الفلسطينيون وخيار المفاوضات

كأيقونة مقدسة

ماجد الشّيخ

أخيرا انفضت ورشة لقاءات عمان التفاوضية التي بدأت قبل أسبوعين، إلى "لا جديد"، حيث اتضح مجددا أن الهوة عميقة جدا في كل المواقف. بعد أن شكلت هذه اللقاءات، وفي حضور الرباعية الدولية، نكوصا إلى الوراء في الموقف الفلسطيني، خصوصا بعد أن كان قد مضى بعيدا في خطوات معاكسة لمسار المفاوضات المغدورة، من قبيل توجهه إلى الأمم المتحدة، والحصول على عضوية اليونيسكو، واختيار المصالحة كخيار بدا منسجما والخيارات السابقة، في عدم الرهان المطلق على المفاوضات، والمضي في خيار التسوية من دون توافر شروط تحققها لمصلحة الطرف الفلسطيني، في ظل التغول الاستيطاني ونزوع الموقف الإسرائيلي الدائم – بغض النظر عن الحكومة أو الائتلاف الذي تتشكل منه – نحو إفقاد المفاوضات جديتها، والتسوية إمكانية تحققاتها الواقعية.

 من هنا التقدير القائل بنكوص الموقف الفلسطيني، وتراجعه عن مواقف صائبة، وإن تكن افتقدت لوجود الخطة الإستراتيجية الواضحة المتفق عليها، في إطار النظام السياسي الفلسطيني ومنظمة التحرير ومؤسساتها أو بقاياها، تلك التي لم تهيمن عليها السلطة، وهي تتحول إلى بديل للمنظمة. وهنا يتجسد خلل ليس من السهل معالجته، وإن كان من الصعب على القيادة الفلسطينية الراهنة أن تمضي في تقطيع أواصر الروابط الوطنية، في ظل انقسام وطني وجغرافي بات عبئا على طرفيه الأساسيين، كل في موقعه، وفي مواقفه غير المنسجمة والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، كشعب موحد صاحب قضية وطنية، لا هي فئوية ولا هي ديموغرافية، ولا هي دينية بالمعنى الضيق.

 ولئن كان قد جرى التعويل على المصالحة، في محاولة من قيادة السلطة لتقوية مواقعها مجددا، في نفس الوقت الذي يستمر فيه فقدانها لمناعاتها تجاه مفاوضات غير متكافئة، وفي ظل موازين قوى تميل لمصلحة العدو، فإن مفاوضات من أجل المفاوضات وتقطيع الوقت، وتهويد المزيد من الأرض الفلسطينية، لن تحدث أي تعديل في المواقف، ناهيك عن أن استئنافها قد يحدث شروخا جديدة في جدار المصالحة المتهالك، وفي هذا إضرار بوضع وطني فلسطيني مفكك، لا يقدم للقيادة الفلسطينية أي دعم في خيارها الأوحد الذي يفقد يوما بعد يوم المزيد من رصيده الشعبي.

وبذا شكلت وتشكل اللقاءات التي عادة ما سبقت وتسبق استئناف المفاوضات الثنائية الفلسطينية – الإسرائيلية، مجالا واسعا للرهان على إمكانية أن تفضي المفاوضات، وبشكل قياسي قريب إلى نتائج متوقعة، من قبيل الإقرار الإسرائيلي بقيام دولة فلسطينية مستقلة، في حدود ما تبقى من أراض لم يسيطر عليها غول الاستيطان الزاحف، أو ما يجري الاتفاق في شأنه، وعادة ما يجري الرهان على بندي الحدود والأمن ضمن بنود المفاوضات الست، بافتراض كونهما الأسهل في إمكانية الوصول إلى اتفاق في شأنهما، ولكن على العكس من ذلك، فإن من لم يرد للمفاوضات ألنجاح، وللتسوية أن يتم وضع الخطوات الأولى على سكة حلولها المفترضة، سوف لا يقيم أي وزن للوصول إلى الأسهل الافتراضي؛ كمسألتي الحدود والأمن، وهما مثل البنود الأخرى أعقد من أن يفضي الحديث على طاولة المفاوضات بشأنها إلى بروز جبل جليد لن ينزاح إلا عن صخور صلدة، لا ينفع معها أي زحزحة ممكنة، أو انزياح ممكن في الموقف الفلسطيني.

 إن رهانا على خيار أوحد؛ كخيار المفاوضات، وهو الخيار الذي تشجع عليه كل أطراف التسوية القريبة والبعيدة، تفقد الخيارات الأخرى مشروعيتها لتصبح مرذولة، وهذا هو واقع حال الوضع الوطني الفلسطيني الذي يبدو من تكتيكات قيادته، أنها فقدت كل صلة لها بمشروعية الكفاح الوطني لشعبها، ما يفقد تلك التكتيكات قوتها وصلابتها، وما يجعل من خيار المفاوضات على الرغم من كل إخفاقاته، الخيار الأوحد المفضل في واقع يتطلب مرونة في استخدام الخيارات المتعددة، وبما يتلاءم وتعقيدات مسائل الكفاح الوطني الفلسطيني الذي يقف على رأس مهامه الراهنة؛ مهمة دحر الاحتلال أو إجباره على الرحيل، من ما تفترضه القيادة الحالية أو النظام السياسي الفلسطيني أرض دولته المفترضة، فأين خيار المفاوضات من كل هذا؟

 من المؤسف أن يتحول مثل هذا الخيار إلى أيقونة مقدسة، ينجذب الفلسطينيون إلى بريقها، كلما ضاقت السبل، على الرغم من أن استراتيجية سياسية وكفاحية فلسطينية، ينبغي أن تمتلك من الخيارات ما لا يترك فراغا في القيادة اليومية، أو في التكتيكات بعيدة المدى، وذلك حتى تكون السياسة الريادية أو القيادية الفلسطينية قابلة للتطبيق إداريا وإراديا.

 من هنا يتوجب على الفلسطينيين أن يواكبوا ربيع الشعوب العربية، بربيعهم الخاص، في واقع ليس أفضل حالا بكل المقاييس، في ظل استبداد طغياني لاحتلال أجنبي؛ يحتل الأرض والوطن، ويخضع الشعب لظلم استبداد طغياني أشد وطأة وقسوة، ونكرانا لحق هذا الشعب في التحرر، وتحرير إرادته وأرضه من براثن تراكمات احتلال بغيض للأرض؛ وإخضاع لبعض الإرادات التي لم تعد ترى إلى القضية (الفلسطينية) إلاّ من زاوية التنسيق الأمني، وخيار المفاوضات الضيق، بينما تترك الخيارات الواسعة والمفتوحة وذات الإجماع، على قارعة أو هوامش الكفاح الوطني بلا قيمة، بلا فعل؛ في وقت يتطلب تعديل موازين القوى مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إلى أفعال كفاحية عليا ودنيا، في إطار من توافق عام على استراتيجية سياسية وكفاحية راهنة، تترافق مع كفاحات الشعوب العربية التي تفتح بثوراتها الحالية مسارب عدة، أمام سيرورات تغيير لم يكتمل، وهو ماض نحو مآلاته النهائية التحررية في مستقبل قد يكون قريبا أو بعيدا، المهم أن تواصل إرادات التغيير تجسيد خياراتها المتعددة، لا البقاء عند حد الخيار الأوحد كأيقونة مقدسة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 25/كانون الثاني/2012 - 1 /ربيع الأول/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م