كيف نسوق انفسنا معرفيا ومتى؟

عباس عبود سالم

لم يمضي الا عام واحد على الثورة المصرية، حتى ازدحمت المكتبات بمئات العناوين لكتب ومطبوعات تتناول جوانب مختلفة من هذه الثورة التي استمرت 17 يوما، حيث تسابق الكتاب الى عرض كل جوانب الثورة، وتفاصيل ايامها القليلة، وممهداتها، ورموزها، ومستقبل مصر بعدها، ودورها الاقليمي والداخلي.

واضافة الى المطبوعات الخاصة بالثورة المصرية، انتجت دور الفكر ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية كم هائل من الدراسات العلمية المحكمة، التي تتناول ابعاد عملية التغيير في مصر لتكون زاد ثريا للباحثين والدارسين والمهتمين.

وفي الولايات المتحدة حيث يتم تخصيص مليارات الدولارات للبحث العلمي، هناك صناعة متخصصة بالكتاب تتكامل مع صناعة التلفزيون، والصحف، ووسائل الاعلام الاخرى، ولهذه الصناعة ضوابطها الفنية والاعلامية والتسويقية، فما ان يترك اي رقم سياسي مركزه حتى يظهر الى المكتبات كتاب انيق مبهر الطباعة والتصميم يسجل مذكراته، ويحكي عن تجربته ليزود العالم اجمع بتجربة جديدة يضيف من خلالها شيء جديد الى مفاهيم السياسة والمجتمع.

واغلب هذه الكتب يكتبها محررون متخصصون، بعد ان يقضوا ساعات طوال مع الشخصية المعنية التي يخرج باسمها الكتاب، ولايهم ان كان سفيرا في مهمة خاصة جدا مثل بول بريمر صاحب سنتي في العراق، او مرشح خرج من سباق الرئاسة مثل سارة بالين صاحبة كتاب التمرد، او جنرالا عسكريا يروي يوميات الحروب مثل تومي فرانكس صاحب كتاب جندي امريكي، او رجل مخابرات يكشف اسرار اللحظات الحرجة مثل جورج تينيت صاحب كتاب من قلب العاصفة.

اضافة الى وزراء الخارجية، والدفاع، مثل روبرت ماكنمار وزير الدفاع خلال سنوات حرب فيتنام وصاحب كتاب جوهر الامن، و كونداليزا رايس التي هي بالاساس باحثة ومنظرة اكاديمية، ومادلين اولبرايت صاحبة كتاب الجبروت والجبار، وديك تشيني صاحب كتاب في زمني، وكولن باول صاحب كتاب رحلتي الامريكية، وكذلك جميع رؤساء الولايات المتحدة الامريكية، وهؤلاء جميعهم ليسوا كتابا وليست مهنتهم الكتابة والتأليف، لكنهم اصحاب اكثر الكتب انتشارا، ففي كل يوم يخرج عنوان جديد يخص شخصية، او حدث ويحظى بحملة اعلامية كبيرة ويحقق مبيعات وارباح هائلة ثم يترجم الى اللغات الحية.

وهنا من حقي ان اقف متسائلا، ماذا قدمنا نحن للتحول العراقي، وللانتفاضات التي انطلقت منذ عقدين من الزمن، وكان وقودها مئات الالاف من ابناء العراق، وماذا سجلنا من تاريخنا الذي نصنعه نحن وفي الغالب يسجله اخرون، سواء بالتوثيق الصوري المرئي، او بالكتب والدراسات العلمية، ماذا قدمنا للباحثين الذين يتناولون شأن عصي على الفهم العربي، وماذا وفرنا للمكتبة العربية كي يفهمنا ابناء النخبة الباحثة عن الحقيقة، وماذا وضعنا بين يدي سفراء جمهورية العراق من مطبوعات ليقدموها الى من يسألهم اين انتم الان، ومن انتم، ولكل باحث ومهتم ومراقب ومتشكك.

للاسف اكثر مطبوعاتنا كتبناها لانفسنا، وقليل جدا منها من يصلح للتصدير، وللترجمة الى لغات الدنيا، اما الاغلبية العظمى من العناوين التي تسجل، وتؤرخ، وتترجم، وتبحث، وتنظر في التجربة العراقية فهي صادرة من مراكز، ودور، ومؤسسات لبنانية، ومصرية، واردنية، وسورية وامريكية، وسعودية مثل مؤسسة العبيكان السعودية التي لم تترك شيء لم تترجمه واعادت طباعته باسلوب جذاب ومتميز، ومركز دراسات الوحدة العربية الذي يشرف عليه ويديره الدكتور خير الدين حسيب، والدار العربية للموسوعات التي يديرها ويشرف عليها خالد العاني، والمركز العراقي للدراسات الاستراتيجية التابع لمؤسسة الخنجر وهي مراكز معروفة التوجهات.

اما مراكز الدراسات العاملة في العراق فهي لاتختلف للاسف عن اغلب منظمات المجتمع المدني العراقية التي اتخذت من الشعارات والعناوين البراقة واجهات للتكسب المشروع وغير المشروع، وهو حال دكاكين كثيرة اتخذت من مفردة مركز، ومجموعة، ودراسات، وابحاث، واستراتيجية، وعالمية، ودولية، تايتلات وواجهات لعملها، في حين ان ماتنتجه من اعمال وما تنظمه من مؤتمرات وورش ونشاطات اخرى، ليس الا تجمعات دعائية، واعلامية، لاتنتج الا الخطب الرنانة، والنقاشات العجولة، والكلمات المنمقة ذات المردود السريع التي اعدت كي تنقلها الفضائيات، وتنشرها الصحف، او انها تعالج عناوين كبيرة باسلوب (سلق البيض) على الطريقة العراقية، فليس المهم رصانة الانتاج وجديته بقدر مفعوله السريع بتأثيره واستجابته للممول او صاحب السلطة.

فكم من الذين يدعون الاستراتيجية انتج عشر او خمس بحوث رصينة نشرت في مجلات ودوريات عربية وعالمية متخصصة بالدراسات الاستراتيجية المحكمة، وكم منهم من يحمل تخصص علمي دقيق بالاستراتيجية، وكم منهم له مؤلفات بالاستراتيجية حتى يطلق على نفسه صفة هو ليس اهلا لها، هذا على مستوى المجتمع المدني، اما على مستوى الدولة ومؤسساتها المتخصصة فالقصور موجود ايضا.

 فهل فكرنا باقامة ندوة فكرية على مستوى عربي تستقطب كبار الاكاديميين، والباحثين العرب، والخروج بعمل فكري يسبق انعقاد قمة بغداد التي تواكب اخطر واهم التحديات التي تواجه البلاد العربية، وهل فكرنا في طرح تجربتنا الى الوفود العربية التي ستحضر القمة من خلال مجموعة نتاجات فكرية، وسياسية، وتوثيقية تطرح رؤيتنا لخلاصة التجربة العراقية، واهميتها، ومستقبلها، وهل تركنا لأجيال جديدة من النخب الاكاديمية والبحثية العراقية تراث علمي يمكنها من الوقوف على حجم التجربة وعوامل القوة ونقاط الضعف فيها ليتم تعزيز الانجازات وتكريسها، وتلافي الهفوات، والاخطاء، واعادة بناء النخبة العراقية على اسس جديدة من التراكم المعرفي ان قلتم لم نقدم شيء وسنعمل اقول انا معكم، وان قلتم نعم قدمنا الكثير ساقول حسبي الله ونعم الوكيل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 1/شباط/2012 - 8/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م