من إستراتيجية التحرير لإستراتيجية الإلهاء

د. إبراهيم أبراش

لأن الحكومات والنخب بشكل عام وفي الأنظمة غير الديمقراطية على وجه الخصوص لا تمتلك فضيلة النقد الذاتي ولا ترغب في ترك مواقعها وامتيازاتها فإنها عندما تفشل في تحقيق ما وعدت به شعوبها من حرية ورخاء وحياة كريمة تلجأ للتغرير بالجماهير من خلال إستراتيجية مضادة لأية تحرك متوقع من الشعب لأخذ الأمور بيده ومحاسبة الفاشلين والعاجزين، إنها إستراتيجية تشتيت اهتمامات الشعب وإلهائه بقضايا فرعية لا بداية لها ولا نهاية، مستغلة إما تخلف الشعب وجهله أو ميوله الفطرية لتسبيق مصالحه الخاصة على الشأن العام.

هذه الإستراتيجية تحدث عنها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في أحدث كتبه (أسلحة صامتة لحروب هادئة) حيث يختصرها بالقول: "حافظ على تشتّت اهتمامات العامة، بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة. اجعل الشعب منشغلا، منشغلا، منشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للضَيعة مع بقيّة الحيوانات. "

يمكن استيعاب هذه الإستراتيجية بالنسبة للمجتمعات المستقلة والمستقرة، لأنها جزء من الحياة السياسة ومن الصراع على السلطة، مع أن ثورات الجماهير العربية كشفت وتمردت على هذه الإستراتيجية.

لكن توظيف هذه الإستراتيجية من طرف النخب السياسية للشعوب الخاضعة للاستعمار سيؤدي لنتائج مدمرة لأنها ستؤدي لإلهاء الشعب عن قضيته المركزية – تحرير الوطن – لينشغل بهموم الحياة اليومية مما يتيح للمُستَعمِر الفرصة لتوطيد استعماره. الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية تشترك مع إسرائيل والأطراف العربية والدولية المعنية بالقضية الفلسطينية في تطبيق وتنفيذ إستراتيجية الإلهاء، ولكل من هذه الأطراف هدفه الخاص.

هذا ما تمارسه الحكومتان والسلطتان الحاكمتان في الضفة وغزة. كلها مشتركة بعملية واسعة تقوم على إلهاء الشعب الفلسطيني وجعله دائم الدوران على نفسه، خائفا، قلقا، محبطا،، مشدودا، منشغلا بقضايا واهتمامات فرعية تلهيه عن التفكير بالقضية الوطنية ومآلاتها. إستراتيجية حولت غالبية الشعب الفلسطيني لجموع بشرية تجري وراء قوت يومها وشعارها (اللهم نفسي). طغى الانشغال بالأمن الشخصي على الاهتمام بأمن الوطن، طغى الانشغال بالخلاص الذاتي على الانشغال بتحرير الوطن، كل حزب يتآمر على الآخر، والأخ يتآمر على أخيه الخ. تطبيق هذه الإستراتيجية أدى لتكريس سيطرة النخب السياسية الفاشلة والفاسدة على القضايا المصيرية والمصادر الاقتصادية للبلد والمناصب العليا وبالتالي استمرارية وجودها كنخب حاكمة فيما الشعب ملهيا بهمومه اليومية التي خلقتها له النخب الفلسطينية وليس إسرائيل فقط.

لإستراتيجية الإلهاء تمظهرات عديدة بدأت في اللحظة التي تشكلت فيها السلطة لتحل محل حركة التحرر الوطني، وكانت السلطة أخطر حدث في تاريخ النضال الفلسطيني وأكبر ملهاة له. السلطة التي كان يُفتَرض أن تكون أداة لحركة التحرر الوطني لتوظيف ما تتيحه تسوية سياسية من إمكانيات لإنجاز هدف تحرير فلسطين، باتت هدفا بحد ذاته لفصائل العمل الوطني ومجالا للصراع عليها وحولها، صراع بين مَن كان يُفترض أنهم ثوار ومجاهدون.

في ظل السلطة أصبح هناك مناطق (أ) و(ب) و (ج) وحواجز وجدار فصل وتنسيق أمني ومدني وتصريحات دخول وخروج، في ظل السلطة باتت معيشة الشعب ومصير القضية مرتهنان بالجهات المانحة وبشروط الرباعية وليس بإرادة الشعب. ثم غرقنا في ملهاة المفاوضات، من جولة لجولة، تارة وقف المفاوضات وتارة استئناف المفاوضات، مفاوضات مباشرة ومفاوضات غير مباشرة ومفاوضات استكشافية الخ.

في ظل السلطة بات الثوار والمجاهدون يتصارعون في الانتخابات للوصول للسلطة بدلا من أن يتوحدوا في مواجهة الاحتلال، كما أنتجت السلطة بقصد أو بدون قصد أدوات إلهاء:العمل النقابي والصراع سواء ما بين النقابات والحكومة أو بين أعضاء النقابة الواحدة، لعنة الراتب والتهديد المستمر بقطعه أو توقفه وما ترتب على ذلك من تكميم ذاتي لأفواه كل من يتلقى راتبا من السلطتين خوفا على راتبه وهذا الأمر ليس مقتصرا على عامة الشعب بل يخص أيضا قيادات وقادة فصائل ومجتمع مدني كمموا أفواههم وتنكروا لتاريخهم النضالي ومبادئهم حتى لا تنقطع عنهم نعمة السلطة ومَن يمول السلطة، مشكلة الكهرباء والغاز، تعميم ثقافة الكراهية بين أبناء الشعب، إلهاء الشباب بمشاريع وندوات و ورشات عمل لا تتوقف بدون أية رؤية أو هدف وطني محدد، افتعال معارك والحديث عن انتصارات وهمية سواء كانت عسكرية – حرب الفرقان – أو دبلوماسية –استحقاق أيلول-، وإلهاء الناس ببهرجة احتفالات بمناسبة انطلاقة الأحزاب أو ذكرى غياب قائد، حتى تشييع جنازات الشهداء وفعاليات مؤازرة الأسرى لم تنج من سياسة الإلهاء وتشتيت الانتباه عن جوهر القضية.

وحدث الانقسام من نفس الجهات المنَفِذة لإستراتيجية الإلهاء. ما بعد الانقسام توسعت إستراتيجية الإلهاء: ملهاة الاتهامات المتبادلة بين الحكومتين والسلطتين، ملهاة بناء مؤسسات الدولة في الضفة فيما الحكومة عاجزة عن دفع مرتبات الموظفين وفيما الوطن يضيع بالاستيطان تحت أنظار من يتحدثون عن بناء مؤسسات الدولة، ملهاة توظيف الحصار وكسر الحصار والجوع وفقدان حليب لأطفال غزة فيما مَن يحكم غزة لا يريدون من كسر الحصار إلا تثبيت سلطتهم ودولنة غزة الأمر الذي أدى لفصلها عن بقية الوطن ودفعها إلى المجهول، ملهاة المعتقلين والاعتقالات عند الحكومتين، ملهاة منع إصدار جوازات سفر لعناصر من حماس من أهالي غزة، ملهاة منع حركة حماس دخول عناصر من فتح لقطاع غزة، ملهاة لجان وفاق وطني وتنسيق وطني ومتابعة عليا وما تنزل من مسميات أخرى، ثم جاءت ملهاة حوارات المصالحة من حوار لحوار ومن بلد لبلد، وفد تلو وفد من فصائل المنظمة يحج للقاهرة والأنظار مشدودة لما ستتمخض عنه الحوارات من اتفاق، ومن ملهاة وجدل الاتفاق على النصوص إلى ملهاة وجدل تطبيق ما تم الاتفاق عليه، ثم ملهاة تشكيل الحكومة هل ستكون حكومة تكنوقراط أم حكومة سياسية؟ حكومة الرئيس أم حكومة التوافق الوطني؟ومَن سيكون رئيسا للوزراء؟فياض أم غيره؟وكرت الأشهر ولم تُشكل الحكومة، وارتباطا بذلك تم الانشغال بشرعية المجلس التشريعي والرئيس أبو مازن، هل هي شرعية مستمرة بعد نهاية الفترة القانونية أم شرعية منتهية؟وهل سينعقد التشريعي أم لا؟وهل مازال عزيز دويك رئيسا للتشريعي أم انتهت صلاحيته؟ هل جلسات التشريعي في غزة شرعية أم غير شرعية؟ الخ.

وما جرى مع ملهاة تشكيل الحكومة جرى مع الانتخابات حتى بات البعض يعتقد بأن الانتخابات هي البلسم الشافي لجميع مشاكلنا ونسي هؤلاء بأننا في مرحلة تحرر وطني وحركات التحرر الوطني لا تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات بل من إنجازها النضالي على الأرض من خلال مقارعة الاحتلال.

وأخيرا تم التوقيع على وثيقة المصالحة وتشكلت لجان مصالحة نتج عنها لجان أخرى وهيكليات وناطقين رسميين للجان ووضع جداول ومواعيد لتنفيذ ما يفترض أنها من مهام اللجان الخ وبعد كل ذلك لم تُصلح لجان المصالحة شيئا بقدر ما زادت من حالة التيه والفوضى.

إستراتيجية التشتيت والإلهاء غيرت من أولويات الشعب الفلسطيني وأعادت قولبته لتنتج شعبا محبطا تائها مشوها ومنسلخا عن هويته النضالية وتاريخه، شعب فقد الثقة بالحاضر وينتابه شك بالمستقبل وخصوصا لجيل الشباب الذي لا يجد له دورا في مجريات الأحداث وغير مسموح له بالتخطيط والمشاركة في مخططات المستقبل ويتم قمعه إذا ما نزل للشارع ليحتج حتى أنه لم يجد وسيلة آمنة للاحتجاج إلا بالدعوة لقرع الطناجر.

هذه الإستراتيجية حولت الشعب لجموع جائعة أو شعب الكوبونة والصدقة فيما النخب الحاكمة تزداد غنى وثروة وتحلَلا، لا فرق بين نخب العهد السابق والعهد الجديد، بين أصحاب اللحى وأصحاب الذقون الحليقة من علمانيين وليبراليين ووطنيين، بين رواد المساجد ورواد المقاهي والحانات.

فمن يتصدى لهذه الإستراتيجية وينقذ الشعب والقضية من الهاوية ومن أيام قادمة أكثر سوءا؟. إن كان الشعب اليوم فاقدا للقدرة على استنهاض قواه فإن الأمور لن تبقى على حالها والشعوب علمتنا بأنها صاحبة المفاجآت خارج الحسابات، وشعبنا مر بظروف صعبة قبل ذلك ولكنه استطاع دوما النهوض مجددا، المهم أن يتحرر الشعب من المراهنات غير الوطنية، يتحرر من وهم أن فلسطين سيحررها طير أبابيل ترمي اليهود بحجارة من سجيل، ومن وهم تحريرها بجيوش إسلامية مليونية ستُطبِق على اليهود وترميهم إلى البحر، أيضا عليه التحرر من وهم أن الشرعية الدولية والتمسك بخيار المفاوضات أو (إستراتيجية الضعيف) ستقنع إسرائيل والغرب بعدالة قضيتنا وبالتالي سيقدمون لنا الدولة على طبق من فضة.

لقد بات مؤكدا أن فلسطين لن يحررها الآخرون من عرب وعجم، وهذا لا يعني تجاهل دورهم أو إسقاط مسؤوليتهم، ولكن دورهم لن يكون أكثر من دور المشارك والمساند لحركة تحرر وطنية فلسطينية واسعة بمضامين قومية وإسلامية وتحررية عالمية.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/كانون الثاني/2012 - 6/ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م