فيما مضى حار البعض في معرفة الأسبقية في الوجود: البيضة أم
الدجاجة؟ ودارت حولها التساؤلات السفسطية التي أراد قائلوها وضع الناس
في دوامة الخلق والوجود، ولكن بالقطع لا يحير الناس في العلاقة
الثنائية بين العقل والجسم وإن حاول البعض السير على المنهج السفسطائي
نفسه لمعرفة القدم والأسبقية هل هو للعقل أم للجسم؟ فالمشهور عن
الفيلسوف اليوناني افلاطون (428- 348ق.م) قوله: (العقل السليم في الجسم
السليم) لكن البعض يرى العكس هو الصحيح حيث أن (الجسم السليم في العقل
السليم) باعتبار أن العقل مركز التوجيه، في حين يرى القائلون بالأول أن
الجسم دلالة على الخلقة والفطرة فإن سلم، سلم العقل، بيد أن الحديث في
هذه المسلّمة والبديهية ليس من العقلانية لأن المقولتين كما أرى على
مستوى واحد من الأهمية، فالجسم والعقل ينموان سوية، وهناك قوى ثالثة هي
التي لها القدرة على ضبط إيقاع الجسم والعقل وهي الإرادة أو النفس وهي
بمثابة الزر للجسم والعقل، ولهذا فإن الذي يفقد السيطرة على وزن جسده
إنما بسبب إرادة النفس وقوتها وضعفها، وإذا تحكمت الإرادة وقوة النفس
في مسيرة الإنسان أمكن تطبيق المأثور من طرفيه، إلا إذا كان ضعف البدن
أو سقمه بسبب الوراثة أو الخلقة الأولية أو لعارض أو مرض.
وحتى يصل المرء إلى مرحلة الجسم السليم فلابد من ممارسة الرياضة
ومقدماتها وبخاصة في مجال تنظيم الطعام والحركة والنوم والعمل وكل
متطلبات الحياة اليومية، فالرياضة في ذاتها مباحة وعنوانها العام
الحلية، بل تصبح في بعض الموارد واجبة على الإنسان إذا حكم بها العقل
وقال بها الطبيب المختص بخاصة إذا كان الدواء لا يلبي كل مراحل العلاج
واحتاج معها المريض إلى العلاج الطبيعي من رياضة بأنواعها حسب مقتضيات
الجسم والوزن والعمر.
على أن الرياضة بأنواعها قد يصاحبها المحرّم أو الكراهية فتخرج من
الإستحبابية والحلية إلى الكراهية والحرمة ولا سيَّما إذا كانت مدعاة
للأذى الجسدي أو الإعتداء على حقوق الآخر من إنسان أو حيوان إلا في بعض
الاستثناءات، وهذه المسائل التي يعيشها الإنسان من ذكر وأنثى في حياته
اليومية يناقشها الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة
الرياضة" الصادر عام 1433هـ (2012م) في 56 صفحة من القطع الصغير عن بيت
العلم للنابهين في بيروت بتقديم وتعليق الفقيه الشيخ حس رضا الغديري.
الرياضة السليمة
من الثابت أن دستور كل بلد هو عبارة عن مواد، ولكل مادة تفريعاتها
الكثيرة المتوزعة على مشارب الحياة اليومية، ولا يختلف الأمر في
التشريع الإسلامي وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق قوله: (إنما علينا أن
نلقي إليكم – عليكم- الأصول وعليكم أن تفرِّعوا)، أو قول الإمام علي بن
موسى الرضا عليه السلام: (علينا إلقاء الأصول إليكم- عليكم- وعليكم
التفريع)، ولاشك أن الضمير المخاطب في النصين موجه إلى الفقهاء العلماء
ويُلفظ منه مَن لا يدرك ألف باء التشريع ليفتي في الناس فيحلل حراما
ويحرِّم حلالا، والرياضة وتشعباتها من التفريعات، فليس من جزئية في
الحياة اليومية ليس لها صلة بالتشريع، بغض النظر عن نوعية التشريع
سماوياً كان أمْ أرضياً، كمثل الشعيرات العصبية المتوزعة على خلايا كل
جسم الإنسان.
فالفقيه الكرباسي يرى أن الرياضة السليمة جسمية كانت أو فكرية ينبغي
أن تتصف بالفائدة وخلوها من الضرر البالغ وعدم تقاطعها مع الحرمة أو
مقرونة بالمحرمات، صحيح أن الإنسان مسلط على جسمه كما يشير الفقيه
الغديري في تعليقه على هذه المسألة لكن أصل التسلط لا يدفع حرمة
الإضرار، ويقتضي الأمر في الوقت نفسه تطهير الرياضات من المحرمات حتى
وإن كان صاحبت منشأها حرمةٌ شرعية كأن تكون وافدة على العالم الإسلامي
وفيها حرمة شرعية، فيجب على المسؤولين كما يُضيف الكرباسي: (تطهيرها
مما يخالف الشرع المبين).
فالرياضة جائزة بالأصل إذا لم تكن من اللهو المحرّم الذي لا يرضي
الله سبحانه وتعالى وحكم الشرع بحرمته، واللعب غير اللهو: (أما اللهو
الذي اصطُلح عليه اليوم ألا هو اللعب كما يُطلق على بعض أماكن الترفيه
حديقة الملاهي وما إلى ذلك فهو غير مقصود عند الشرع)، أما إذا كانت
الرياضة فيها محرّم أو توجب فساداً في المجتمع، أو تلهي الإنسان عن ذكر
الله سبحانه وتعالى فهي غير جائزة، ويرفض الفقيه الكرباسي الرياضة
المسيّسة: (كما في لعبة كرة القدم والتي هي مباحة مثل سائر الأمور،
أمَّا إذا جاءت لإلهاء الأمة عما يدور في العالم من سياسات على حساب
الأمم أو ما كان منها لدعم الأنظمة الظالمة كما في بعض دول الشرق، أو
ما يولد منها الحقد والضغينة والصدام فهذا بالقطع يخرجها عن خانة
الإباحة ويدخلها في خانة الممنوعات لأنها خرجت من إطارها العام والذي
هو ترويض الجسم وتقويمه)، ويذهب الكرباسي بعيداً إلى جواز صرف الحقوق
الشرعية على إقامة مدينة الملاهي والألعاب للأطفال وللمعاقين أو للعلاج
أو للترفيه بشكل عام إن لم تؤمَّن من جهات أخرى، ويزيد الغديري على
المسألة بالتأكيد أنه: (لا يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي وإجازته بعد
تشخيص المورد للصرف، عيناً كما في سائر الموارد المباحة للصرف، لأنَّ
تشخيص الموضوع ليس من واجبات المجتهد بل عليه بيان الحكم إلاّ إذا
اقتضت المصلحة ودعت الضرورة إلى تدخل المجتهد وحكمه وذلك لحل الخلاف
وحفظ كيان المسلمين والذين شاع في عرف أتباع أهل البيت عليهم السلام
لزوم إجازة المرجع لصرف الوجوه الشرعية إذ لا شرعية لها بالحكم
الأوَّلي ولا حاجة إليها من باب الإحتياط – لو قلنا به- ولا دليل يدل
على ذلك الإحتياط)، وهذه المسألة الشرعية تذكرنا بالسرور الكبير الذي
أدخله على قلوب الشعب العراقي فوز فريقه لكرة القدم ببطولة كأس أمم
آسيا للعام 2006م حيث وحّده وأخرجه من ظلال الغمامة السوداء التي طافت
في سماء العراق وحاولت إمطار العراقيين بحرب أهلية طائفية.
وللرياضة السليمة جنبات عدة، ومن تلك إدخال الحبور على الناس وهو
أمر محبب ومحبذ وتزداد أهميته في الملمات، وكما يشير الكرباسي أنَّ: (إسعاد
الناس وإخراجهم من حالة الكآبة أمر مستحسن بل مستحب من باب إدخال
السرور في قلب المؤمن إن خلا من المحرمات)، وأما الغديري فإنه يزيد على
المسألة ويرى أنه: (قد يجب استخدام الأساليب السلمية لإخراج المسلمين
من الكآبة كما لو عمّت الكآبة بعد هجوم أعداء الإسلام على بلادهم فيمن
يقدر على عمل يوجب الإسعاد وإدخال السرور في قلوب المؤمنين عليه أن
يعرض نفسه بقصد القربة أو بأجر لإسعادهم وعندها يثاب في كل الأحوال).
متى تجب الرياضة؟
وإذا كانت الرياضة بذاتها مباحة، فإنها قد تنتقل في بعض المراحل إلى
خانة الوجوب، كالمشي بالنسبة لمرضى السكر وارتفاع الدهون (الكوليسترول)
وأصحاب السمنة العالية، ويذهب الفقيه الكرباسي إلى أن: (الرياضة قد
تكون علاجاً كما في بعض التشنجات العضلية فعندها يجب القيام بها إن
كانت هناك ضرورة)، كما: (إن المصابين بالفلج يوصف لهم بعض الرياضات
البدنية للتخلص من الفلج، فهذا مما لا خلاف في جوازه، بل إذا انحصر
العلاج به، وجبتْ) بل وفي كل مرض وعلّة بدنية أو نفسية: (إذا كانت
الرياضة هي العلاج الوحيد لاستقامة الصحة، وجبت)، وبالطبع فإن تشخيص
الضرورة تقع على عاتق الخبير بالفن، فيجب الرجوع إليه كما يقرر الفقيه
الغديري: (دفعاً لاحتمال الضرر إذا كان العمل للعلاج).
ولا يخفى أنَّ وجوب الرياضة لا يقع عند المرض فحسب، بل يصبح تعلم
أنواع الرياضات حاجة ملحّة تقتضيها الظروف الموضوعية وبدونها يضع المرء
نفسه على حافة الخطر أو الموت وهذا نوع من الإلقاء في التهلكة لا
يرتضيه الإسلام ويرفضه العقل، ويستشهد المعلق بالسباحة واستخدام آلاتها،
فالرياضة عنده : (قد تجب إذا توقف الدفاع عليها، وذلك في ظروف خاصَّة
كما إذا سكن على ساحل البحر ويخاف هجوم العدو ولا سبيل للنجاة إلا
باستخدام آلات السباحة)، ومثل هذا الأمر ندركه في التدريبات العسكرية،
فالجيش يضم أصنافاً من الجنود والسلاح، وبعض الأصناف يستوجب على الجنود
تعلم أنواع من الرياضات لأهميتها في المعركة وضرورتها كتعلم السباحة
بالنسبة للقوات الخاصة والصاعقة وما يتعلق بالسباحة من إنقاذ الغريق
وحمل السلاح والتنقل به في عرض البحر والاسترخاء على سطح البحر عند
التعب وأمثال ذلك.
مؤشرات رياضية
ومن المفيد الإشارة إلى رياضة "اليوغا" المنسوبة إلى الديانة
البوذية التي انتشرت في السنوات الأخيرة بخاصة في النوادي الأوروبية
والأميركية، فعلى خلاف بعض الفقهاء الذين يحرمون رياضة اليوغا بوصفها
عبادة بوذية، يرى الفقيه الكرباسي أن: (رياضة اليوغا إذا لم تقترن
بعبادات بوذية أو أذكارهم ولم تكن تشجيعاً لهم أو تعليم الأطفال
لعاداتهم بمعنى كانت صِرف رياضة فلا إشكال فيها وإذا قورنت بشيء مما
تقدم فهي حرام).
وفي مجال آخر يتوافق رأي الكرباسي مع القوانين الدولية التي تحظر
استعمال بعض المنشطات في الرياضات المختلفة وبخاصة في ألعاب الساحة
والميدان، فيرى حرمة استخدام المنشِّطات في العمل الرياضي بخاصة إذا
كان هناك تسابق بين شخصين أو فريقين، ويعد هذا من التدليس المحرّم.
ولا تتوقف الحرم في الرياضة على الإنسان، فهي تشمل الحيوان أيضا فلا
يجوز القسوة على الحيوان إذا دخل جزءاً في الرياضة من قبيل : (مصارعة
الثيران وسائر المصارعات الحيوانية إذا انتهت إلى إيذاء الحيوانات فهي
محرمة والتعاطي معها بكل أشكال التعاطي محرّم)، وفي ألعاب السيرك التي
هي في مجملها إسعاد الحاضرين فلا يجوز الإيذاء المفرط للحيوان، فالحرمة
بشكل عام تشمل الإنسان نفسه والإنسان الآخر والحيوان فهي أنفس وأرواح.
في الواقع أن الرياضة هي ضرورة حياتية ويومية وبخاصة في عصر المكاتب
والجلوس الطويل وتطور الآلة وازدياد مساحة استخدام العقل والفكر
والتقنية المتطورة، واستعمال وسائل المواصلات بخاصة للمدن الكبيرة، وهي
تشمل البدن والفكر وبتعبير الفقيه الغديري الأعضاء السلكية (البدنية)
والأعضاء اللاسلكية (الفكرية)، ولذلك لا مناص من الرياضة لأنّ فيها
سلامة الجسم وصفاء الذهن وتحريك أجهزة الإنسان بما يساعد على طرد
الأمراض وكسب المناعة وتقويتها وزيادة في العمر ولاسيما وأن السمنة
تقرّب الأجل، وليس من عاقل يطلب قرب الأجل بعلة الجسد وضعف البدن أو
ترهله.
* الرأي الآخر للدراسات- لندن |