في احد المؤتمرات القى وزير سابق محاضرة عن الملكيات وقدرتها على
التغيير والاصلاح وقارن ذلك بسوء التصرف وتدبير الامور في الجمهوريات
العربية وركز الوزير المثقف على دور الملك الايجابي في حفظ التوازن
وقيادة البلد واشار الى بعض التقصير الذي ارجعه الى حلقات الحكم خارج
اطار الديوان الملكي.
وحدثنا عن كيفية اختطاف الاصلاح السياسي من قبل اجهزة المخابرات
ووزارات الداخلية التي تصبح دولة داخل دولة وتفرض اساليبها ليس فقط على
الشعب باطيافه المتعددة بل على الملك نفسه الذي يتحول الى صورة لا
تستطيع مقاومة اجندة هذه الاجهزة المتصلة بالمجتمع عن طريق حلقات
المراقبة والتجسس واختراق مؤسسات خارجة عن اطار اختصاصها وعملها. فرسم
المحاضر لنا صورة عن الملك الضعيف الخاضع لارادة مؤسسات من المفروض ان
يكون هو على رأسها تنفذ رؤيته الاصلاحية وتخضع لسيطرته ونظرته
المستقبلية لكنه بعثر هيبة الملك وصورته وجعله رمزا بعيدا عن تدبير
شؤون الدولة وبما ان المحاضر كان يحدثنا عن ملكية فيها من مظاهر الحياة
البرلمانية ما يجعلها تقترب من نمط الملكيات الدستورية اراد ان يبرهن
للحضور ان الملكيات عادة تكون مرنة قادرة على استيعاب الصدمات من خلال
المؤسسات الموجودة رغم محدوديتها وعلى رأسها ملوك قريبون من شعوبهم
يتألمون لألمهم على عكس رؤساء الجمهوريات الدموية وحكامها من المدنيين
والعسكر معا.
صدم بعض الحاضرين في المؤتمر من هذا الطرح وتصدى احدهم للمحاضر
بأسئلة لا تحرد الا ملك تلك الدولة والذي صور في المحاضرة كملك ضعيف
تديره اجهزة مخابرات وأمن لا يستطيع ان يتجاوزها الا بتعيين رئيس وزارة
ومن ثم تصريفه وعزله وتعيين آخر مكانه وتدور الايام وتستمر لعبة
التعيين والعزل فيستفيد من الدوامة طيف كبير من الشخصيات في مدة قصيرة
وتتسع حلقات الولاء لتطال شريحة كبيرة من النخب السياسية الموجودة على
الساحة. ففي مثل هذه الملكية تتحول لعبة تعيين وعزل رئيس الوزراء الى
محاولة لتجنب أزمة اكبر تتعلق بطبيعة الحكم الملكي نفسه وقدرته على
الديمومة في ظل التحولات التاريخية على الساحة العربية.
ورغم تخصص المحاضر في شؤون بلده الا ان محاضرته قيمة حيث انها تفتح
المجال لتساؤلات تطال دولا تطمح فيها بعض الشرائح السياسية الى نمط
ملكية دستورية كالسعودية مثلا فهناك اكثر من بيان صدر ووقع عليه عدد لا
بأس به من النخب الثقافية والسياسية منذ عام 2003 وكل هذه البيانات
تطالب بنقلة الى الحكم الملكي الدستوري كبداية لاصلاح سياسي فعلي ورغم
ان المشروع بدا في الستينات الا انه توارى عن الانظار وعاد ليظهر من
جديد خلال العقدين الماضيين كان آخر هذه الدعوات في شهر شباط (فبراير)
عام 2011.
ويعتمد الطرح الاصلاحي في مثل هذه البيانات على المطالبة بمجلس
منتخب له من الصلاحيات بعض الشيء ليتمكن المجتمع من تمثيل مصالحه
ومطالبه ورغم ان مثل هذه المجالس في الملكيات الدستورية العربية تعتبر
ضعيفة ومشلولة عندما تتصدى للسياسة الكبرى الا انها خطوة اولى صغيرة في
الطريق الى التطور السياسي حسب افكار المطالبين بمثل هذه المطالب وتظل
هذه البرلمانات غير قادرة على تغيير سياسات قديمة او المحاسبة الحقيقية
الا في حالة نادرة كالحالة الكويتية والتي تنتظر خطوة او خطوتين لتتحول
الى ملكية دستورية فعلية.
اما في السعودية حيث تنعدم ابسط المؤسسات التمثيلية فنحن هنا بصدد
حكم لم يتطور الا شكليا من خلال النظام الاساسي والذي كرس هيمنة الاسرة
الحاكمة المطلقة رغم انه تمخض عن محلي شورى صوري وشكلي تجاوزته المرحلة
واللحظة التاريخية الحالية.
وبغياب المؤسسات الضعيفة في الملكيات الدستورية تجد السعودية نفسها
محرومة حتى من صورة رئيس الوزراء الشكلية او البرلمان الصوري وتستعيض
عنه بمصطلح البطانة والتي اصبحت تلعب دور اسفنجة تمتص الصدمات لتحمي
شخصية الملك وقراراته صائبة كانت او خاطئة.
فالثرثرة السعودية الحالية عن البطانة المستفردة بتدبير شؤون الدولة
تمتص غضب الشارع وتلقي باللوم في اي فشل اداري او سياسي او اقتصادي على
تلك البطانة وتنعت البطانة وبعض رموزها بالتقصير والفساد والاقصاء
والسيطرة على القرارات المهمة بل التفرد برسم سياسة الدولة وفرض
اجندتها على رأس الهرم وعند كل منعطف كارثي او ازمة داخلية تستحضر
البطانة بمفهومها الفضفاض او بالتحديد او بأسمائها وتسقط عليها
الاتهامات وتعتبر مسؤولة عن كل سلبيات الممارسات السياسية والقرارات
المصيرية. وبما ان مصطلح البطانة يبدو مستشريا افقيا في المجتمع لا بد
انه يطرب اسماع الحلقة الضيقة المسيطرة على القرار السياسي وهي لا
تقتصر على الملك بل تضم في السعودية مجموعة كبيرة من الامراء لكل واحد
منهم بطانته الخاصة.
واصبحت هذه البطانة كحكومة ظل او بمعنى آخر حكومة حقيقية حيث تبدو
الدولة على حقيقتها دون بهرجة ملكية وتضخيم للانجاز خاصة في المجال
العام المسوق اعلاميا. فالبطانة تدير السياسة والخدمات وتتعاطى مع
معضلة تدبير الشأن المحلي حيث يتعرف المواطن على ممارسات دولته
وتقصيرها في مجالات الخدمات التربوية والصحية والقضائية والتنموية
باشكالها المختلفة وكلها تحت سيطرة وتدبير حكومة الظل هذه. في ظل هذه
التركيبة تجد السعودية نفسها في مأزق ازدواجية السلطة فهناك دولة
المسؤول الرئيسي فيها يردد انه 'منكم وفيكم' ويعمل 'لخدمتكم' ويسهر على
حل مشاكلكم وهو ابعد ما يكون عن هذا الشعب بسبب المنصب والمركز وهناك
دولة البطانة القريبة من المجتمع حيث هي من المجتمع لكنها حسب السرديات
المضادة تعتبر فاسدة مقصرة انتهازية منتهكة لابسط حقوق المواطن منتفعة
بسبب سيطرتها على موارد الدولة ومؤسساتها.
استطاعت هذه الازدواجية ان تقسم ادارة الدولة الى شريحة ملكية تدعي
القرب وهي بعيدة وشريحة ادارية قريبة لكنها بعيدة عن هموم المواطن
ومشاكله. بل تقصيرها يؤدي الى كوارث بيئية واقتصادية وعدم القدرة على
حل معضلات مثل البطالة والتقصير في الخدمات التربوية والصحية والسكنية.
اصبح النظام السعودي في ظل هذه التحولات نظاما مصابا بانفصام في شخصيته
يجعله يحتوي شخصية للاستهلاك الاعلامي العالمي والمحلي كنظام اصلاحي
سابق لعصره في انجازاته وتخطيطاته المستقبلية وكرمه على شعبه وشخصية
حقيقية تديرها ما يصطلح عليه انه بطانة كبيرة ومتشعبة.
وتخدم هذه الحالة الفصامية الشخصية الاولى اذ انها تحميها من النقد
وتمتص الغضب الشعبي تجاه التقصير في تلبية حاجات المواطن تماما كما
يمتص رئيس الوزراء المعين من قبل الملك الغضب الشعبي في الملكيات
الدستورية فيعزل ويبدل بين الحين والحين. لكن في السعودية تنعدم مثل
هذه الآلية حيث ان الملك هو نفسه رئيس الوزراء ويجمع بين سلطات متشعبة
ولا يمكن له ان يبدل ذاته او يعزل شخصه كما يفعل ملوك الملكيات
الدستورية تجاه رئيس وزرائهم المعين من قبلهم. فالملك الدستوري على
الطريقة العربية له هذا المنفذ ليخلصه من مآزق طارئة لكن نظيره السعودي
يفتقد لذلك المخرج المريح فيبقى حبيسا لمحدودية دولته ومؤسساتها. واسوأ
من ذلك نجده لا يستطيع عزل ولي عهده وهو ايضا يجمع في شخصه ولاية العهد
ووزارة الداخلية.
من هنا تكمن اهمية ذلك المصطلح المبهم الفضفاض والذي اتى رحمة
للسلطة الا وهو مصطلح البطانة القديم المطعم بمفاهيم قديمة بالية
يستحضرها المجتمع السعودي ليجد مخرجا لمأزقه الوجودي المتمثل في خضوعه
لسلطة دولتين دولة الظاهرة ودولة الباطن. في الاولى نجد الابهة والثروة
والوعود واحصائيات التنمية والرخاء ومقولات الامن والامان وفي الثانية
نجد الواقع الحقيقي ومعاناة المواطن وغياب الحقوق السياسية والمدنية
والاعتقال والتقييد على الحريات وطوابير البحث عن العمل واسرة في
المستشفيات او مقاعد دراسية في الجامعات. في دولة الظاهر هناك صروح
مشيدة وتنمية مرئية اما في دولة الباطن هناك المطبات على الطرق وحوادث
تصادم مريعة وبذلك تكون دولة الظاهر هي دولة الحلم التي تصطدم بالكابوس
الواقعي.
وكلما تباعدت دولة الظاهر عن الباطن كلما كانت البطانة مهمة
كاستراتيجية تنفيسية تمتص المطبات في محاولة بائسة لاستيعاب الصدمات
عندما يبدأ المواطن يعيش حالة وعي لا تتوقعها دولة الظاهر. هذا الوعي
كفيل بردم الهوة بين الدولة المرئية الظاهرة وظلها على أرض الواقع.
فالمواطن بدأ يعيش مرحلة الوعي ويطالب بتقريب المسافة بين الوعود
والحقيقة وهذا وحده من سينتشل الحالة السعودية من ازدواجيتها
وانفصامها. فالدولة المنشطرة الى قسمين هي دولة فاشلة لن تستطيع
البطانة والقاء اللوم عليها ان ينتشلاها من مأزقها الحالي مهما حصنت
دولة الظاهر نفسها بقوانين تشدد على عصمتها وتجرم انتقادها وتجعلها
دولة ظاهر معصومة ومقدسة. فالوعي وحده خطوة استباقية تؤدي الى حراك
واسع من اجل دولة واحدة تفي بوعودها دون ان تسترخي على اسفنجة بطانة
تشبعت نقدا لن يردم الهوة بين صروح الظاهر وسلبيات الواقع.
* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
صحيفة القدس العربي |