لقد أثبتت لنا العديد من التجارب، بان مفهوم النجاح الحقيقي في
إدارة الأزمات الدولية، لا يمكن أن ينحصر في الحصول على نتائج ملموسة
على المدى القصير، دون الأخذ بالاعتبار إلى نوعية تلك النتائج، أو مدى
محصولها الاستراتيجي وفاعليتها المستقبلية على ارض الواقع، كما لا يمكن
أن نتعامل مع قضية ما، أكانت تلك القضية اقتصادية أو اجتماعية أو
سياسية أو غيرها من القضايا المصيرية، دون معرفة عميقة بتلك القضية،
وشمولية تحيط بمختلف زواياها وجوانبها الظاهرة والخفية، مع ضرورة
التزام الحياد التام في التعامل، والصراحة في الطرح والمكاشفة وقت
اتخاذ القرار.
ومن ابرز تلك القضايا التي لا زلنا نتعامل معها دون مستوى تلك
الأسس والقواعد، قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى وجه الخصوص من
خلال جهلنا أو تجاهلنا لبعض الثوابت والمتغيرات في هذا الصراع، وذلك
بهدف اللعب على ورقة المتغير، للحصول من خلالها على بعض المكاسب، وتجنب
التشدق والتفيهق والمغامرة حول ثابت ندرك مسبقا استحالة تغييره، وخصوصا
إذا ما كان في صالح العدو أو الطرف الآخر، مع ضرورة استخدام نفس الورقة
في حال كان ذلك الثابت في صالحنا.
ومن أهم تلك الثوابت التي استحال تغييرها على مدى مسيرة هذا الصراع،
حيث اعتبرت من المقدسات الإسرائيلية والثوابت السياسية التي لا يمكن
المساس بها – من وجهة النظر الإسرائيلية على اقل تقدير-، قضية اللاجئين
الفلسطينيين، وضرورة التوسع والاستيطان في الفكر الصهيوني، والأرض
مقابل السلام، وبالطبع فان ذلك لا يعني تخلينا عن ثوابتنا نحن،
واعتبارها من المتغيرات كما يريدنا الطرف الآخر أن نعتبرها، كتنازلنا
عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، أو التمسك بخيار الأرض
العربية الفلسطينية التي انتزعتها إسرائيل بقوة السلاح والنار وتحالف
القوى العظمى، مقابل سلام " في علم الغيب "، وإنما هي دعوة لممارسة
العملية السياسية من خلال إدارة نموذجية وعقلانية تعتمد الحوار البناء
والهادف، بعيدا عن المماطلة والتسويف والسفسطة السياسية، وتتعامل في
ذلك بإرادة سياسية ثابتة وقوية، ونضج سياسي واع بما يجري من تحولات
عالمية، وإلا فان النتيجة بالطبع ستكون مجرد مضيعة للوقت والجهد والمال.
وقد كان مصطلح الأرض مقابل السلام، هو الأقدم في سياق ذلك الصراع
التاريخي، فأيهما الثابت والمتغير في قضية الصراع العربي مع إسرائيل ؟
اهو الأرض أم السلام، حيث تبدأ من هنا حكاية عقود من المد والجزر، لم
تنتهي بعد، كانت إحدى أهم نتائجها التاريخية والسياسية، مكتبة دولية
عربية اسرائيل، امتلأت رفوفها بالأوراق والمستندات والاتفاقيات
والمعاهدات التي لم تسمن ولم تغني من جوع، وظلت إسرائيل منذ ظهورها إلى
الوجود بقرار ظالم من منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1947م،
المسمار الذي دقته الصهيواميركية العالمية في خاصرة الأمتين الإسلامية
والعربية، وذلك بهدف أن يكون هذا الورم الخبيث، سبب في إضعاف وتقسيم
هذا الوطن العربي، وتقزيم قضاياه وزعزعة استقراره ونشر الفوضى والتشرذم
بين كياناته.
ومن يومها وجل الاهتمام العالمي والإقليمي يدور حول معادلة سياسية
واحدة، ألا وهي معادلة الأرض الفلسطينية العربية المسلوبة من قبل هذا
العدو، مقابل سلام إسرائيلي زائف، لم نشهد منه حتى يومنا هذا، سوى مئات
الأكاذيب والألاعيب، ومئات المجازر والاعتداءات والقمع والإرهاب، بحق
الشعب الفلسطيني المسلم العربي الأعزل، ودول الجوار الإقليمي، لحل
معضلة ذلك الصراع، لذا فإننا ومن خلال هذا الطرح سنحاول اختصار و تمحيص
وتحليل وتجزئة هذا الخيار الايديوبوليتيكي، لحل معضلة الصراع العربي
الإسرائيلي، وذلك من خلال استقراء ثقافة الحرب والسلام في أيديولوجيا
السياسة الإسرائيلية، وتأثير ذلك في العقيدة السياسية و الصراع
التاريخي – من وجهة النظر الإسرائيلية – مع العرب، واستخلاص أهم
النتائج التراكمية لمعطيات ذلك التوجه الصهيواميريكي من خلال وجود هذه
المستعمرة في قلب عالمنا الإسلامي والعربي، والتي كان على رأسها الفشل
المتواصل في تحقيق نتائج ملموسة في قضية السلام مع إسرائيل بشكل عام
والقضية الفلسطينية العربية على وجه الخصوص.
فبداية لابد أن نفهم حقيقة الأرض وأهميتها في العقيدة الصهيونية،
ومدى تأثيرها السيكولوجي على صانع القرار الإسرائيلي، وعلى وجه التحديد
عندما يتعلق الأمر بخيار الأرض مقابل السلام، فالصهيونية الحديثة وكما
سبق واشرنا في العديد من الأطروحات السابقة، قد أعادت إلى الواجهة
السياسية الإسرائيلية أهمية التمسك بالأرض، فللأرض في العقيدة اليهودية
والصهيونية مكانة تاريخية ودينية راسخة وعميقة، بحيث لا يمكن التنازل
عنها أو التساهل فيها، ومن هذه القاعدة المتلازمة للمنطق السياسي
الصهيوني، تم بناء جل التوجهات السياسية الإسرائيلية الإستراتيجية نحو
عملية السلام مع العرب، وبالطبع فان ذلك لم يبرز بشكل مباشر ومعلن في
لغة الخطاب السياسي الإسرائيلي كثيرا،– أي – أن إسرائيل قد أظهرت في
كثير من الأحيان ليونة بالغة التعقيد، توحي بإمكانية التنازل والتساهل
نحو هذا الثابت السياسي والتاريخي والعقائدي، ولكن ذلك الصمت حيال هذا
الموضوع قد كان يخترق في بعض الأوقات، حيث تفضح الألسنة ما تخفي القلوب
المريضة - وللأسف – فان العرب لم يفهموا عمق هذا الثابت المقدس في
العقيدة السياسية الصهيونية، أو أنهم تجاهلوا ذلك رغبة في المغامرة أو
العزف على أوتار الأمل، فانساقوا وراء المماطلات والمسوغات التي لعبت
كأوراق خاسرة على طاولة الحوار العربي الإسرائيلي.
فللأرض في العقيدة اليهودية والصهيونية كما تطالعنا به كتبهم
الدينية والتاريخية ودورياتهم الثقافية والسياسية منزلة خاصة، تتعدى
كونها مساحة جغرافية أو إقليم وطني، فهي رمز لاهوتي، يجري من خلاله
تبليغ سلسلة من الرسائل المقدسة للشعب التائه – بحسب ذلك المعتقد
الظلامي لحاخاماتهم-، وبالطبع فان في هذا الموضوع حديث طويل، تناولته
العديد من الأبحاث التاريخية التي وضحت صور التحريف والتزييف في لغة
الخطاب السياسي والديني الصهيوني، وعلى وجه التحديد بخصوص موضوع الأرض
في سياقها العقائدي القديم، أما حديثا فينظر جل صانعي القرار السياسي
الإسرائيلي في الوقت الراهن إلى موضوع الأرض، من نفس السياق التاريخي
الذي نظر إليه مؤسسيها، كثيودور هيرتزل و مناحيم بيغن وغولدا مائير وبن
غوريون وموشي ديان، فلا فرق مؤثر، أو ملحوظ في نظرة صانعي القرار
السياسي الإسرائيلي الحديث والقديم بخصوص هذا الشأن، وبالتالي فان
موضوع الأرض موضوع ثابت لا يمكن المساس به، وبمعنى آخر، لا يملك أي احد
في إسرائيل أو خارجها صلاحية التغيير أو التنازل عن بعض منه.
وهو ما تؤكده بعض تصريحاتهم التي تناولتها بعض الصحف العالمية،
والتي تثبت لنا صعوبة التفاوض حول هذا الثابت لإحلال السلام في الشرق
الأوسط بين إسرائيل والعرب، وأبرزها – على سبيل المثال لا الحصر - ما
نقلته صحيفة لوموند الفرنسية بتاريخ 15/أكتوبر/1971 م، عن احد ابرز
قادتهم السياسيين ومؤسسي مستعمرتهم الكبرى، وهو مناحيم بيجن، حيث يقول:-
إن وجود هذه (الدولة) هو تجسيد للوعد الإلهي، ومن السخف أن يطالب احد
بإثبات شرعيتها بغير ذلك، وهذه هي المسلمة الأساسية التي صاغتها جولدا
مائير، وكررها مرة ثانية وبكل صراحة في مباحثات أوسلو بقوله:- لقد
وعدنا بهذه الأرض ولنا الحق فيها.
وبالتالي فقد جاءت الممارسات العملية على ارض الواقع بعد ذلك
وقبله، متطابقة مع تلك الرؤية الغريبة التي تقول:- استولوا على الأرض،
واطردوا السكان، مثلما فعل يشوع خليفة موسى – عليه السلام، وعليه فان
الصهيونية الحديثة لا تبني مطالبتها بحق ملكية الأرض على التاريخ فحسب
(بل على الكتاب المقدس أيضا – كما يزعم ذلك قادتهم – وخصوصا على وعد
الله بان يعطي الأرض لإبراهيم ونسله ملكا أبديا) (التكوين 17: 8) وعليه
فان اليهود يعتبرون كتابهم المقدس صك ملكية يثبت حقهم في المطالبة
بملكية الأرض، كما يقول ذلك كولن تشابمن أستاذ الدراسات الإسلامية في
كلية اللاهوت للشرق الأدنى في بيروت.
نعم.... أن استعداد إسرائيل لمناقشة السلام بشكل كامل وحول جميع
المسائل، وبأي ثمن صعب للغاية، وخصوصا في ظل وجود تلك الثوابت
التاريخية والإيديولوجية التي لم تستطع جل الأطروحات السياسية حلها إلى
يومنا هذا، وعلى رأسها قضية الأرض مقابل السلام، فأي تدقيق في سجلات
إسرائيل التاريخية يظهر لنا (أنها كانت دائما تفضل الأرض على السلام،
وترفض تقديم تنازلات، وكانت هذه هي الحال طوال تاريخ إسرائيل)، حتى أن
صديقا لإسرائيل من وزن هنري كيسينجر اعترف بتفضيل إسرائيل للأرض،
قائلا:- لقد بنى الفلسطينيون سياستهم طوال نصف قرن تقريبا على الأمل في
النهاية لخلق مجموعة من الضغوط الدولية والعربية لتدمير إسرائيل... وفي
مواجهة هذه المواقف تبنت إسرائيل المماطلة بوصفها أفضل إستراتيجية
لمواجهة الثمن الذي قد تدفعه إسرائيل إن هي ناقشت خيار السلام.
* رئيس تحرير مجلة السياسي
azzammohd@hotmail.com |