شبكة النبأ: يعد قانون او قاعدة
التدرّج، من أهم قوانين النمو والتطور في حياة الانسان والكائنات كافة،
فكل شيء يبدأ صغيرا ثم يتدرج في التطور والنمو حتى يبلغ أشدّه، ولطالما
تقدمت المجتمعات الغربية وغيرها، بعد التزامها بهذا القانون او القاعدة
التي أهملها المسلمون ليصبحوا في أسفل قائمة الشعوب والمجتمعات تطورا
وارتقاءً.
وقد نبّه الإمام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني
الشيرازي (رحمه الله) الى افتقاد المسلمين للتمسك بهذه القاعدة
وتطبيقها في شؤون حياتهم كافة، وبسبب هذا الاهمال الواضح لقاعدة
القطرات والذرات وقانون التراكم، تخلّف المسلمون، بعد أن كانوا قادة
الامم، ابان القيادة الاسلامية العظيمة لرسولنا الكريم صلى الله عليه
وآله وسلم، الذي تمسك بقانون التراكم، وعلّم قادة المسلمين وغيرهم
كيفية التعامل مع ميادين الحياة في ضوء هذه القاعدة المهمة، فوصلت أمة
المسلمين الى درجة عالي من الرقيّ حتى تصدرت العالم آنذاك في المعرفة
والعلم ونشر نور التعاليم الاسلامية الانسانية في ربوع الارض كافة،
ولهذا تقدم المسلمون وارتقوا وتطورا، واصبحوا قادة المسارات الصحيح في
العالم كله.
يقول الامام الشيرازي في كتابه القيّم الموسوم بـ (القطرات والذرات)
بهذا الخصوص: (إن المسلمين حين تقدموا عملوا بمثل هذا العمل حسب تعليم
القرآن الحكيم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الرُّقي والتقدم..، ثم
تركوا حتى الذرات والقطرات وتركوا .. وتركوا.. حتى انقلبت حالتهم إلى
ما نشاهده اليوم من التأخر الذي ليس بعده شيء مع ملاحظة ما لهم من
إمكانيات وطاقات هائلة! فإذا أرادوا الرجوع إلى ما كانوا عليه بل أكمل
وأوسع.. عليهم أن يعملوا كما عمل آباؤهم ولا يتركوا العمل في أيّ بعد
من أبعاد الحياة حتى إذا كان بقدر الذرة والقطرة، حتى ترجع حالتهم إلى
ما كانت عليه).
هذا يعني أن التعامل مع الاشياء كافة ينبغي أن يخضع لهذه القاعدة
المهمة، أي على الانسان فردا كان أو جماعة، أن لاينحدر الى اسلوب
التبذير والاسراف في التعامل مع احتياجاته، للغذاء او الشراب مثلا، او
حتى الملبس وما شابه من سلوكيات تتعلق بطبيعة حياته، علما أن الثروات
المائية والمعدنية وعموم الموارد التي تكتنزها الارض في بطونها، ليس
ملكا لجيل دون غيره من الاجيال، بل هو ملك البشرية جمعاء، الحاضرة
والقادمة مستقبلا، لكننا نلاحظ حالة من العشوائية والتخبط واللامبالاة
في بعض الدول الاسلامية بخصوص التعامل مع موارد الارض، وهي نقطة ذكرها
الامام الشيرازي بوضوح ودقة حين قال بكتابه نفسه: (إن الخبراء اعترضوا
على بعض الدول الإسلامية في استعمالهم الكثير للماء، حتى أن المياه
الجوفية التي اختزنت لمدة سبعة آلاف سنة استعملت في أغراض غير ضرورية
في الآونة الأخيرة.. هذا إذا كان حال الماء شرعاً وعقلاً.. وهو من
المعادن والموارد الدورية الكثيرة الانتشار والسَّهلة التناول، فكيف
حال غيره من المعادن غير الدورية كالنفط والغاز و.. و..؟ وقد نرى كيف
تنهب في زماننا!).
علما أن البشر جميعا مسؤولون عن التعامل الصحيح مع موارد الارض كافة،
لكن هذا الامر لن يتم من دون العمل بقاعدة القطرات والذرات، التي تتطلب
استهلاكا أمثل للموارد والتعامل معها بمسؤولية تامة، حرصا على الملكية
الجماعية لموارد الارض، خاصة ما يتعلق بحقوق الاجيال المستقبلية، لذا
لا يجوز التبذير والاسراف في صرف موارد الارض لمن هم يعيشون الآن في
المعمورة وعليهم التفكير بجدية ومسؤولية بالقادمين الجدد، لذا يقول
الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه الثمين نفسه: (إن البشر المعاصر
ليس له إلاّ أن يصرف بقدره حسب قانون (لكم)-1- الوارد في القرآن الكريم،
بحيث لا يضر الأجيال القادمة، وذلك بعد ملاحظة النسبة الدقيقة، وإلا
كان ذلك إسرافاً.. وإضاعة للمال.. وتعدياً على حقوق الآخرين.. وصرف ما
يرتبط بالأجيال الآتية).
وهنا تبدو الحاجة ملحّة للعمل بقاعدة القطرات والذرات، كونها تقنن
الصرف وترشّد الاستهلاك البشري لموارد الارض، وأي تقاعس في هذا المجال،
أو عشوائية أو اسراف سيؤدي بالنتيجة الى الاضرار بحقوق الآخرين، يقول
الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (إن الحياة دقيقة.. دقيقة.. فهي لبنة
لبنة، وذرة ذرة، وقطرة قطرة، فالعمل فيها اعتباطاً ـ ولو بمثل هذا
القدر القليل ـ يؤدي الى النتائج السيئة). ويضيف الامام في السياق نفسه،
مؤكد على أن: (العمل ذرةً ذرة وقطرة قطرة سلباً أو إيجاباً، يؤثر في
النتيجة كذلك، كما هو ثابت في الحكمة).
لكننا نلاحظ أن البعض يدعو الى انجاز الاعمال الكبيرة وترك الصغيرة
ظناً منه بعدم فاعلية الاعمال الصغيرة حجما ونوعا، وهو تفكير خاطئ،
وغير صحيح كما يقول الامام الشيرازي: (أمّا ما يقوله البعض من أن
اللازم أن يعمل الإنسان إما عملاً كبيراً أو يترك ـ كما أصبحت عادة
لكثير من الناس وحتى بعض العاملين ـ فهو غير صحيح، فإنهم بقولهم:-أو
يترك- أخّروا المسلمين كافة، لأن الحياة ذرات وقطرات).
ويضرب لنا الامام مثلا معاصرا مأخوذا من تجربة الشعب الياباني بهذا
الخصوص حين يقول: (بعد أن جعل اليابانيون التعددية الحزبية في بلادهم،
وانتهجوا منهج الإتقان في ذرة ذرة وقطرة قطرة من أمورهم، حتى وصلوا
اليوم إلى ما وصلوا إليه من الجودة، في مختلف بضائعهم وأصبح الإقبال
عليها والمشترون لها أكثر، وأحياناً حتى مما يصنعه الغرب. وهكذا كله
بسبب الإتقان في الأمور من الذرات والقطرات إلى غير ذلك).
لذلك لابد من الاهتمام بصغائر الاعمال والاشياء، لأنها تصبح
بالتراكم كبيرة ومؤثرة، وتتدخل في تطور وارتقاء المجتمع بصورة حاسمة،
لذا يقول الامام الشيرازي بكتابه نفسه: (فاللازم على الإنسان أن يهتم
بالصغائر من الأمور أيضاً مهما كانت صغيرة حتى تنتهي إلى الكدس، خيراً
أو شراً، تقدماً أو تأخراً، إيجاباً أو سلباً.. فلا يقول: هذا قليل أو
صغير وأيّ نفع فيه أو أيّ ضرر منه؟).
..............................................................
هامش
1- لقد بيّن القرآن الكريم قاعدة – لكم- في موارد
وسور متعددة: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) البقرة: 29 |