من مراجعة بسيطة لبرامج وشعارات القوى والاحزاب السياسية التي
اعلنتها خلال فترة الانتخابات التشريعية الماضية، نجدها براقة وجذابة
ومثيرة للاهتمام في توزيعها للأولويات بين سياسية واقتصادية واجتماعية
وخدمية، وتركيز اغلبها على توفير الحياة الحرة الكريمة للمواطن؛ وسيلة
منها لكسب وده ورضاه ومن ثم؛ وبلا شك؛ صوته في صناديق الاقتراع.
واذا كان البرنامج الانتخابي جزء حيوي من مشروع السياسي في
الاستقطاب الجماهيري اولا، ومنهاج العمل وترتيب اطاره الاستراتيجي
ثانيا وتوزيع وقته بين قطاعات البرنامج وفقراته دون اي اختلال بين
احدهما على حساب الآخر؛ ثالثا.. فان اي من سياسيينا او مسؤولينا لا
يتوافق مع هذه الرؤية في الوقت الحاضر او يعمل على تقسيم وقته وفقا
لمنهاج التخطيط الستراتيجي او على الاقل وفقا للوعود التي اطلقها قبل
الانتخابات؟؟
اذ ان كم التصريحات الاعلامية الهائلة التي تأتينا من هنا وهناك منذ
اغلاق صناديق الاقتراع ولحد الآن لا تراعي سوى القضية السياسية
والازمات المنبثقة عنها؛ الا ما ندر؛ وحتى ما توافق منها مع قضايا اخرى
مثل ازمات الزراعة والمياه او البيئة والصحة او الاقتصاد والاستثمار او
الاعمار او المهجرين او السكن؛ لا يعدو كونه تصريحات ارتجالية؛ بعضها
بعيد كل البعد عن العلمية والعقلانية في تناول المشكلة؛ غايته الجذب
الاعلامي تارة او الكسب الشعبي تارة اخرى.. لانه لا يقوم على دراسة
المعطيات واستيعاب ابعاد المشكلة والبحث عن حلول جذرية لها بهدوء وروية..
بعيدا عن التصريحات الآنية او النارية التي تطرق آذاننا باستمرار عبر
وسائل الاعلام.
اذن مشكلتنا تكمن في طغيان الملف السياسي واحيانا الامني على كامل
الملفات الاعتبارية والحيوية الاخرى ذات المساس المباشر بمستويين:
الاول: استكمال بناء الدولة على اسس صحيحة والعمل على تفعيل
مؤسساتها القطاعية المختلفة بشكل متوازن.
الثاني: تحقيق تطلعات المواطن والعمل على تلبية آماله واحتياجاته في
كافة النواحي دون استثناء او السماح لملف باستئثار الاهتمام.. دون جميع
الملفات.
ان المشكل السياسي الحالي والازمة المنبثقة عنه لن تجد الحل السحري
دون انتباه واهتمام الجميع بكافة الملفات.. لاننا ببساطة نعاني من
انشغال اعلى هرم السلطة في الرئاسات والبرلمانيين وحتى الوزراء بالملف
السياسي حصرا دون غيره ؛ باستثناء السلطة القضائية التي نأت بنفسها عن
السياسة والتصريحات واكتفت بالاختصاص؛ ما يشكل اختلالا له تداعيات
خطيرة ليس على العملية السياسية والديمقراطية فحسب؛ بل على المواطن
وحياته اليومية.
فقبل عام من الآن كان جميع السياسيين منشغلين بالمواطن وفي البحث
باهتماماته وسبل تحقيق آماله ومتطلباته بعد ان كادت رياح المتربصين ان
تعصف بتجربتنا الديمقراطية والانجازات التي حققتها تحت مسميات الربيع
العربي.. فهل يعقل بعد عام من تلك التجربة وذاك التأريخ، نرى انشغالات
رئيس الجمهورية تنصب بالمؤتمر الوطني والاعداد له منذ اشهر وقبله في
اجتماع قيادات الكتل واجتماعات اربيل.. ورئيس الوزراء بالملف الامني..
ورئيس البرلمان بالاقاليم والزيارات والعلاقات الخارجية.. واعضاء
البرلمان بالازمة السياسية والتفرغ التام للتصريحات والبحث والتنظير
للقضايا الخلافية.. ولجان البرلمان الستة والعشرين المعطلة اصلا عن
العمل اما لعدم اكتمال النصاب او لتعدد قراءات القوانين من اولى وتعديل؛
وثانية وتعديل؛ ومن ثم ترحيلها الى الدورة المقبلة، حتى ان تلك اللجان
اصبحت مشغولة بعيدا عن اختصاصاتها؛ بالقضايا السياسية.. فلجنة الطاقة
لا تعلم شيئا عن احتياجات المواطن من النفط الابيض مع موجة البرد
الشديدة بقدر علمها بتفاصيل العقود النفطية مع الاقليم وخلافاتها
المستمرة مع وزارة النفط، ولجنة العمل والشؤون الاجتماعية لا يمكنها
الاعلان عن الاعداد الحقيقية للعاطلين وكذا بقية اللجان..
اما الوزراء فانشغالهم بالتبعية الى الكتل ومراعاة مصالحها والاحزاب؛
على مصالح الناس وتمشية امور وزراتهم؛ اصبح امرا لا مناص منه لدوام
استمرارهم على الاقل بالمنصب وضمان عدم استبدالهم او التخلي عنهم.
ان الصورة التي رسمت في السطور اعلاه، لا تعني ان النقد موجه او
يشمل الجميع.. لان لكل قاعدة استثناء، وان من المعطيات ما لا يمكن
التغاضي عنه في تناول صلب الموضوع، من قبيل:
• غياب خطط التنمية الشاملة، الخمسية او العشرية والاتجاه بديلا
عنها الى المبادرات القطاعية، حد من مساحة الاهتمام بتلك القطاعات.
• ضمور اللجان البرلمانية المتخصصة وانتشار الخلاف السياسي وطغيانه
على المهني بين اعضائها، ادى بشكل او بآخر الى غياب آلية الرقابة
وتراجع اهمية القطاعات الاخرى لحساب الشؤون والقضايا السياسية.
• تداخل الملف السياسي مع الاداري والتنفيذي، ادى الى تفوقه وتراجع
اهتمامات الوزراء بالملفات الاخرى.
هذه المعطيات وغيرها.. قلصت وقت المسؤول وقصرته على اللقاءات ذات
الطابع السياسي او المدني الذي يدعم ويعزز موقف كتلته من الازمة او في
اجتماعات كتلته او في المباحثات ذات الطابع البروتوكولي او الدبلوماسي
او في الزيارات الخارجية...
وفي جميع الاحوال تتراجع القطاعات الاقتصادية او الزراعية او
الخدمية وتفقد القيمة الزمنية والاولوية المطلوبة في المراعاة
والاهمية، مثلما تراجعت مشكلات المواطن وآماله وتطلعاته في اجندة
المسؤول او السياسي اليومية.. لحساب ملف الازمة الراهنة او ظاهرة
الاحتراف السياسي. |