كما قال ابيقور: لا نستطيع ان نعبر النهر مرتين، لان عناصر كل حدث
تتغير على الدوام، ولان العوامل والأسباب التي تؤثر في الحدث او يتأثر
بها الحدث تتغير باستمرار وبنسق متسارع، إنما وبالرغم من ذلك، فهناك ما
يجعل العديد من الأحداث وفي ميادين وأزمنة مختلفة وان اختلفت في العديد
من العوامل تتشابه وتتلاقى وتتلاقح وتتجاذب كثيرا في عوامل أخرى، وفي
نفس الوقت تتصل ببعضها بالبعض الآخر، وهذا ما يسمى بالاتصال التاريخي،
والمتصل في التاريخ هو مجموعة من الظواهر ذات طابع أساسي مشترك يستمر
في الزمان والمكان.
(فالتاريخ ليس فوضى او مصادفة لا غير، ذلك ان في السلوك الإنساني
درجة من النظام والنسق الظاهرين يمكن التنبؤ الجزئي باستمرارها المنظم)،
فلو كان في وسع تاريخ الفكر ان يظل ملتقى اتصالات لا تنقطع، ولو كان
يربط بدون انقطاع بين تتابعات يتعذر على أي تحليل ان يفك عراها دون
تجريد، ولو كان ينسج حول كل ما يقوله الناس وما يفعلونه تركيبات غامضة،
تستبق أقوالهم وأفعالهم وتمهد إليها وتقودها باستمرار نحو مستقبلها
لكان ذلك مأمنا متميزا لسيادة الوعي.
(ان التاريخ المتصل هو الرديف الملازم للدور التأسيسي للذات: فهو
الذي يضمن لها ان تستفيد من كل ما صاغ منها، ويؤكد ان الزمان والمكان
لا يفرق بين الأشياء إلا لكي يعيد إليها وحدتها، وان كل هذه الأمور
التي أزاحها الاختلاف، في مقدور الذات – في صورة الوعي التاريخي – ان
تتملكها وتعيدها يوما ما، لتسيطر عليها ولتجد فيها ما يمكن ان نسميه
مقرها، وان جعل التعليل التاريخي خطابا للمتصل، والوعي البشري ذاتا هي
مصدر كل صيرورة وممارسة، هما وجهان لنفس النظام الفكري، انه نظام يعد
الزمان تجميعا كليا للأحداث، والثورات مظاهر ليقظة الوعي).
ونحن من خلال هذا التفسير الفلسفي لما نطلق عليه بالاتصال التاريخي
للأحداث، وكون عناصر أي حدث هي كل للزمان والمكان والبشر، وبالتالي
فانه لا يمكننا ان نفهم الحاضر وأحداثه ووقائعه ولا استشراف المستقبل
القريب او البعيد بشكل صحيح سوى من خلال الربط والاتصال التاريخي بين
جل عناصر الحدث، ويمكن هذا فقط من خلال استعادة الأحداث الماضية
والتفكير فيها، فمثلا لفهم العلاقة بين شخصين، سواء أكانوا أشخاصا
طبيعيين او معنويين، علينا استعادة الأحداث الماضية الأخيرة المسجلة
بينهما، وهذا يعني ان وصف الحاضر يحتاج الى تحليل للماضي التاريخي، (والماضي
التاريخي والذي هو نتيجة ورمز للأحداث، هو جمع وتركيب وتفكيك أحداث
تاريخية سابقة – حتى وان لم تكن بينها علاقة تاريخية متشابهة او مهمة
بشكل كبير او دقيق – فيما يتعلق بما تسهم به في فهم الخصائص التاريخية
لحدث لاحق).
فما نبحث عنه في معرفة المستقبل هو نفسه ما نبحث عنه في معرفة
الماضي، هو نفسه ما نبحث عنه في معرفة الناس الحاليين: إنها المواقف
الأساسية للأفراد والتجمعات البشرية تجاه القيم والمعارف والتلاحم،
ونحن هنا بالطبع يجب ان نعترف بانه يستحيل تبيان قانون التقدم في
الوقائع، ولا يمكننا ان نحدد علميا او بشكل دقيق الى أين تتجه
الإنسانية من خلال ذلك المنظور التاريخي لقاعدة الاتصال، فالأفكار
والاتجاهات التي تحكم تصرفات البشر لا يمكن تسويغها بشكل مطلق بالعقل
والمنطق والقواعد والقوانين العلمية، لذا فان السند الاستشرافي
التحليلي للولوج الى معرفة تناسق السلوك الإنساني الجماهيري لأسباب
تناقل الثورات هو ممكن عبر الاتصال بالوعي التاريخي والسيكولوجية
الاجتماعية للجماهير.
وهنا نطرح السؤال التالي: لماذا لم تتوقع العديد من الدوائر
الرسمية العربية، السياسية منها والأمنية والاجتماعية وقت تلك الثورات
التي أطاحت بالعديد من الأنظمة في العالم العربي، ولا زال بعضها الآخر
مهدد بالسقوط والإطاحة به جراء تبعاتها وتجاذباتها العابرة للحدود
الإقليمية العربية؟!! ربما يقول البعض انه بالفعل قد توقعت بعض تلك
الدوائر والمؤسسات والعديد من المراقبين وقوع تلك الأحداث، ولكن كان
بالطبع من الاستحالة عليهم توقع وقت حدوثها او حتى مكان اشتعالها بشكل
دقيق، وإلا لكان بالإمكان احتواءها منذ البداية.
وفي هذا السياق يقول روبرت جاكسون في كتابه ميثاق العولمة، سلوك
الإنسان في عالم عامر بالدول (انه ثمة أشياء كثيرة تحدث في علاقاتنا مع
الآخرين لا نستطيع توقعها او التخطيط لها بأي قدر من الدقة، لان من شان
الناس والأحداث ان يباغتونا، وهي سمة جديرة بالملاحظة من سمات العلاقات
الدولية تاريخيا، ففي هذه الدائرة من العلاقات الإنسانية، كما في أي
دائرة إنسانية أخرى، تكون الأشياء غير المنظورة او غير المتوقعة قابلة
لان تقع دونما إنذار او تنبيه مسبق).
لذا فإننا يمكن ان نؤكد على ان دراسة تاريخ الثورات التي هزت
العالم عبر مختلف العصور، من مختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية
والنفسية والسياسية وخلافه، يمكنه ان يؤسس ويؤطر لبناء منظومة شبه
دقيقة لتلك العوامل والتصرفات والأفكار والأيديولوجيات التي يمكن من
خلالها التنبؤ بالسلوك الإنساني للجماهير قبل وأثناء وبعد الثورات، حتى
وان كان هناك اختلاف جوهري بين تلك الفترات التاريخية.
ونحن لا نختلف كثيرا مع الرأي القائل بان الحادث الواحد لا يمكن ان
يتكرر حقا في فترة أخرى من فترات التطور التاريخي، - وبمعنى آخر – لا
يمكن تطبيق الرؤية التاريخية بشكل كامل على الثورات التي وقعت في العام
1848م في أوربا مع ثورات الربيع العربي في العام 2011م، ولكننا وفي نفس
الوقت نؤكد على إمكانية التسليم القطعي بانه من (الممكن للاتجاهات
المتماثلة ان تسود في فترات مختلفة ربما فصلت بينها أزمنة طويلة، وقيل
ان هذا التماثل موجود فعلا بين بلاد الإغريق في العهد السابق على
الاسكندر وألمانيا الجنوبية قبل عهد بسمارك، وفي مثل هذه الأحوال يمكن
الوصول الى تقدير معنى الحوادث المعينة عن طريق مقارنتها بما يماثلها
من حوادث في فترات سابقة، وذلك حتى نتمكن من التنبؤ بالتطورات الجديدة،
على ان لا نهمل ما بين الفترتين اللتين تقارن بينهما من فوارق لا محيص
عنها).
- وبمعنى آخر – فإننا وبالرغم من قناعتنا الشخصية بانه لا يمكن ان
ندرك الحقائق التاريخية من خلال ضبط الوجود ككتلة سلوكية إنسانية واحدة
لا بالتجربة لا بالعقل، وبالتالي فإننا نقر بضرورة الابتعاد عن نظرية
الكلية التاريخية ووجهات النظر المطلقة للأحداث وذلك بسبب محدودية
إمكانيات العقل البشري، فإننا كذلك وفي نفس الوقت مؤمنين بشكل كامل
بإمكانية تحقق نظرية الحتمية الجزئية للتاريخ البشري، وإمكانية التعرف
على التصرفات والسلوكيات البشرية من خلال اتصالها التاريخي.
وبالعودة على سبيل المثال لا الحصر الى الثورة التي هزت بريطانيا
في عام 1688م، والثورة الاميركية في عام 1773م، والثورة الفرنسية في
عام 1789م، والى ربيع الثورات الأوربية في عام 1848م، والثورة الروسية
في عام 1917م، والثورات التي أدت الى تفكك الاتحاد السوفيتي قبل نهاية
عام 1991، والى ثورات ما أطلق عليه بالربيع العربي منذ العام 2010م
وحتى اللحظة التاريخية، يتبين لنا تقارب بعض أنماطها السلوكية
الإنسانية، والتشابه الجزئي للوعي التاريخي والايدولوجيا التاريخية
التي حركت مشاعر وعواطف الجماهير فيها بالرغم من اختلاف الديموغرافيا
والجغرافيا وحتى الثقافات البشرية السائدة.
كما نلاحظ ان اغلب مطالب الجماهير والشعوب التي قامت بتلك الثورات
التاريخية تدور في فلك الحقوق الدستورية والإنسانية، ففي الثورة
البريطانية تركزت مطالب الجماهير حول ضرورة إصدار دستور يحكم البلاد
والتحول الى الملكية الدستورية وسلطة الشعب من خلال البرلمان والتسامح
الديني بين مختلف المذاهب المسيحية، وتركزت في الثورة الاميركية حول
الحقوق الإنسانية كحق الحرية والمساواة وتنظيم الهيئات التشريعية و
التنفيذية، وفي الثورة الفرنسية حول الحقوق الإنسانية والفكرية
والقانونية، وهو ما نجده بكل دقة في مطالب الجماهير العربية في اغلب
ثوراتها، حيث دارت اغلب تلك المطالب وتركزت حول الإصلاحات الدستورية
والقانونية والإنسانية.
لذا فان هناك أوجه كثيرة للتشابه بين مطالب جماهير الثورات العربية
في الفترة من 1919م - 2011م وتلك الأوربية والأميركية في الفترة من
1688م – 1991م، كما أمكننا ان نرى بسهولة ان ثمة رغبات متشابهة وعواطف
واحدة متقاربة بين تلك الجماهير بالرغم من التباعد ألزماني والمكاني
بينهما او حتى النتائج التي ترتبت على تلك الثورات لاحقا، ويمكننا ان
نختصر أوجه التشابه في النقاط التالية: ان تلك الثورات استهدفت التغيير
الجذري للوضع القائم، وأثرت في الفكر السياسي العالمي وتشابهت في
الكثير من الأسباب والدوافع والنتائج الفكرية والسياسية.
وفي هذا السياق طرحت الأهرام المصرية بعض التساؤلات المشابهة في
مقال لها تحت عنوان: ثورات خريف الأمم الأوروبية وثورات الربيع العربي،
قالت فيها: ما هي أوجه التشابه بين ثورات شرق أوروبا التي تتمثل في -
بولندا، المجر، ألمانيا الشرقية، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا ورومانيا - في
عام 1989م، وثورات شمال أفريقيا - تونس ومصر وليبيا - في عام 2011م؟،
وكانت الإجابة ان (كلتا الثورات قام بها الشعب ضد الظلم والقيود
والتحكم ولكن في شرق أوروبا كان المتحكم الاتحاد السوفيتي والشيوعية
بينا في ثورات الربيع العربي ففساد الحكم والقيود القوانين العسكرية
وحالات الطوارئ التي دامت فترات طويلة).
وهكذا فانه يمكن التعامل في تحليل ودراسة تلك الظواهر السياسية
والاجتماعية وسلوكيات الجماهير وردات أفعالهم المترتبة عليها من خلال
استخدام أساليب الاستشراف المستقبلية التي تتعامل واستقراء التاريخ
كمراقبة التوجهات، فبعض تلك التوجهات هي في الواقع عبارة عن مؤشرات
Indexes – أي – أنها تجمع عددا من التوجهات المختلفة في مقياس واحد
شامل، يمكن ان يقول لنا شيئا مفيدا، كما يمكننا استخدام تقنية
السيناريوهات من خلال تقنية الاستقراء الى الأمام والاستقراء الى
الوراء.
كما يمكن الحصول على نتائج جيدة في مثل هذه الوقائع والأحداث
التاريخية من خلال الاعتماد على تقنية ما يسمى بالمنظومات والمقاربات،
(حيث تساعدنا مقارباتنا التي تستخدم المنظومات على تفهم العلاقات التي
توجد عبر المكان والزمان والمجالات، ولهذا فهي ذات صلة وثيقة بالتفكير
بالأحداث متعددة الأبعاد وبالتوجهات والعلاقات المعقدة).
فإدراك معنى الحدث في مثل هذه الظواهر التاريخية والتعرف على
سلوكيات الجماهير في الثورات المعاصرة، بناء على المقاربة التاريخية
لأنماط وسلوكيات الجماهير من خلال الثورات القديمة يحتاج منا الى أكثر
من تحليل نشأتها وآثارها وقيمة المواقف التي وقعت فيها، فمن الضروري
(ان نقرا ونحلل ما وراء الحدث من اتجاهات وميول موضوعية تاريخية تسود
الفترة التي حدثت فيها، مثل ازدهار او انحلال بعض التقاليد والدول، كما
يجب ان نحلل مقدار ما يسهم به ذلك الحدث في العملية التاريخية التي
تمخضت عن هذه الاتجاهات، - أي – ان نفهم العوامل الذاتية والموضوعية
التي أدت الى ولادة ذلك الحدث على هذه الشاكلة دون أشكال أخرى، - أي –
لابد من تفهم الصراعات الاجتماعية والسياسية التي أدت الى ظهور الحدث).
وكما يقول مكيافيلي من أننا يمكن ان نرى بكل سهولة ان (ثمة رغبات
متشابهة وعواطف واحدة متقاربة تكون دائما موجودة وفي جميع الأوقات بين
البشر، وفي المدن كافة وعند مختلف الشعوب، وبناء على هذا فانه اذا درس
المرء بشيء من المثابرة شؤون الماضي، فان من السهولة عليه ان يتكهن –
يستشرف – مستقبل دولة من الدول، وان يطبق العلاجات نفسها التي استخدمت
في الماضي، فإذا لم يجد ان ثمة علاجات قد استعملت أمكنه ان يبتكر
علاجات جديدة، وذلك بفضل ما في الأحداث من تشابه وتطابق).
هكذا يتبين لنا ان هناك تواصل واتصال تاريخي غريزي وفطري واضح يجمع
سلوكيات وتصرفات جماهير الثورات التي حدثت قبل مئات السنين وتلك التي
تقع اليوم وما سيقع منها خلال السنوات والعقود القادمة بسبب ما أطلقنا
عليه بالتواصل التاريخي، فهناك أشياء مشتركة لا يمكن تخيل عكسها تجمع
تلك المجموعات من البشر اللامنتمين الى نفس الحضارة والمجتمع والفترة
التاريخية، وعدد معين من الأفكار والمشاعر والأهداف التي لها محتوى
مماثل في جميع الحضارات تقريبا، فالأشكال الاجتماعية التي نعرف كانت
دائما منظمة بطريقة لا تجعل سوى أقلية من الناس تتمتع بثقافة المرحلة
وفي مستوى معيشي مترف وأكثرية الناس مكرهة على متابعة العيش بإنكار
الغرائز.
فالإنسان هو الإنسان مهما تقدمت به الحضارة وتطورت أشكال معيشته
وثقافته وتعليمه، يكره كل القيود التي يمكن ان تسلبه حريته وإنسانيته
وكرامته واستقلاله، كما يتشارك الإنسان المعاصر وذلك الذي عاش في
الكهوف وإنسان المستقبل في شكل فطري واحد من أشكال وسلوكيات وردات
الفعل حيال الظلم والطغيان والديكتاتورية، انه الاستعداد الكامن
والمكبوت في النفس البشرية في لحظات مواجهة الاستبداد واستفحال الجبروت
نحو استخدام جميع الوسائل والطاقات والإمكانيات المتوفرة لديه، فتأثير
الوعي التاريخي في السيكولوجية الاجتماعية للجماهير متقارب لدرجة لا
يمكن الفصل بينها.
* باحث في الشؤون السياسية-رئيس تحرير مجلة
السياسي
azzammohd@hotmail.com |