عباس المكي... الموسوعة العلمية المتنقلة

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: علم من أعلام الامة الإسلامية وفذ من افذاذ مدرسة أهل البيت(ع) جوّاب آفاق لا يفتأ عن شد الرحال لطلب العلم وتعليمه فكان مدرسة متنقلة نهل منها الكثير ولا تزال تتدفق بنميرها من خلال آثاره التي تركها للأجيال في شتى مجالات العلم والادب انه السيد عباس بن السيد علي بن نور الدين علي بن علي نور الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن محمد بن تاج الدين المعروف بأبي الحسن العاملي الموسوي  جد السادة آل شرف الدين وآل الصدر وآل المرتضى وآل نور الدين في جبل عامل بن محمد بن عبد الله بن احمد بن حمزة بن سعد الله بن حمزة بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن طاهر بن الحسين بن موسى بن ابراهيم بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع).

كما اثبت نسبه الشيخ الحر العاملي في أمل الآمل. ولد في مكة المكرمة سنة(1110)هـ ونشأ بها وفي سن التاسعة من عمره مات ابوه فذاق مرارة اليتم منذ نعومة اظافره فتولى تربيته والعناية به اخواه السيد مصطفى والسيد سلمان ولم تذكر كتب التاريخ شيئاً عن حياته الاولى ودراسته سوى ما دونه هو في مذكراته ورحلاته ولقائه بأستاذه الاول نصر الله الحائري في مكة المكرمة، وبالرجوع الى ما كتبه عن حياته وتسليط الضوء عليها نجد انه عاش حياة اجتماعية قاسية مريرة.

فقد شاءت له الاقدار أن لا يستقر في مكان بسبب حالته المادية المتدهورة وهي التي دعته الى هجر موطنه وموطن آبائه والنزوح عنها والتغرب في البلدان البعيدة وتبدأ فكرة سفره من مكة كما يصرح هو حينما التقى فيها بالسيد الشهيد نصر الله الحائري الفائزي الذي كان اول استاذ له وذلك سنة(1130)هـ فأشار عليه بالسفر معه الى العراق وحثه على ذلك وانشده قول امير المؤمنين(ع):

تغرّب عن الاوطان في طلب العلمِ... وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ

تـــــفــرج هـــــمٍ واكــتساب معيشةٍ... وعلــــــم وآداب وصــحبةُ مــــاجدِ

فإن قيل في الاسفار ذلٌ ومحنةٌ... وقطع الفيافي وارتكاب الشدائدِ

فموت الفتى خيرٌ له من مقامه... بدارِ هوانٍ بين واشٍ وحــــــــاسدِ

وكانت سفرته هذه هي نواة أسفاره الكثيرة التي تلتها والتي تمخضت عنها الكثير من التجارب والفوائد التي صقلت شخصيته وغذّت ملكته النفسية والعلمية والادبية فيقول عن سفره:

لم أغترب إلا لأكتسب العُـــــــلى... فأسقي منه كل ذي ظمأ سجلا

ويعلو الغمام الارض من أجل انه... يسوق اليها وهي لن تبرح الوبلا

اذا ما قضتْ نفسي من العز حاجة   فلست أبالي الدهر أملى لها أم لا

ورغم انه يعز عليه أن يفارق بيت الله الحرام ومآثر أجداده العظام:

بلاد نيطت عليّ تمائمي... واول أرض مسّ جلدي ترابها

لكنه يتأسى برسول الله(ص) حينما تعرّض لأذى المشركين فهاجر منها الى المدينة المنورة كما يتألم من غدر الزمان الذي من شأنه محاربة النفوس الأبية امثاله:

هذا الزمان على ما فيه من كدرٍ... حكى انقلاب لياليه بأهليه

غدير ماءٍ تراءى في أسافله... خيال قومٍ تمشّوا في نواحيه

فالرجل تنظر موفوعاً أسافلها... والرأس ينظر منكوساً أعاليه

وكان مما ينكأ جراحه ويزيدها إيلاماً انه تعرّض للأذى من أقرب أقربائه حسب قوله: (وبليت فيه بأقارب هم في الحقيقة كالعقارب واصحاب واخوان أشد أذية من الثعبان):

واخوان أتخذتهم دروعاً... فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاماً صائبات... فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب... لقد صدقوا ولكن عن ودادي

وقالوا قد سعينا كل سعيٍ... لقد صدقوا ولكن في فسادي

هذه كانت معاناته في بلاده والتي اضطرته الى مغادرتها وقد وجد في استاذه الاول نصر الله الحائري من العطف والمودة ما جعله يتشوّق الى السفر ويتأهب له وكانت رحلته الاولى بعد انقضاء موسم الج عام(1131)هـ مع السيد الحائري الى العراق وبالتحديد الى النجف الأشرف وقد لاقى في هذه المدينة من الحفاوة والتكريم ما جعله يسلو عن اهله وموطنه وكان نزوله في دار الشيخ ابراهيم الخميسي فأقام مدة شهر اجتمع خلالها بالعلماء الأعلام في هذه المدينة كما اجتمع بحاكم النجف يومئذ السيد مراد بن السيد احمد وفي نفس العام زار كربلاء فأقام شهرين وعن رحلته هذه قال يصفها في كتابه (نزهة الجليس): فلما أسفر الصباح عن وجه الهنا والانشراح رابع ربيع الاول عام (1131) هـ تولنا على الرب العلي ورحلنا من مشهد علي قاصدين زيارة الشهيد المدفون بكربلاء الحسين بن علي ومن معه من الشهداء الصابرين ففي خامس الشهر المذكور أتينا على الموضع الذي يسمى بالخان الاخير ومررنا في طريقنا بقبر النبي ذي الكفل(ع) فزرنا وبلغنا المرام وفي سادس الشهر دخلنا أرض الحائر مشهد الحسين الطاهر سلام الله عليه وعلى اخيه وعلى جده وابيه وامه وبنيه وسائر مواليه ومحبيه.

ثم ذكر بعد وصوله الى هذا الوصف من رحلت قصيدة طويلة في مدح أهل البيت (ع) ورثاء الامام الحسين (ع) وعدد فضائله ثم قال يصف الضريح الطاهر: فتشرفت والحمد لله بالزيارة ولاح لي من جنابه الشريف اشارة فاني قصدته لحال وما كل ما يعلم يقال وقرّت عيني بزيارة الشهيد علي الأصغر بن مولانا الحسين الشهيد الاكبر وزيارة سيدي الشهيد العباس بن علي بن ابي طالب(ع) وأما ضريح سيدي الحسين فبه جملة قناديل من الورق المرصّع والعين ما يبهت العين ومن انواع الجواهر الثمينة ما يساوي خراج مدينة وأغلب ذلك من ملوك العجم وعلى رأسه الشريف قنديل من الذهب الاحمر يبلغ وزنه منين بل أكثر وقد عقدت عليه قبة رفيعة السماك متصلة بالأفلاك وبناؤها عجيب، ثم يسترسل في وصفه فيصل الى وصف المدينة في ذلك الوقت ويقول: وقد أقمت شهرين بمشهد مولاي الحسين(ع) بلدة من كل المكاره جُنة واقمارها مبدرة وانوارها مسفرة ووجوه قطانها ضاحكة مستبشرة وقصورها كغرف من الجنان مصنوعة فيها سرر مرفوعة واكواب موضوعة وفواكهها مختلفة الالوان. وقال يصف أهلها: واهلها كرام امائل ليس لهم في عصرهم مماثل لم تلق فيهم غير عزيز جليل ورئيس صاحب خلق وخلق جميل وعالم وفاضل وماجد عادل يحبون الغريب ويصلونه من برهم.

والتقى صاحب الرحلة في كربلاء المقدسة بالسيد حسين الكليدار سادن الحضرة الشريفة الذي جمعه بالأمير حسين أوغلي بيك الذي كان متشرفاً بزيارة الحرم المطهر فأشار عليه أن يهذب معه الى أصفهان لكي يجمعه بالشاه حسين الصفوي فوجد عنده الرغبة في ذلك فسافر معه بعد ان تشرّف بزيارة المراقد المقدسة في الكاظمية وسامراء ووصفها بالتفصيل ودوّن ما شاهده فيها واجتمع بعلمائها وعند وصوله الى اصفهان نزل في دار الامير الذي اصطحبه ولكن لم يطل به المقام في اصفهان فعاد ايام الموسم مع الحجاج الى مكة المكرمة وخرج لاستقباله اخوه السيد سلمان ولكن هذه الرحلة قد حببت اليه السفر فأعاد الكرّة في السنة التالية الى العراق وزيارة المشاهد المشرفة ثم الى اصفهان ثم الى شيراز فنزل بدار امير شيراز وزار عدد من المدن الإيرانية ثم خرج منها الى الحسا ومنها الى البصرة وكان في كل سفراته يسجل مشاهداته الشخصية وملاحظاته الخاصة كما كان يدّن لقاءاته مع العلماء والأعلام وكل مارآه من نوادر وآثار كما يفعل الرحالة وقد وجد في مدة اقامته في البصرة من الحفاوة والتكريم ما لم يجد مثله في بقية البلدان كما وصف هو ذلك ومن البصرة صمم على السفر الى الهند فغادرها سنة(1133)هـ في مركب استأجره له الامير فارس خان امير سورت فدخل من بلاد الهند بلدة عالي مهان ثم بلدة برهانبور ثم بلاد كوند واند وفي كل هذه البلاد كان في استقباله امراؤها واعيانها ومحتسبيها ثم وصل الى شاه جهان آباد بصحبة شريف مكة الشيخ احمد علان وكان في طريقه الى احمد آباد فصادف اقامته فيها وقوع حرب بين الراجات فغادرها مع ركب عمة الامير قمر الدين خان وزير السلطان وكانت قاصدة للحج  فصحب الركب حتى دخل سورت عام(1138)هـ وفي السنة التالية خرج منها الى عدن ووصل بندر المخا وهناك اكرمه حاكمها واحتفى به واجلّه ايما اجلال وكان حاكمها يومئذ الامير احمد بن يحيى خزندار فأقام بها حتى عام(1140)هـ ثم توجه الى جدّة قاصداً الحج ومنها توجه الى المدينة المنورة ثم الى مكة المكرمة وبعد اداء مناسك الحج غادرها الى الطائف ثم رجع الى مكة ولكن بقاؤه لم يدم طويلاً حتى غادرها الى بندر اللحية ثم الى بيت الفقيه ومنها الى صنعاء ثم الى بندر المخا عام(1142)هـ وتكررت سفراته بين هذا البلد وموطنه الاصلي حتى استقر في الاول وتزوج فيه عام(1145)هـ وولد فيه ابنه عبد الله ومحمد وكان هذا البلد هو نهاية رحلاته وطوافه حول البلدان لكنه رجع في أخر ايامه الى مسقط رأسه مكة المكرمة فلبث فيها الى موسم الحج وتوفي هو وولده زين العابدين في سنة واحدة وله من العمر سبعون عاماً اما ولده فلم يتجاوز العشرين من عمره وكان ذلك عام(1180)هـ.

هذا ما اشتهر عن مكان وفاته لكن السيد الامين في اعيان الشيعة يقول في ترجمته انه توفي في جبشيت من جبل عامل في حدود سنة(1179)هـ وقد قارب السبعين وكان جده نور الدين هاجر الى مكة فولد ابوه فيها وولد هو فيها ايضاً.

وتعد أسرة السيد عباس المكي اسرة علمية مرموقة في جبل عامل برز منها الكثير من العلماء الأعلام وقد فاتنا الحديث عنها في بداية المقال لسردنا رحلته الى البلاد فمن آبائه واجداده العلماء الأعلام السيد حسين بن محمد بن الحسين العاملي والذي كان معاصراً للشهيد الثاني وقد زوجه ابنته وكان من أجلة سادات جبل عامل وله مؤلفات عديدة والسيد علي نور الدين بن الحسين وصفه المحقق الراماد بالسيد الثقة الثبت والسيد نور الدين علي بن علي نور الدين الذي وصفه البحراني في اللؤلؤة/ص40 بقوله: كان فاضلاً محققاً مشار اليه في وقته وقد حضر درسه الشيخ الحر العاملي في جبل عامل وهؤلاء العلماء الأعلام توجد تراجمهم ومؤلفاتهم في كتب تراجم اعلام الشيعة كـ(أمل الامل) للحر العاملي واعيان الشيعة للسيد الامين ولؤلؤة البحرين للبحراني وخاتمة المستدرك للمحدث النوري وغيرها من الكتب.

ولنعد الى السيد عباس المكي فقد كانت حياته المثيرة والمليئة بالترحال قد أضافت له الكثير من التجارب خاصة انه دوّن كل مارآه في رحلاته الكثيرة في كتابه نزهة الجليس وأضافت الى علميته فقد كا شاعراً متفنناً في أنماط الشعر ولم يقتصر نظمه للشعر على اللغة العربية فقد كان يتّقن العربية والفارسية والهندية والتركية بحكم أسفاره الكثيرة الى هذه البلاد واقامته فيها فاستفاد من أدبها وقرأ لشعرائها واطلع على أساليبهم وأفكارهم واستحسن الكثير منه مما حداه بأن يترجم الى العربية قصائد الشاعر الهندي (سورداس) وكتب قصائد ملمعة جمعت اللغات العربية والفارسية والتركية لتقارب حروفها ومن شعره اثناء اقامته في مدينة كربلاء المقدسة:

لله أيـام مضين بكربـلا... محروسة من كل كربٍ وبلا

بمشهد الطهرالحسين ذي العلا... ونسل خير الخلق في كل الملا

 فحفني بجوده تفضّلا... ونلت ما كنت له مؤملا

من زاده بالصدق فيه والولا... يعود محبوراً بلا شك ولا

وقوله من البديع في قبة الإمام امير المؤمنين عند زيارته للمرقد الشريف:

شبهت قبة حيدر... إذ ذهبت بمنارتين

بالنجم بل البدر... بل بالشمس بل بالفرقدين

كان السيد عباس المكي يحظى بمكانة كبيرة وحفاوة بالغة عند كل بلد يزوره لما اجتمعت فيه من الخصا الكريمة والمآثر الحميدة والادب الرفيع والعلم الجم وقد اثنى عليه كل من رآه والتقاه وسمع حديثه وكذلك كل من قرأ له بعد وفاته فقد ذكره الشرواني اليماني في كتابه(حديقة الافراح) فقال: السيد عباس بن علي الموسوي المكي صاحب نزهة الجليس المحتوى على كل معنى نفيس فصيح ألبسه حلّه الكمال وبليغ نسج القريض على أحسن منوال، ثم ذكر نماذج من شعره كما ذكره الشيخ علي بن محمد السبيتي العاملي الكفراوي في كتابه (العقد المنضّد) فقال: (كعبة أهل الادب وجهبذ الجهابذة في لغة العرب العباس بن علي...)، ثم ذكر بعض رحلاته وترجمته كما ترجمه السيد الامين في أعيان الشيعة والسيد شرف الدين في بغية الراغبين والحجة الشيخ أغابزرك الطهراني في الكواكب المنتشرة فقال: العالم الفاضل الكامل الناظم الناثر الجامع لكل الفضائل المؤرخ النسّابة المفسّر المحدث... كما وردت ترجمته في الكثير من كتب السير والأعلام منها الذريعة ومعجم المؤلفين والأعلام للزركلي وفهارس المكتبة الازهرية والبلدية ودار الكتب المصرية وتاريخ الادب العربي لبروكلمان.

اما مؤلفاته فالأثر الوحيد الذي بقي له هو كتاب (نزهة الجليس ومنية الاديب الانيس) وهو كتاب قيّم واثر نفيس اثنى عليه الكثير وله كتاب آخر ذكره المؤرخون هو (ازهار الناظرين في اخبار الأولين والآخرين)حيث أحال كثيراً على هذا الكتاب ويتبين من خلال هذه الاحالات الكثيرة الى انه مؤلف ضخم جامع لشتى العلوم كما ذكر له الحجة الخبير الرازي مؤلف الذريعة مؤلف آخر له هو(أزهار بستان الناظرين في سيرة رسول رب العالمين واخباره وآثاره) ووصفه بأنه مجلد ضخم وقال ان نسخته موجودة في خزانة الحاج الشيخ عبد الحسين بن الشيخ محمد رحيم البروجردي المشهدي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/آذار/2012 - 12/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م