الإساءة لمقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدانة بكل
المقاييس، ومن أي إنسان صدرت. ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو: ما
هي الإساءة؟ هل هي منحصرة في التعبيرات المبتذلة التي تنتقص من مقام
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من رسوم كاريكاتيرية أو كلام بذيء
يتخذ أشكالا مختلفة من رواية أو قصيدة أو تصريح أو تغريدة شيطانية أو
غيرها؟
في الواقع هذه التعبيرات ليست إلا الشكل الفاقع المستفز من أشكال
الإساءات، ولذلك يرفضها ويمجها الجميع، لأنها تصطدم بشكل مباشر مع شخص
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. أما الأشكال الأخرى فإن فهمها
يحتاج إلى درجة من الرشد الفكري ينفذ إلى ما يسيء للرسالة أيضا فيجعله
مسيئا لصاحبها الذي قضى عمره الشريف لتبليغها وتطبيقها.
وبناء على هذا الفهم تتسع دائرة الإساءة لتأخذ أبعادا أخرى.
1- فالتخلف الحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلامية في جميع المجالات
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية هو إساءة للرسالة وللرسول،
لأن التخلف موت العلم وعيش الجهل؛ موت التقدم وعيش التأخر. وهل أعظم من
هذه الإساءة التي تشكل الأذى الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
الذي يرى رسالته منبوذة وراء ظهور قومه، ويرى كتاب الله الذي يدعو
للحياة الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)، يُتعامل معه
تعاملا قشريا، فينادي في ألم ممض: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا
هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) سورة الفرقان.
2- سيادة الاستبداد والكبت وتقييد الحريات إساءة للرسالة وللرسول
الذي جاء مبشرا بالحرية في أسمى درجاتها، ملخصا إياها في كلمة ( لا إله
إلا الله )، حيث الرفض المطلق لكل الآلهة والأصنام المخترعة، سواء
تمثلت في شخص أو حجر أو فكرة أو سلطة، والتسليم لله وحده.
كيف يمكن لسلطة سياسية مثلا تمارس القمع والإمساك بالعصا الغليظة
والضرب باليد الحديدية، وتغص سجونها بالمصلحين الواعين أن تدعي الدفاع
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتبعه الآخرون لأنه:
(يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). والذي
كانت الشورى المحفوفة بالرحمة واللين والمداراة عنوانا بارزا في حركته
المباركة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
(159) سورة آل عمران.
كيف يمكن لسلطة جائرة تقوم على الظلم وعدم العدل بين الرعية أن تدعي
الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول: (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ).
3- الفساد المالي المستشري في الأمة إساءة أخرى للرسول وللرسالة
التي جاءت حربا على الفساد بكافة أشكاله، والتي تدعو للحفاظ على
الثروات والمال الخاص والعام: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا). والذي يدعو
إلى عدم احتكار الثروة عند فئة محدودة: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ).
يقول صاحب تفسير الأمثل معلقا على هذه الآية: والمفهوم الذي ورد في
هذه الآية يوضّح أصلا أساسيّا في الاقتصاد الإسلامي وهو: وجوب التأكيد
في الاقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة
معيّنة تتداولها فيما بينها، مع كامل الاحترام للملكية الشخصية، وذلك
بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع
من الأمة. ومن الطبيعي ألّا نقصد من ذلك وضع قوانين وتشريعات من تلقاء
أنفسنا ونأخذ الثروات من فئة ونعطيها لآخرين، بل المقصود تطبيق
القوانين الإسلامية في مجال كسب المال، والالتزام بالتشريعات المالية
الأخرى كالخمس والزكاة والخراج والأنفال بصورة صحيحة، وبذلك نحصل على
النتيجة المطلوبة، وهي احترام الجهد الشخصي من جهة، وتأمين المصالح
الاجتماعية من جهة أخرى، والحيلولة دون انقسام المجتمع إلى طبقتين: (الأقليّة
الثريّة والأكثرية المستضعفة).
كيف يمكن لأمة أن تدعي دفاعها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وهي تحتل المراتب العليا في الدول الأكثر فسادا والأقل نزاهة في تقارير
منظمة الشفافية الدولية؟
4- التمزق الاجتماعي والاحتراب الداخلي وتكريس الطائفية والمناطقية
والقبلية إساءة للرسول وللرسالة التي تدعو لأخوة الإيمان وللأمة
الواحدة ذات الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالحمى والسهر.
كيف يمكن لمجتمع أن يدعي دفاعه عن الرسول وهو يمارس التمييز بكافة
أشكاله، ويفرق بين المرء وزوجه لعدم تكافؤ النسب، وهو يقرأ قول الله
تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
(13) سورة الحجرات.
5- ضمور الوعي واستمراء البقاء في ظلمات الجهل والركون إلى أرذل
العيش إساءة للرسالة والرسول الذي يؤكد على العزة والكرامة: (وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
هذه الإساءات وغيرها لا يُتحدث عنها للأسف الشديد، وهي إساءات أعظم
أثرا من غيرها، وتُمارس على نطاق أوسع، وفي إزالة أسبابها والتخلص منها
منع للإساءات الأخرى، لأن الأمة حينها ستكون معبرة حقيقية عن الرسول
والرسالة كما جاءت من عند الله نقية صافية عذبة يسعى نحوها الظامئون.
elaphblog.com/bshabib |