مما لا ريب فيه ان التركيبة الجيولوجية المعقدة للطبقات الأرضية في
قاع الخليج العربي، هي التي أشعلت فتيل الصراع القائم بين الأقطار
المتشاطئة، وهي التي خلقت هذا التداخل في استثمارات الحقول النفطية
والغازية في حوض الخليج العربي، فزحزحت الدعامات الحدودية العائمة فوق
سطح الماء، وحركتها عن مواقعها القديمة، ومهدت لها الطريق للغوص في
الأعماق السحيقة بحثا عن رواسب النفط والغاز الكامنة في جيوب الطبقات
المغمورة، حتى بلغ عدد الحقول المتداخلة بين المياه الإيرانية والمياه
العربية في حدود (15) حقلا على أقل تقدير، ووصل تعدادها إلى الضعف في
الحقول المتداخلة بين حدود الأقطار العربية، فيما سجل العراق غيابا
ملحوظا عن حلبة التنافس الإنتاجي في المسطحات البحرية منذ عام 1932،
وهو العام الذي اكتشفت فيه البحرين حقل (عوالي)، ثم تبعتها السعودية
عام 1951 بحقل (السفانية) البحري، وهو من اكبر الحقول البحرية بالعالم
(19 بليون برميل)، وجاءت بعدها الإمارات عام 1958 بحقل (أم الشيف)
البحري، وتبعتها قطر عام 1960 بحقل (العد الشرقي)، ثم وسعت السعودية
حقولها البحرية، فاكتشفت حقل (الظلوف Zuluf) عام 1965بطاقة إنتاجية
تقدر بنحو (500000) برميل يومياً، فحقل (مرجان) عام 1967بطاقة إنتاجية
تقدر بنحو (270000) برميل يومياً، جاءت بعدها عمان عام 1976 بحقل (بوخا
الغربي). ولم يسجل العراق طيلة هذه المدة أي اكتشاف نفطي أو غازي في
مياهه الإقليمية، ولم يفكر في يوم من الأيام بإبرام أية اتفاقية بحرية
مع جارته إيران أو مع شقيقته الكويت لتثبيت حدوده البحرية الإقليمية أو
جرفه القاري أو منطقته الاقتصادية، باستثناء الاتفاقية التي تنازل فيها
عن نصف شط العرب عام 1975، والقرار (833) الذي فقد فيه خور عبد الله
كله عام 1991.
وعلى الرغم من تحسن تكنولوجيا الإنتاج والاستكشاف في عرض البحر،
وسهولة التنقيب في القاع، وتوفر تقنيات مد الأنابيب إلى الحقول البحرية،
لم يبد العراق اهتماما باستغلال مسطحاته المائية، في حين راحت الأقطار
العربية الخليجية، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، تواصل البحث عن
النفط في مسطحاتها المائية باهتمام كبير، وتعكف (أبو ظبي) حاليا على
تنفيذ برامجها المستقبلية التي تقدر بعشرات البلايين من الدولارات
لزيادة إنتاجها النفطي من حقولها البحرية إلى (650) ألف برميل يوميا
بحلول عام 2016، في حين سعت السعودية لانعاش خططها المستقبلية لتطوير
حقل (منيفة) بقيمة (16) بليون دولار.
من هذا المنطلق يحق لنا ان نطرح الأسئلة التالية: أين العراق من بين
دول الخليج العربي في مجال استخراج النفط والغاز من مكامنه البحرية؟؟.
ومتى ننظر بعين الاهتمام لحقولنا النفطية ومواردها الغزيرة المجهولة؟؟.
ومتى نستثمر مخزوناتها المرتفعة في المناطق الضحلة والعميقة؟؟، وأين هي
حقولنا النفطية التي يفترض أن نفاخر بها الدنيا في عرض البحر إن كان
لنا بحرنا الإقليمي وجرفنا القاري مثل بقية الأقطار الخليجية؟؟..
انظروا إلى حقول الكويت والسعودية والبحرين وقطر والإمارات وعمان،
وانظروا إلى حقول إيران التي صارت أقرب إلى السواحل العربية منها إلى
الإيرانية..
خذ على سبيل المثال لا الحصر حقل (درة)، الذي تسميه إيران حقل (أراش)،
فعلى الرغم من وقوع الحقل برمته في المياه المشتركة بين الكويت
والسعودية بموجب الاتفاقية البحرية الحدودية الموقعة بينهما عام 2000،
تدخلت إيران فألقت ثقلها كله في هذا الحقل، الذي يشتمل على احتياطي
غازي هائل يقدر بحوالي (20) تريليون قدم مكعب، وأعطت الضوء الأخضر
للمهندس (محمود زيركجيان)، رئيس (شركة نفط الجرف القاري) بالمباشرة
الفورية بتطوير الجزء الإيراني من حقل أراش (درة) من جانب واحد، على
غرار ما فعلته في حقل (هنجام) البحري للغاز، المتداخل مع المياه
الإقليمية لسلطنة عمان، والذي يقدر مخزونه بحوالي (400) مليون برميل من
الغاز الطبيعي، وينتج حاليا (80000) برميل باليوم، وتؤكد التقارير
التخمينية على إن إجمالي الطاقة الاستيعابية للحقول البحرية الخليجية
من الغاز الطبيعي تقدر بنحو (1923) تريليون قدم مكعب، وان إيران وقطر
يتبوءان المركز الثاني والثالث بالقياس العالمي بعد روسيا، وفي نية
إيران تطوير حقل (بارس الجنوبي) الذي يقدر مخزونه من الغاز بنحو (500)
تريليون قدم مكعب، وتنوي أيضا تطوير حقل (دلان) المتاخم لكل من حقل (سلمان)
وحقل (أبو كوش) التابعة لإمارة أبو ظبي، وتقوم إيران حاليا بتطوير حقل
(بارس الشمالي) والحقول المجاورة له، مثل حقل (بيبي حكيمة)، وحقل (كاشسران)،
و(بيناك)، و(آغا جاري).
من خلال ما تقدم توحي لنا المشاهد الملتقطة من هذه الشراهة
الإنتاجية مدى بشاعة الصورة الحقيقية للنزاع (النفطي – الغازي) المتفجر
فوق المسطحات المائية لحوض الخليج العربي في المواقع الكثيرة المتناثرة
بين (رأس البيشة) و(رأس مسندم)، وتعكس مدى تهافت تلك الأقطار لتحقيق
أعلى المعدلات في الإنتاج وفي الموارد المالية النظيفة..
لقد تفجرت الصراعات الحدودية بين الأقطار المتلهفة للاستحواذ على
مكامن النفط والغاز في قاع الخليج، وتحول الخليج إلى ما يشبه الحوض
الكبير، الذي تتشابك في قعره مصالح دول المنطقة والدول الكبرى،
باستثناء العراق الذي اختار القيام بدور المقاتل الشرس، وانشغل
بالمطالبة بحقوق العرب المنهوبة في عرض البحر، فشهر سيفه للدفاع عن (طنب
الكبرى)، وشقيقتها الصغرى، وعمهما (أبو موسى)، في الوقت الذي راحت فيه
الأقطار الخليجية نفسها تعد العدة للاستيلاء على ثرواته النفطية
والغازية في البر والبحر، وكانت هي السباقة في التسلل إلى خور عبد الله،
فاستغلت غيابه، وراحت ترسم حدودها مع إيران بالطريقة التي تحرمه من
حقوقه الموروثة في مياهه الإقليمية، التي أقرتها الأعراف والاتفاقيات
البحرية الدولية، فوجد العراق نفسه خارج البحر والنهر، وتقاسم الأخوة
الأعداء حصته من غنائم البحر، فخرج من المولد بلا حمص..
وامتد التنافس المحموم إلى التفكير بربط المنطقة بشبكة الأنابيب
الدولية المصممة لنقل النفط والغاز إلى أسواق العالم، في مشروع ينطوي
على استثمار مليارات الدولارات، وكانت قطر هي القاعدة، التي انطلقت
منها غربان الشر لقصف المدن العراقية، فوفرت الغطاء اللوجستي لزحف
الزواحف على مياهنا الإقليمية، وهي المحطة الخليجية الأولى التي التحقت
بخطوط (نابوكو)، وما أدراك ما (نابوكو)؟؟، فتلاعبت بأوراق الغاز
والألغاز، ووقع النزاع على الحقول البحرية في الخليج، في كثير من
المحاور خارج الأطر التي حددتها الاتفاقيات اللازمة لترسية عقود الحفر
والتنقيب لشركات محايدة، وعلى وجه الخصوص في مناطق الامتياز المتداخلة،
واللافت للنظر إن حوض الخليج يضم الكثير من الحقول المسكوت عنها في
المرحلة الراهنة، ونخشى أن تقع بعض تلك الحقول في حدود منطقة (خور
الخفقة) العراقية الخالصة، أو في حدود منطقة (خور العمية)، فتنهشها
مخالب النزاع في ظل الغموض الذي يكتنف المياه الإقليمية العراقية، سيما
إن معظم الأقطار الخليجية تتطلع اليوم للفوز بكأس الخليج المترعة
بالنفط والغاز، في مباريات ساخنة تجري فصولها كل يوم بين المنتخبات
النفطية الخليجية برعاية منظمة (الأوبك)، ومن دون ضوابط واضحة وصريحة
على غرار ضوابط (الفيفا) لكرة القدم، مع غياب دائم للمنتخب العراقي
الذي آثر الوقوف على التل منذ عام 1932، مفضلا الابتعاد عن مياهه
الإقليمية لأسباب غير معروفة، على الرغم من امتلاكه أقوى الجيولوجيين
في المضمار البحري، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الخبير النفطي
العراقي (فاروق عبد العزيز القاسم)، الذي كان له الفضل الأكبر في
استكشاف اكبر الحقول النفطية وأغنى المكامن الغازية في بحر الشمال
لصالح النرويج، والدكتور (قاسم محمد عبد الوهاب)، الذي يعد من أقدم
الجيولوجيين العاملين في حقول الإمارات البحرية..
ومن نافلة القول نذكر إن حقل (نوروز) هو أقرب الحقول النفطية لمدخل
قناة خور الخفقة العراقية من جهة البحر، ولا يبعد عن مدخل هذه القناة
الملاحية سوى (28) ميلا بحريا (الميل البحري يساوي 1852 متراً فقط)،
بينما تحيط بالمدخل ثلاثة حقول أخرى موزعة على قوس وهمي، يقدر نصف قطره
بحدود (43) ميلا بحريا تقريبا، والحقول الثلاثة هي: حقل (أبو زار)،
وحقل (سروش)، وحقل (درة). ما يعني إن مقتربات القناة الملاحية العراقية
المؤدية إلى موائنا النفطية لابد أن تكون غنية بحقول النفط والغاز
لوقوعها بمحاذاة أربعة من كبريات الحقول المشهورة شمال الخليج العربي..
وتجدر الإشارة هنا إلى إن العراق سبق له أن حدد بعض الرقع
الاستكشافية عام 1990، وسعى لسبر أغوارها لكن محاولاته توقفت فجأة في
آب 1990 لأسباب غير معروفة..
ختاما نقول: ينبغي الالتفات إلى نقطة سيادية في غاية الأهمية وهي إن
حقوق العراق في مياهه الإقليمية تستدعي التفعيل والتعجيل ولا تحتمل
التعطيل والتأجيل، لأنها ليست هبة من الهبات التي نأمل أن تهبط علينا
من السماء فنتلقاها ونحن نتكئ على الوسادة في سرير الانتظار، وإنما هي
حق مشروع من الحقوق التي تؤخذ في عرض البحر بقوة القانون الدولي وبموجب
أحكام الاتفاقيات النافدة.. |