شبكة النبأ: تحرص المجتمعات المزدهرة
على رعاية الاجيال القادمة، وتطوير قدراتها وطاقاتها عبر مناهج تربوية
نظرية وتطبيقية مدروسة مسبقا، تهدف دائما الى تثوير طاقات الانسان
الراكدة في أعماقه، ولذلك من أهم ما ترعاه الامم المتطورة من امور هو
تطوير المهارات الفكرية والعملية، وربما تركز على الطاقات الفكرية
والعلوم الانسانية أكثر، باعتبارها هي المقود الصحيح الذي يوجّه مسارات
الجوانب العملية كافة.
رعاية الاجيال القادمة
ولن يتم تحصيل هذا الهدف الحيوي، من دون الاهتمام الواضح والمتواصل
برعاية الشباب وعموم الاجيال القادمة، كونهم يشكلون الركائز الاساسية
للبناء المجتمعي القويم، لهذا يؤكد الامام الراحل آية الله العظمى،
السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (إعداد
الاجيال)، يؤكد على أهمية الدور الذي يرعى الشباب، ويساعدهم على السير
في المسارات الصحيحة في معترك الحياة، إذ يقول رحمه الله في هذا الصدد:
(إن الأمم إذا أرادت أن تتقدم وتزدهر وتبلغ أهدافها في المجالات
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فلابدّ لها أن تهتم بالأجيال
القادمة، فتقوم بتربية وتنشئة جيل صحيح قوي، مهيأ لتحمل مسؤلية قيادة
الأمة وتسلمها من الآباء، فعلى الوالدين وغيرهم من المسؤولين، من
العلماء والحكام ـ أن يوفروا لأبنائهم مناهج التربية الصحيحة، ويهيّؤوا
لهم وسائل تقدمهم وبناء شخصيتهم ومستقبلهم، أما الأمم التي لا تهتم
بتربية وتنشئة أجيالها فلا توفر لأبنائها مثل هذه الأجواء الصحيحة
والهادفة، فليس لها إلا أن تتخلف عن مواكبة الأمم المتقدمة).
وثمة فرق واضح بين ما يكتسبه الانسان من خبرات صحيحة في السلوك
والتفكير، وبين ما يرثه من ابويه واجداده، بمعنى ان الفارق واضح بين
المكتسَب والمتوارَث، لهذا ينبغي التفريق بين الجانبين، والاهتمام
بجانب الاكتساب الخبروي في ميادين الحياة كافة، فالانسان يفتح عينه
ووعيه في المحيط الذي ينشأ ويترعرع فيه، ويتابع ويراقب الآخرين في ذلك
المحيط، وهو المحيط العائلي ثم المدرسي ثم العملي، فيبدأ يتعلم من
مشاهداته للاخرين وسماعه لهم، هنا يتضح لنا الدور الخطير للجانب
التربوي في بناء الشخصية الانسانية، وانعكاسها على البناء المجتمعي
عموما، لذا يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (إن ما يحصل عليه
الإنسان من أدب وحكمة، وعلم وحلم، إنما هو عبر ما يتعلمه ويتلقاه عن
طريق سمعه وبصره وفؤاده؛ وعبر التعليم والتجربة وما أشبه، فتكوين
الشخصية الاجتماعية والنفسية ـ في الغالب ـ ليس إرثاً ينتقل من الآباء
إلى الأبناء، وإنما هو ناشيء عن طريق التعليم والتربية، وإن كان لعامل
الوراثة التأثير المهم أيضاً).
تعدد المحيطات المؤثرة بالانسان
لذلك فإن الانسان ينهل خبراته ومعارفه من مناشئ شتى، تتوزع بين
البيت والمدرسة والمحافل الاخرى كمحلات العمل او الاصدقاء وما شابه،
ولكن يبقى الاثر الاسري واضحا وعميقا في بناء شخصية الانسان، كونه يبدأ
بتشكيل شخصيته في المحيط الاسري أولا، لهذا غالبا ما يُتخذ الابوان
نموجا صالحا وجيدا لابنائهما وبناتهما، فالطفل الصغير يشعر ا ناباه هو
افضل انسان في العالم وكذلك الحال مع البنت التي ستشعر ان امها افضل
امرأة في العالم، ولهذا غالبا ما يحاول الاولاد تقليد ابويهما في
الافكار والاعمال وجميع التوجهات، يقول الامام الشيرازي في هذا المجال
بكتابه المذكور نفسه: (إن تربية الأبناء تبدأ من خلال الأسرة، وتستمر
في أجواء المجمتع.. في المدرسة والسوق والتجمعات الاجتماعية وما أشبه.
مما يعلم أن لكل من الأسرة والمجتمع الأثر العميق على المدى القريب
والبعيد في تحديد ملامح شخصية الإنسان، لأن الإنسان يستند إليها في سنه
المبكر ويعتمد عليها في شبابه وكبره، مضافاً إلى ما قد تلقاه من تعليم
في صغره، وما سوف يحصل عليه من تجارب وعلوم في مستقبله).
لهذا ركّز الاسلام بصورة واضحة وكبيرة، على الجانب التربوي في صياغة
وتشكيل الشخصية الانسانية، لأن النفس تنطوي على تركيبة معقدة جدا،
وتحتاج الى المثل والنموذج الواضح الذي تسير في هديه، وتتمثل به في
عموم انشطتها الفكرية والعملية، من هنا كان تركيز الاسلام على صحة
التربية الاخلاقية والدينية والفكرية واضحا، بل كبيرا، لأنه يسهم في
تحصين الانسان من الوقوع في الزلل، لذا جاء البناء السليم لشخصية
الانسان متقدما على سواه، وفقا لما جاءت به التعاليم الاسلامية، يقول
الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (إن من أبرز المسائل التي حازت على أهمية
خاصة في الدين الإسلامي هي التربية الصحيحة في كل جوانبها والاهتمام
بها؛ وذلك لما لـها من أثر عميق في صقل النفس الإنسانية ورفع مستواها
المعنوي، وانقاذها من مزالق الشيطان ومرديات الهوى، وكذلك في إصلاح
المجتمع وسوقها نحو الخير والفضيلة والمحبة والإنسانية).
أهمية توافر مستلزمات البناء
ولابد من توفير المستلزمات الاساسية التي تسهم في بناء الانسان، لأن
عملية البناء هنا لا تختلف عن قانون التطور والنمو الصحيح الذي تخضع له
عملية تطوير الكائنات كافة، فالنبات مثلا يحتاج الى ارض خصبة، وطقس
مناسب ووفرة في المياه، لتحقيق الانتاج الافضل والنمو الاسرع، ولا
يختلف الامر بالنسبة لنمو الانسان فكرا وعملا، إذ يقول الامام الشيرازي
في هذا المجال بكتابه الثمين نفسه: (إن تأثير التربية على سلوك الإنسان
يشبه إلى حد كبير توفير التربة الصالحة والظروف الملائمة لنمو النبات
ورشده، وثمره وينعه. وعليه: فالاهتمام بالتربية، يعني: توفير مستلزمات
التوجه الصحيح، وتهيئة البيئة الصالحة لنشوء الأفراد الصادقين
والصالحين).
ولكن يبقى المحيط الاسري الاول من أهم المؤثرات المباشرة، التي تدخل
في البناء التربوي للانسان، من هنا كانت الاسرة ولاتزال هي العامل
الاهم، في في عملية البناء الاخلاقي والديني والفكري للانسان، كونه
يترعرع في هذا المحيط فينهل منه سماته وافكاره وسلوكياته، وهذا ما
ينبغي أن يتنبّه له الآباء والامهات بالنسبة للدور الاسري التربوي،
وتدخله الكبير في تشكيل التركيبة الفكرية والنفسية للانسان، لذا يقول
الامام الشيرازي في هذا الصدد: (لا شك أن للأسرة ـ وخاصة الوالدين ـ
الأثر البالغ في بناء شخصية الأبناء، وحملهم على العادات الطيبة،
والتقاليد الجميلة، والقيم الرفيعة، والاتجاهات الحسنة، التي ينبغي لهم
ملازمتها طوال حياتهم، وتطبيقها في سلوكهم الفردي والاجتماعي، كما أن
لها ـ بالنتيجة ـ الدور الكبير في بناء المجتمع، وتشييد الحضارة
الإنسانية، وإقامة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالأسرة هي
التي تربّي الأبناء وتعدهم للمشاركة في الحياة؛ لذا فهي مسؤولة عن
تنشئة أطفالها تنشئة سليمة متسمة بالاتزان والاستقامة، والبعد عن
الإنحراف والتطرف). |