ما أجمل الحال أن يمشي المرء في شوارع المدينة وأزقتها دون أن يلتفت
يمنة ويسرة خوفاً من المخبر السري أو رجل الأمن ولا يبتعد جانبا حينما
يرى شرطيا أو عسكريا، بل وما أروع الحال عندما يسري الأمن إلى صدر
المرء وهو يرى شرطيا ويستأنس به.
ربما يكون الحال الثاني من الخيال لمن يسكن في بلد يسوده نظام شمولي
ويُقاد عبر شبكات التجسس والمراقبة اليومية وكم الأفواه، ولكنها حقيقة
يدركها من جرّب الحالين، فالمسكون بالحال الأول يستبعد وجود أمم تتعايش
معها حتى الثعالب وتتحرك الطيور بين أقدام الناس دون أن تطير هرباً أو
تبتعد عن المارّة، تلتقط رزقها من تحت الأقدام ومن بين عجلات السيارات،
والمسكون بالحال الثاني يستبعد وجود أمم تغلق عليها أبوابها لأيام
وأسابيع وأشهر بل ولسنوات حتى لا يعرف رجل الأمن أنها تسكن في هذا
الدار أو ذاك، ويمشي فيها المرء على حذر وعامل الخوف مسيطر على كل
حواسِّه ومشاعره لا هو بآمن في الشارع ولا المدرسة ولا الجامعة ولا
دائرة العمل ولا المعمل، يتخطفه الموت من كل جانب، تحسبهم أحياءاً وهم
أموات.
وزادت الحكومات الشمولية على ذلك أن زرعت صورة الحاكم في كل زاوية
للتذكير به وبأجهزته الأمنية، وبعضها أقامت في كل مدينة وقضاء قصراً له
تُشعر الناس بوجوده بين ظهرانيهم وتصرف أذهانهم عن مركز العاصمة وليظل
كاتماً على أنفاسهم، ومن المفارقات المقرفة أن مرض الصورة وطغيان
المقرات والمراكز سرى إلى الأمم التي خرجت للتو من قبضة سلطان جائر،
فصارت صور القيادات المتكاثرة بلا حدود(!) هي البديل عن صورة القائد
الضرورة، وتنافس الأتباع وتصارعوا على احتلال كل واجهة وزاوية وعمود
لرفع صور البدلاء الجدد، وصارت المراكز المؤدلجة الحقيقية والوهمية
المزروعة في كل قرية وناحية وقضاء ومدينة تحصي على الناس سلوكهم هي
البديل عن قصور السلطان الأوحد، وصارت الفتاوى التفسيقية والتكفيرية
عِوَضاً عن القرارات الثورية الإستئصالية، وهذا بحد ذاته استبداد آخر
وقهر أسوأ من سابقه انقادت إليه قطاعات من الأمة جهلاً أو عمداً!
ثلاثية الأمة الآمنة
هل هناك ملازمة بين كلمة (أمن) و(نام) و(نما)؟
فالكلمات الثلاث متحدة الحروف مختلفة الصروف، تجمع بينها عوامل
الدعة الموجبة للإنشراح، فمن أمن نام مطمئنا على ماله وحاله، ومن أمن
نما زرعه وماله، فالنوم المطمئن والنماء مدعاة لتحقق الأماني على مستوى
الفرد والمجتمع والبلد وهي من علامات رقي الأمة وتطورها، فالكلمات هي
في واقعها حاكية عن زوايا مثلث القوة في البلد الآمن، وإذا تم رعاية
الأمن على مستوى السلطة والأفراد بما فيه رضا الله وصلاح الناس ضمنت
الأمة رقيها وتسنَّمت مقود الأسوة الحسنة، وتمثّلت مصداق الأمة الوسط (كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران: 110،
التي تشع على الآخرين بالخير.
الأمن وما يتعلق به من قريب أو بعيد على المستويات كافة نقرأه في
كتيب "شريعة الأمن" الصادر حديثا (1433هـ - 2012م) عن بيت العلم
للنابهين ببيروت في 64 صفحة من القطع الصغير للفقيه آية الله الشيخ
محمد صادق الكرباسي، قدًّم له وعلَّق عليه الفقيه آية الله الشيخ حسن
رضا الغديري.
فالأمن يتضمن جلب الصلاح وما يتبعه من سرور وأفراح، ودفع الفساد وما
يتبعه من شرور وأتراح، وهو مما تتقبله النفس البشرية لأن فيه: (الطمأنينة
والإستقرار بحيث يرتفع معه القلق) كما يعبر عنه الفقيه الكرباسي، وهذا:
(أمر يستأنس به الطبع السليم لفظاَ ومعنىً، مفهوماً ومصداقاً) كما يعبر
عنه الفقيه الغديري، ولهذا فإن فرض الأمن كما يرى صاحب الشريعة: (فريضة
إسلامية كبرى، ويقابلها الفوضى التي تُعد من الفساد، وهي من المعاصي
الكبيرة ومن كبائر الذنوب التي عقابها شديد .. بل سبحانه وتعالى جعل
الإفساد في الأرض بمعادلة قتل الناس جميعا حيث قال تعالى: من قتل نفسها
بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعا- المائدة: 32-)،
وهذه مسألة عقلائية تسالمت عليها البشرية، بل: (إن فرض الأمن واجب على
الحكومات كلها) كما يؤيد ذلك المقدِّم، فالأمة لابد لها من حاكم يمسك
بزمام الأمور ويمنع انهيارها، وذلك: (لأنَّ فرض الأمن من الأمور
الضرورية والهامة للحياة البشرية وعليه يستقر أساسها، فورود النقص فيه
أو النقض به يوجب اضطراب القوات الفاعلة، ولولاه يتهدّم كل شيء) كما
يضيف الفقيه الغديري.
العنف والعنف المضاد
ولكن هل يستدعي العمل على استتباب الأمن وفرضه لصلاح العباد وسلامة
البلاد استخدام وسائل العنف أو العنف المضاد؟
هذا ما يحاول الكتيب تسليط الضوء عليه وبيان حكم الشريعة فيه، ليس
أقل من وجهة نظر الفقيه الكرباسي، فالقاعدة العامة أن الحكومة هي عبارة
عن جهة خولّها الشرع أو الشارع أو الدستور حسب مقتضيات الزمان والمكان
لإدارة البلد وتصريف شؤون الأمة بما فيه خيرها في حاضرها ومستقبلها،
وهذا التخويل هو عبارة عن وكالة، وتقتضي الوكالة الأمانة في أدائها،
ومن الأمانة أن يتوسل الوكيل بالأساليب السليمة والسلمية لفرض الأمن
وحفظ السلام، إذ: (لا يجوز للسلطات المختصة استخدام التعذيب كوسيلة
لحفظ الأمن) وإذا: (قُبض على من هو مخل بالأمن لا يجوز إهانته وضربه،
بل الواجب عليهم احالته على القضاء)، كما أن: (مداهمة البيوت لا تجوز
إلا في الحالات القصوى وبإذن حاكم الشرع) أو مذكرة إلقاء قبض بتعبير
اليوم، وعلى عكس الجاري في معظم الحكومات الشمولية التي تحاصر المتهم
المقبوض عليه أو الهارب من خلال الحجز على أمواله المنقولة أو غير
المنقولة أو اعتقال المقربين منه بجريرته، فإن هذه الإجراءات التعسفية
وأمثالها لا تجد لها موطئ قدم في القضاء الإسلامي النزيه كما تؤكد عليه
"شريعة الأمن" في مجمل مسائل من مجموع 94 مسألة فقهية احتواها الكتيب
مع 66 تعليقاً.
وفي هذا السياق: (لا يجوز كشف حساب المتهم أو المجرم إلا بأمر
قضائي وبالمقدار الضروري...)، كما أن: (التنصُّت على الهواتف وسائر
وسائل الإتصالات لا يجوز، إلا في الحالات القصوى مقتصرة على مدة الحاجة
ومواردها)، ومنها: (تعرض البلاد إلى هجمات إنتحارية تريد الإخلال
بالسلم الأهلي وإشاعة الفوضى أو قتل الأبرياء)، كما لا يجوز التجسس على
الأشخاص أو المؤسسات إلا في حالات خاصة، ويخرج من دائرة حرمة التجسس
العدو المتربص بالبلد سوءاً، نعم: (يجوز الإعلان عن المذنب عبر وسائل
الإعلام في حالات نادرة وبالأخص فيما إذا أريد ردع الآخرين، ولابد من
أخذ رأي حاكم الشرع ومراعاة الإحتياط، وعدم تجاوز الحدود الشرعية
والمدنية).
حدود المخبر السري
وبالطبع لابد للبلد من عيون تحمي حدوده الخارجية ومصالحه الداخلية،
فلا يسلم بلد من أعداء منظورين وغير منظورين، ولا يسلم بلد من ضعاف
النفوس يعملون لغير صالح البلد بخاصة إذا كانت السلطة منتخبة من الشعب
يمثل وجودها خطراً على حكومات تنعدم فيها الإنتخابات الدورية ومبدأ
تداول السلطة سلمياً، ولذلك وعلى مستوى الخارج: (يجوز التجسس على العدو
والدول المعادية إذا كانت هناك حالة حرب أو في حال الخلاف الذي قد يؤدي
إلى الصراع)، ولا يشترط الغديري ما اشترطه الكرباسي، فعنده: (التجسس
على الدول المعادية يجوز بل وقد يجب لحفظ الأمن ودفع شرورهم مطلقاً،
ومن دون نظر إلى حالة خاصة كالحرب والخلاف المتوقع).
ولا يقتصر عمل "العين" باصطلاح القديم أو "رجل الأمن الإستطلاعي"
باصطلاح الكرباسي، أو "المخبر السري" باصطلاح اليوم، خارج حدود البلد،
فللداخل عيونه، فمنتهى غاية الأمن حفظ مصالح الأمة وسلامة البلد وهذا
الأمر يقتضي جواز عمل المخبر السري فيما إذا عمل على الجانبين الحكومي
والشعبي، من هنا يرى الكرباسي أنه: (إذا كان عمل الأمن ضروريا فلابد أن
يكون في كشف الخلل في أداء الحكومة إلى جانب كشف حاجات الأمة، وعندها
يكون مثل هذا الإستطلاع جائزاً بل محبوباً عند الله سبحانه وتعالى)،
بيد أن باب الإستطلاع غير مفتوح على مصراعيه وإنما تنحصر في جهة إصلاح
أمر الأمة حكومة وشعباً، وعليه ومن باب المثال: (لا يجوز لرجل الأمن
الاستطلاعي أن يتداول بالمعلومات لغير الجهة المختصة حتى إذا لم يكن
لها أثر سلبي على الأشخاص الذين جرى الإستطلاع عنه)، ومثل هذا الكلام
يعيدنا إلى أيام النضال السري حيث كان يتم التعامل مع المعلومة الخاصة
داخل الخلايا التنظيمية على أساس أن: (السر الحركي يُقدم للآخر حسب
الحاجة العملية وليس حسب الصداقة)، ولأن صيانة الأمة وشؤونها الداخلية
والخارجية وبخاصة في الحكومة المنتخبة هو أمر على غاية من الأهمية،
فإنه: (لا إشكال في تكريم رجال الأمن في أي سلك كانوا إذا قاموا
بواجباتهم من خلال تطبيق الشرع المبين)، بل ويزيد الغديري: (يجب
معاونتهم ومساعدتهم في عمليات فرض الأمن في البلد، وهو من باب التعاون
على البرّ، وأيّ برٍّ أقوى من فرض الأمن للإنسان).
في الواقع يمثل الكتيب واحد من ألف عنوان في موضوعات الحياة
المختلفة يعكف الفقيه الكرباسي على بيان أحكامها، قد لا نجد تفريعاتها
في كتب الفقه المتداولة في الحواضر العلمية في العراق والمدينة وإيران
والشام ومصر والمغربي العربي وغيرها، وهي أحوج ما تكون إليها البشرية،
وشريعة الأمن هي واحدة من التفريعات المستحدثة المعنية بمسائل أجهزة
الأمن وجد الكرباسي ضرورة: (بيان الوجهة الشرعية بالنسبة إلى العاملين
في الأجهزة الأمنية وإلى الدوائر الأمنية بكل أشكالها وألوانها، بل
وإلى الشعوب التي لا تنفك هذه الأجهزة من التصادم معها كل يوم)، ولذلك
فلا مناص من أن تكون هذه الأحكام ومثيلاتها تحت بصر الأجهزة الحكومية
والأمنية والتثقف بها من أجل بناء علاقة سليمة بين الحاكم والمحكوم
تُشعر المواطن بالأمان والطمأنينة عند رؤية رجل الأمن أو الشرطة حتى
تتمثل بحقٍّ وحقيقة مقولة (الشرطة في خدمة الشعب).
* الرأي الآخر للدراسات - لندن |