جابر بن حيان والحقائق المغيبة

محمد الصفار

 

شبكة النبأ: الباحث والدارس عن هذا الرجل الفذ فيكتب التاريخ والسير والأعلام يخرج بحقيقة لا غبار عليها رغم الأقوال المتعارضة عن حياته ونشأته وهي انه إمام العلوم الطبيعية عند العرب بلا منازع... تلك حقيقة لا جدال فيها أوضحتها كتبه وآراؤه التي استقاها من سيده جعفر بن محمد الصادق (ع)، وتجد تأثره بهذه الشخصية العظيمة واضحاً في كل كتبه فهو يشعر بفضل سيده عليه وانه لولاه لما استطاع أن يكتب حرفاً واحداً مما كتبه.

فتجد هذه الكلمات تتصدر كتبه ورسائله: (قال لي سيدي جعفر بن محمد الصادق (ع)... وألقى عليّ سيدي جعفر بن محمد (ع)... وأخذت هذا العلم من جعفر بن محمد سيد أهل زمانه).

ويصرّح أيضاً في اكثر من موضع بأن مصدر علمه هو النبي (ص) وعلي بن أبي طالب (ع) والذي تناقل عنهما حتى وصل الى الامام جعفر بن محمد الصادق، فيقول في المقالة الحادية والعشرين من كتاب (الخواص الكبير) ص (315): [تأخذ من كتبي علم النبيّ (ص) والإمام علي(ع) وسيدي- أي جعفر الصادق – وما بينهم من الاولاد منقولاً نقلاً مما كان وهو كائن وما يكون من بعد الى ان تقوم الساعة].

ويقول في المقالة الرابعة والعشرين من نفس الكتاب ص(317) [فو الله مالي في هذه الكتب إلا تأليفها والباقي علم النبي (ص)].

ويؤكد جابر من خلال أقواله التي تتخلل كتبه ان هذا العلم تلقيني لقّنه اياه سيده جعفر الصادق(ع) وليس بإستطاعت أي انسان آخر أن يلقنه مثله يقول جابر في اكثر رسائله العلمية: [انها مستحيلة على غيره من البشر]، وانه لولا ان الإمام الصادق (ع) لقنّه اياه او علّمه لما استطاع جابر ان يكتب حرفاً واحداً مما كتب.

فيقول في كتاب الاحجار (ج2/ص164): [وحق سيدي لولا ان هذه الكتب بإسم سيدي- صلوات الله عليه- لما وصلت الى حرف من ذلك آخر الأبد لا انت ولا غيرك إلا فيك لبرهةٍ عظيمة من الزمان].

ويقصد من ذلك وجود واحد من أئمة أهل البيت (ع) الذين يتناقلون علم رسول الله (ص) ويقول أيضاً: [ليس على وجه الأرض كتاب مثل كتابنا هذا ولا ألّف ولا يؤلف آخر للأبد].

وتجد الكثير من امثال هذه الاقوال فيكتب هو رسائله والتي تشير الى ان مصدر علمه هو الإمام الصادق (ع) والذي بدوره تلقى العلوم عن آبائه الطاهرين عن النبي (ص) مدينة العلم وعن وصيه أمير المؤمنين باب مدينة العلم والذي يقول: [علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب].

هذا هو منهج جابر الاخلاقي في الاعتراف بفضل سيده جعفر بن محمد (ع). كان جابر بن حيان أول من أسس مدرسة للكيمياء في الإسلام اعتمدت عليها الدول الاوربية في نهضتها العلمية فترجمت كتبه ورسائله الى اللغة اللاتينية عام (1662)م.

واخذت عنه ابتكاراته واكتشافاته وتعلمت منها الكثير خاصة كتابه(الاستتمام) لأهميته البالغة، فلم تكن تعرف جامعاتها مراجع تدرس في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر سوى كتب جابر بن حيان.

اختلفت المصادر والروايات في ولادة جابر ونشأته كثيراً وتعددت الاقوال المتضاربة حول دراسته الى الحد الذي جعل بعضهم ينفي أن تكون شخصية جابر شخصية حقيقية وهذه النبرة الذاتية ليست جديدة على الكثير من الكتّاب الذين تتحكم أهواؤهم ومزاجهم الشخصي في إطلاق الاحكام حول الشخصيات التاريخية.

وكأن عقولهم تأبى أن تلد الانسانية نوابغ عظماء أمثال جابر بن حيان، فأنكروا وجود هوميروس وامرؤ القيس وغيرهما حتى وصل الامر الى شكسبير.

واما الذي لم يجرؤ على انكار شخصيته فقد راح يقلل من مستوى جابر العلمي الذي فاق ذهنه فقال: [انه حتى إن كان شخصية حقيقية تاريخية فهو لم يضف هذه الكتب الكثيرة التي قيل انه مصنفها]، واستثنى من قال بذلك كتاب (الرحمة) الذي اعترف الكل بأنه له.

اما عن مؤلفاته الاخرى فقالوا (فقد صنفها غيره ثم نحلوه اياها) ولينظر القاريء وليعجب كيف تلعب الاهواء والعصبية في العقول فلنترك الرد عليهم الى ابن النديم في كتابه (الفهرست)، والذي نقل فيه هذه الآراء ورد عليها فالمقررات والحقائق التاريخية كانت اكبر من اهوائهم فيقول ابن النديم في فهرسه ص(499) في الرد على من أنكر وجود جابر بن حيان: [ان رجلاً فاضلاً يجلس ويتعب فيصنف كتاباً يحتوي على ألفي ورقة يتعب قريحته وفكره بإخراجه ويتعب بدنه وجسمه بنسخه ثم ينحله لغيره – اما موجوداً او معدوماً- ضرب من الجهل وان ذلك لا يستمر على أحد ولا يدخل تحته من تحلّى ساعة واحدة بالعلم وأي فائدة من هذا؟ وأي عائدة؟].

وكان هذا رد (كاراديفو) على من أنكر وجود جابر فقال كما في دائرة المعارف الإسلامية مادة (جبر بن حيان): ((انها رواية نرفضها بغير تردد))، وإضافة الى هذين الردين فهناك حقائق تاريخية تؤكد ان جابر عاش في القرن الثاني للهجرة، فقد نقل الحسين بن بسطام بن سابور الزيات واخوه ابو عتاب عبد الله بن بسطام عنه جابر ورويا عنه في كتابهما (طب الأئمة) وهما من معاصري الكليني صاحب كتاب الكافي كما ذكره الفيلسوف الرازي فقال: [استاذنا ابو موسى جابر بن حيان].

كما شرح كتب جابر بن حيان ممن جاء بعده بفترة قليلة كل من ابو جعفر محمد بن علي الثلمغاني وابو قران من اهل نصيبين، وذكر ابو حيان التوحيدي جابراً عند كلامه عن ابن مسكويه فقال: [كان مشغولاً ومنهمكاً بطلب الكيمياء مع ابي الطيب الكيميائي الرازي ومفتوناً بكتب ابي زكريا الرازي وجابر بن حيان].

ووصف (المجريطي) في كتابه (غاية الحكيم) كتاب (الجامع) لجابر بن حيان فقال: [يحتوي على ألف باب ونيف ذكر فيه اعمالاً عجيبة لم يسبقه اليها احد]، كل هذه الحقائق والمدوّنات التاريخية تؤكد وجود جابر وعبقريته وهي كافية لانصياع كل من انكر وجود جابر.

واما من استكثر على جابر مؤلفاته الكثيرة في الطب والفلسفة والكيمياء والمنطق والرياضيات فأفضل رد عليه هو رد ابن النديم الذي ذكرناه.

لقد ابتليت الامة الاسلامية بأمثال هؤلاء الذين سخّروا اقلامهم لأهوائهم ونزعاتهم الشخصية. وهناك طائفة اخرى حاولت بكل الوسائل تزييف الحقائق التاريخية برسم صورة مغايرة لما هو عليه جابر كأنهم يريدون جابراً حسب اهواءهم، والهدف من ذلك واضح إذ لا يسعهم تحمل أن جابراً شيعياً وانه تلميذ سادس أئمة أهل البيت أصل العلوم واساسها والذين أشاد الرسول بأتباعهم بعده، فراحوا يحاولون فصل التلميذ عن استاذه الحقيقي وابداله بإسم آخر.

فقالوا: (انه جعفر الذي يردده جابر كثيراً في كتبه بإضفاء لقب سيدي عليه هو جعفر بن يحيى البرمكي)، رغم تصريح جابر بأن استاذه وسيده هو جعفر بن محمد الصادق(ع)، ولأن جابر يكرر هذا القول كثيراً في كتبه كما قلنا فيقول في بعض الاحيان: [قال لي جعفر... وألقى إليّ جعفر]، للاختصار بترك ذكر اسم والد الامام الصادق فحاول البعض التصيد بالماء العكر وزعم ان جابراً يقصد جعفر البرمكي على الرغم من ان جابراً لم يقصد لقب البرمكي، فان الدلائل تنفي هذا القول من اساسه، لأن السياق في حديث جابر يسوغ له ان يذكر الاسم فقط بعد ترديده لإسم الامام الصادق كاملاً في بداية حديثه، جابر يسوغ له ان يعدل الى غيره بذكر اسمه فقط للاشارة الى المدلول وكذلك النعت الذي ينعت به سيده يجعل من المستحيل ان يكون شخص آخر سوى سيده الصادق هو المقصود إذ ان جابر كثيراً ما كان يقول: [سيدي جعفر بن محمد - صلوات الله عليه - و -عليه السلام - ]، ولا نجد من كان يطلق هذه الصلوات والتسليم على جعفر البرمكي لا من الشيعة ولا من السنّة.

وهذه الحقيقة اكدها الاستاذ المرحوم زكي نجيب محمود في كتابه (جابر بن حيان/ ص18)، عندما ينقل هذه الرواية عن جابر فيقول: (وفي مقدمة كتاب الحاصل لجابر يقول – أي جابر- : وقد سميّته كتاب الحاصل وذلك ان سيدي جعفر بن محمد – صلوت الله عليه – قال لي: فما الحاصل إلا ان بعد هذه الكتب – أي الكتب التي ألّفها جابر - وما المنفعة منها؟ فعملت كتابي هذا وسماه سيدي – صلوات الله عليه – بكتاب الحاصل...)، ثم يقول زكي نجيب محمود بعد ذكره هذه الرواية: (وواضح ان هذا التوقير كله لا يكون موجهاً الى برمكي... وإنما يوجه مثل هذا التوقير من شيعي الى إمامه).

ويقول في نفس الكتاب/ص17: (القول الراجح الصدق انه إنما عنى به جعفر الصادق ونقول انه مرجّح الصدق لأن جابراً شيعي فلا غرابة أن يعترف بالسيادة لإمام شيعي هذا الى وفرة المصادر التي لا تتردد في ان جعفراً المشار اليه في حياة جابر ونشأته هو جعفر الصادق).

وكذلك قال حاجي خليفة في كتاب (كشف الظنون) ص343 حينما يذكر جابراً مصحوباً بعبارة (تلميذ جعفر الصادق)، وجاء فريق ثالث ليهب لفظة (سيدي) التي كان يرددها جابر في كتبه ورسائله الى خالد بن يزيد بن معاوية بن ابي سفيان، ولكن سرعان ما تتهاواى هذه المزعمة بعد ان تصطدم بحقيقة ان وفاة خالد سبقت ولادة جابر بن حيان.

اذن لا مناص من الاعتراف بأن استاذ جابر وسيده وملقنه هو الامام جعفر بن محمد الصادق سادس أئمة أهل البيت الطاهرين.

هذه الحقائق الباهرة والادلة الساطعة التي عمي عنها البعض او تعامى كانت غصصاً في افواههم بعد ان عجزوا أن ينكروها فجاءوا من زاوية اخرى، فقصة جابر لن تنتهي مع هؤلاء، فجابر بن حيان اكبر عالم كيمياء عرفه العرب عبر تاريخهم وهو تلميذ الامام الصادق وهو شيعي كل هذه الحقائق تحملوها على مضض اذن فليكن جابر شيعياً ولكن ليس اثنا عشرياً بل اسماعيلياً.

هذا ما دوّنوه معتمدين على ادلة واهية أوهن من خيوط العنكبوت لا تستند الى الحقيقة بشيء وقد دحضت الحقائق العلمية أدلتهم الواهية فمن هذه الاراجيف قولهم: (ان فكرة العدد وخاصة السبعة تؤكد العلاقة بين جابر والاسماعيلية فمباديء الاسماعيلية سبعة والائمة سبعة والاقاليم سبعة بالإضافة الى الشرع الذي ينص على وجود سبع سماوات وسبعة أرضين وتمسكوا بقول جابر في كتاب (الانتقال من القوة الى الفعل): [ان شكل المسبّع هو شكل النار].

كما عمدوا الى نظريات جابر الكيميائية وربطوها بالتفكير الاسماعيلي فخواص الاشياء بالنسبة للكيميائي تنقسم الى ظاهرة هو العلم وباطنية هو الميزان والاسماعيليون لا يكتفون بالتفسيرات الظاهرية بل يغوصون الى الباطن ولذا سمّوها بالباطنية واعتمدوا كذلك في ادلتهم بعلاقة جابر بالاسماعيلية على اعطاء جابر التفسيرات الدينية في علاقة الاشياء بعضها ببعض واطلاق ألفاظ كيميائية عليها مثل اطلاق كلمة الاكسير وحجر الحكماء على الامام وتقسيم العوالم الى ثلاثة اقسام الصغير الانسان والكبير وعالم الامام الذي هو عالم الاكسير ليدل على الروابط الازلية بين العناصر الاربع وعقدوا مقارنة مغلوطة بين هذه المفاهيم لدى جابر مع التغيرات في بعض كتب الاسماعيلية مثل كتاب احمد بن حميد الدين الكرماني الاسماعيلي المعاصر للخليفة الفاطمي الحاكم بالله ونترك بدورنا الرد على هذه الادعاءات للاستاذ رؤوف سبهاني في كتابه (مشاهير فلاسفة المسلمين) ص312، فيقول بعد ان يستعرض هذه الادعاءات الواهية بالتفصيل: (وبالعودة الى محاولة ربط رسائل جابر بالاسماعيليين فهي محاولة فاشلة كسابقتها ليس لها ما يبررها خاصة بعد ورود اكثر التعابير في القرآن الكريم مثل التأويل والسبعة والباطن وغيرها فإذا نسبنا الاعداد وبخاصة السبعة والباطن الى الاسماعيلية لزم على هذا ان يكون القرآن الكريم إسماعيلياً وخاصة انه يوجه نحو الباطن ولزم أن تكون الحركات الصوفية في المشرق والمغرب اسماعيلية أيضاً).

ثم يقول في نفس الكتاب مفنداً رأي من يقول ان جابر غير شيعي: (ان جابر بن حيان هو بلا شك احد أهم فلاسفة الشيعة حيث سيطرت على كتبه ورسائله روح التشيّع كما وبرزت فيها الروح الجعفرية بأوسع حدودها).

وهناك حقيقة قاطعة تدحض رأي كل من قال ان جابر اسماعيلي وهي ان الاسماعيلية لم تبرز الى الوجود إلا من خلال داعيتها عبد الله بن ميمون عام (874) م، أي بعد موت اسماعيل بن الامام الصادق والامام الصاق وجابر بن حيان، إذن فلا اساس لهذه الدعوى ولا صحة فجابر كان شيعياً، واكدت المصادر المعتبرة على ذلك قديماً وحديثاً وقد اثبت صحة تشيّع جابر السيد طاووس في كتابه (فرج الهموم) عند حديثه عن أعلام الشيعة فقال: (وجابر بن حيان منهم صاحب الصادق).

ويعزز هذا الرأي ابن النديم بقوله في فهرسه: (لهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة)، اما ابرز العلماء الذين ترجموا لجابر واكدوا تشيعه فهم: السيد الامين في كتابه (اعيان الشيعة) حيث عدّه من كبار رجالات الشيعة، والشيخ اغابزرك الطهراني في (الذريعة)، والسيد محمد علي هبة الدين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 22/شباط/2012 - 29/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م