سألت بعض السياسيين العراقيين عن ميزان إدارة الأزمات السياسية
عندهم، وكيفية اتخاذ القرارات وتحديد المواقف الوطنية بشأنها، فحلق
بعضهم في الخيال، وأجابني بعضهم قائلا( بين وبينك وبصراحة جدا ليس
لدينا موازين ولا معايير ولا مواقف، بل هي ردود أفعال ارتجالية ومواقف
منفردة، لا تتعدى المصلحة فيها إلا آمال ووعود نرجوها للمحافظة على
مكاسبنا ومنافعنا الآنية...).
هذا الكلام - وهو صحيح ومؤكد إلى حد ما - يُشعر كثير من العراقيين
بالإحباط خاصة وأن تغيير المواقف السياسية تعدى القضايا والملفات التي
تقبل وجهات نظر متعددة إلى القضايا الوطنية المصيرية التي لا تقبل
التفسير أو التأويل أو الاجتهاد السياسي، كقضايا الاحتلال والاستقلال
والاستقرار، وقضايا حريات وحقوق وحياة وكرامة المواطنين، وهي مسائل
جوهرية ينبغي أن لا تخضع إلى المماحكة والمساومة، ولا يجب أن تتحول إلى
أزمة سياسية تحت أي مبرر أو غطاء، فبدونها لا قيمة لوطن ولا احترام
لمواطن، ولا حرمة لدم ولا صيانة لمقدسات.
هناك قضيتان تتصدران اهتمام المتابعين للمشهد السياسي في العراق،
الأولى قضية إنهاء الاحتلال الأجنبي للعراق وفقا لاتفاقية الإطار
المشترك، فبدل التوحد في المواقف ودعم الحكومة (حكومة الشراكة الوطنية)
على إتمام انسحاب المحتلين والدعوة للاحتفال بخروج آخر جندي محتل، تلجأ
بعض التكتلات السياسية –البرلمانية على التشكيك المتعمد في قدرات
وإمكانيات القوات العراقية المسلحة، وتحريض الدول المجاورة لاستضعاف
العراق، وتنتقد بشدة السيد رئيس الوزراء لزيارته الولايات المتحدة
وإصراره على وضع الترتيبات الأخيرة لعملية الانسحاب بلا قواعد عسكرية
ولا حصانة لمدربين ولا زيادة في عدد الدبلوماسيين خارج الأعراف
الدبلوماسية.
ليس هذا وحسب، بل تلجا بعض القوى السياسية المتطرفة إلى زعزعة
الأوضاع الداخلية وافتعال أزمات متعددة من أجل التأكيد على مقولة عدم
قدرة العراقيين على إدارة شؤونهم الداخلية إلا بوجود القوات الأجنبية!
وبتعبير آخر هم مع بقاء المحتلين لتبرير أفعالهم المشينة مع مفارقة
عجيبة أن رئيس الولايات المتحدة نفسه أشاد برئيس الوزراء العراقي
وأعتبره قائدا وطنيا لأنه عمل على استتباب الأمن والاستقرار في بلاده،
وسَرع في إخراج القوات الأجنبية، ولا ينوي ارتهان مقدرات بلاده وشعبه
لدول الجوار!.
والثانية هي قضية إدانة ومحاسبة المسؤولين المتورطين بسفك دماء
المواطنين الأبرياء، فمن المؤسف حقا أنه وبعد كل هذه السنين وبعد كل
تلك الشعارات الرنانة من احترام المواطنين ودعوى الحرص على دمائهم، نجد
أن العديد من القوى السياسية الحكومية والبرلمانية على السواء تساوم
على دماء الناس الأبرياء والضحايا المدنيين الذين راحوا ضحية صراعات
سياسية في فترات مختلفة، دون أن يُقدم مرتكبو تلك الجرائم إلى محاكمات
لينالوا جزائهم العادل.
إن عدم تقديم الجناة إلى المحاكم أو وقف التحقيقات في قضايا القتل
والاغتيالات والخطف سببه الوحيد هو أن المشرفين والمخططين والداعمين
والممولين والمسلحين والقتلة المنفذين هم مسؤولون متنفذون بالدولة أو
محميون من قبلهم خشية من قيام هؤلاء بتحريض الشارع ضد الحكومة والأجهزة
الحكومية تحت مبررات سياسية أو طائفية أو عنصرية.
هذا الملف لا يقل أهمية عن ملف الاستقلال، بل هو من الناحية
الإنسانية أهم واجب، لأنه يتعلق بدماء الناس وحياتهم وأمنهم واستقرارهم
وأموالهم، فشعور المواطن بحصانة المسؤول أيا كان منصبه وانتمائه يعطينا
مؤشرا خطيرا على استهتار السلطة (الديمقراطية) بدماء الناس وحياتهم وهو
ما لا يرتضيه العراقيون أبدا كما لم يرضونه من قبل للسلطة الدكتاتورية.
التصريحات الوطنية والانسانية المسؤولة التي اطلقها السيد رئيس
الوزراء السيد نوري المالكي من أنه لم ولن يساوم على حساب الوطن
والمواطن وأنه ماض في تطبيق القانون دون رجعة مهما كلفه الامر تفرض
علينا القيام بعدة إجراءات مدروسة من شأنها أن تعزز دور العراق وتحمي
المواطن، ومنها:
- أن يقف الشعب العراقي وقواه السياسية وكتله البرلمانية مع السيد
رئيس الوزراء العراقي لإعانته ودعمه على استكمال إجراءات إخراج القوات
الأجنبية دون التزامات وتعهدات تُرهق كاهل العراقيين من جهة، وان
تسانده في تطبيق القانون والنظام العام، ولو كان المتهمون ذا شأن وسطوة
فلا فرق بين مسؤول أو مواطن عادي من جهة ثانية.
- أن تتناسى القوى السياسية والبرلمانية خلافتها - ولو لحين- من أجل
إظهار العراق بمظهر القادر على إدارة شؤونه بنفسه دون الحاجة إلى قوات
دخيلة تتحكم بمصيره ومقدراته.
- أن تتصدى وسائل الإعلام العراقية الوطنية إلى مؤامرات وأكاذيب
وحيل السلطات المستبدة في الدول العربية والتي يبث سمومها وينشرها
إعلامها المغرض من أجل تعطيل الاقتصاد العراقي ومنع العراق من استعادة
دوره الريادي في محيطه العربي والإقليمي، كما هو شأن العراق
والعراقيين.
- أن تكون القوى السياسية والبرلمانية بمستوى المسؤولية والأمانة،
وأن تكون أحرص على دمائه وحرياته، وأن تتصدى بصدق لكل من يثبت تورطه في
سفك دماء المواطنين، ولو كان نائب رئيس الجمهورية أو نائب رئيس
الوزراء، كما تحاسب أي مجرم يعتدي على حياة وأعراض الناس، فالسكوت على
المتورطين بالقتل والاختطاف يعني الشراكة معهم بلا أدنى شك.
jameel1.ouda@gmail.com |