمل السفن وقدّروا ما تغلّه هذه القرى بأربعة وعشرين ألف دينار في العام، وقد تمكّن بفضل هذه الثروة من أن يعيش في داره مكفول الرزق مقضي الحاجات لا يشغله ما يشغل غيره من شؤون الدنيا ومطالب الحياة ولا يصرفه شيء عن القراءة والدرس والتصنيف والفتيا بل تمكن من أن يقضي حاجة قلبه من البر والاحسان بالناس ومواصلتهم والعطف عليهم وخاصة من كان يمت الى العلم بصلة أو يدلي اليه برحم مامة فكان منزله داراً للضيافة ومدرسة للتعلّم والمدارسة، كما جعل الكثير من تلاميذه مرتبات منظمة واموالاً موقوفة عليهم فأجرى على تلميذه أبي الحسن الطوسي – شيخ الطائفة وصاحب تفسير مجمع البيان- اثني عشر ديناراً في الشهر في ثلاثة وعشرين عاماً قضاها في صحبته الى أن مات، كما أجرى للقاضي عبد العزيز البراج ثمانية وعشرين ديناراً في الشهر وغيرهما الكثير، ووقف قرية كاملة يجري خيرها على ورق الفقهاء خاصة رغبة في نشر الثقافة والعلم بين الناس.

كما كان يتكفل لطلاب العلم بكل ما يحتاجونه من ايواء وقوت وكان يدّرس في علوم كثيرة متنوعة وقد تخرج على يديه مجموعة كبيرة من العلماء في شتى المجالات، وقد أصبحوا فيما بعد أئمة عصورهم، وابرز من تخرج على يديه شيخ الطائفة الطوسي والقاضي عبد العزيز بن البراج وعماد الدين المروزي وابو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وابو الصلاح الحلبي وابو يعلى سلار بن عبد العزيز الدليمي والفقيه احمد بن الحسن النيسابوري وابو الفضل الثيابي وابو عبد الله جعفر بن محمد الدرويستي والبصروي والفقيه الصهرشتي والنقيب الرازي والمتكلم ابو الفتح الكراجكي وعبد الرحمن بن احمد النيسابوري... وغيرهم الكثير.

كان السيد المرتضى على جانب كبير من الخلق ورحابة الصدر ونبل الخصال، فقد روي انه احتال رجل يهودي على تحصيل المال وشفاعته الرغبة في العلم فحضر مجلس المرتضى واستأذنه في أن يقرأ عليه شيئاً من علم النجوم، فأذن له وأمر له بجائزة تجري عليه في كل يوم،فقرأ عليه برهة ثم أسلم. ومن امثال هذه القصص الكثيرة التي تروى عنه في كريم اخلاقه ما رواه ابن خكان عن ابي زكريا التبريزي ان ابا الحسن علي بن احمد القالي الاديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لإبن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة الى بيعها فإشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً وتصفحها فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن القالي يقول فيها:

أنست بها عشرين حولاً وبعتها... لقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظني انني سابيعها... ولا خلّدتني في السجون ديوني

ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ... صغار عليهم تستهل شؤوني

فقلت ولم أملك سوابق عبرة... مقالةً مكوي الفؤاد حزين

وقد تخرج الحاجات يا ام مالكٍ... كرائم من رب بهن ضنينِ

فلما قرأ المرتضى هذه الابيات أرجع اليه النسخة وترك الدنانير جرياً على عادته من صلته بأهل العلم وبرّه بهم فكانت الرحال تشد اليه ويفد اليه الناس من كل البلاد، وكان يضع لكلك منهم كتاباً في المسائل والفقه فتعددت رسائله ومسائله فوضع المسائل الديلمية والطوسية والمصرية وغيرها وبرع ونبغ في علم الكلام واصول الجدل وناظر المخالفين ولم يكن ابرغ منه في هذا المجال في وقته وكتابه الشافي في الإمامة حجة على سعة اطلاعه وعلمه في هذا العلم.

كما عُرف في تفسير القرآن وتأويله وما كشف عن علم مكنون لم يسبقه اليه غيره كما حفظ من اخبار العرب وأيامهم وأشعارهم ولغاتهم ما جعله في الرعيل الاول من الرواة والحفاظ والادباء، فكان مفخرة العصور ومعجزة الدهور، فهو إمام الفقه ومؤسس اصوله واستاذ الكلام ونابغة الشعر ورواية الحديث وبطل المناظرة والقدوة في اللغة وبه الاسوة في علوم العربية كلها والمرجع في تفسير القرآن الكريم وتأويله وله ديوان شعر يحتوي على أكثر من عشرين ألف بيت ومن شعره في مدح الائمة المعصومين قوله:

يا آل ياسين ومن حبهم منهج ذاك السنن الاقومِ

مهابط الاملاك أبياتهم ومستقر المنزل المحكمِ

فأنتم حجة الرب الورى على فصيح النطق أو أعجمِ

ومن كراماته ما روي من ان الوزير محمد بن الحسن مرض فرأى في منامه أمير المؤمنين(ع) يقول له: قُل لعلم الهدى يقرأ عليك حتى تبرأ، فقال الوزير: يا امير المؤمنين ومن علم الهدى؟، فقال(ع): علي بن الحسين الموسوي، فكتب اليه فقال: الله الله في أمري فإن قبولي لهذا اللقب شناعة علي، فقال الوزير: والله ما كتبت اليك إلاّ ما أمرني به مولاي أمير المؤمنين (ع)، فأضيف هذا اللقب الى ألقابه الاخرى (المرتضى) و (الاجل الطاهر) و (ذي المجدين).

وإضافة الى تصدّره مركز الرئاسة في العلوم والآداب فقد كان يعد من الشعراء الفحول ومن مجددي العلوم، كما وصفه ان الاثير، وقال ابن خلكان: كان نقيب الطالبيين وكان إماماً في علم الكلام والادب والشعر، وكان الشاعر الفيلسوف ابو العلاء المعري قد سمع فضائله وعلميته فإشتاق الى زيارته فحضر مجلسه فإمتحنه الشريف فوجد كل واحد منهما ضالته في الآخر فكان ابو العلاء المعري من روّاد مجلس الشريف المرتضى وعدّه السيد من شعراء مجلسه وجرى بينهما مذكرات في الرموز وغيرها، ولما خرج المعري من العراق سُئل عن السيد المرتضى فقال:

يا سائلي عنه لما جئت أسأله ألا هو الرجل العاري من العارِ

لو جئته لرأيت الناس في رجلٍ والدهر في ساعةٍ والارض في دارِ

وكما كان السيد المرتضى متفرداً في درسه متفنناً بمذاهب الكلام، بصيراً بحقائق السير والتاريخ والاخبار فقد أبى تفوّقاً عجيباً في التوفيق بين تأويل الآيات المتشابهة مما يبهم تأويله على الخاصة والعامة، وكذلك أبان بذهنه الوقاد الكشف عما دار على ألسنة العرب من نصوص ووفرة محفوظة وسعة اطلاعه على الشعر واللغة ومأثور الكلام وكان الطابع الذي يغلب عليه عرض الوجوه المختلفة والآراء المحتملة مجوّزاً في ذلك إمكان الاخذ بالآراء جميعاً وقد بذل جهده في تأليفه على تشييد مذهب أهل البيت(ع) والدفاع عن الحق ورفع الستار عن الحقيقة ومن أهم مؤلفاته بعد كتابيه الشافي والامالي الذخيرة في الاصول وابطال القياس والذريعة والرسالة الباهرة في العترة الطاهرة والتي عدت مصدراً للعلماء ومنهلاً للادباء على مر الاجيال.

ذكر الخوانساري في روضات الجنات في صفة السيد المرتضى انه كان نحيف الجسم حسن الصورة، وذكر أيضاً ان وفاته كانت سنة463هـ وصلى الله عليه ابنه ابو جعفر محمد وتولى غسله احمد بن الحسين النجاشي والشريف محمد بن جعفر الجعفري وتلميذه سلار بن عبد العزيز الدليمي، ودفن اولاً في داره ثم نقل الى جوار جده الحسين(ع)ودفن في مشهده مع أبيه واخيه الرضي، وذكر أيضاً (ان قبورهم ظاهرة مشهورة) والظاهر انها كانت ظاهرة في ذلك الوقت ويدل على ذلك ان هناك روايات تؤكد على انهم -أي الرضي والمرتضى وأبيهما- دفنوا عند قبر السيد ابراهيم المجاب جد المرتضى وحفيد الامام الكاظم(ع)، وقال السيد الطباطبائي عند ذكره للسيد المرتضى في كتابه الفوائد الرجالية بعد ان ذكر منزلته العلمية نقلاً عن الحسين بن علي بن شدقم الحسيني المدني صاحب مسائل الشيخ البهائي:(وبلغني ان بعض قضاة الاورام سنة 942 نبش قبره – أي قبر المرتضى – فرآه كما هو لم تغيّر الارض مه شيئاً، وحكى من رآه ان اثر الحناء في يديه ولحيته.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 13/آذار/2012 - 19/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م