يحدد اعتراف الخاضعين للنفوذ مدى
أثر الاجلال الشخصي لديهم - ماكس فيبر-
لا يمكن فهم الديمقراطيات التي تشكلت بعد الثورة العربية وادراك
قيمها وتوجهاتها الا بعد فهم الظاهرة المضادة لها أي الشمولية فقد تؤدي
الثورة الى انتاج استبداد جديد يأتي هذه المرة عن طريق صناديق الاقتراع
ويحمل لواء الهوية والأصالة والتحدث باسم الشعب.
لا يمكن فهم الديمقراطيات التي تشكلت بعد الثورة العربية وادراك
قيمها وتوجهاتها الا بعد فهم الظاهرة المضادة لها أي الشمولية فقد تؤدي
الثورة الى انتاج استبداد جديد يأتي هذه المرة عن طريق صناديق الاقتراع
ويحمل لواء الهوية والأصالة والتحدث باسم الشعب وباسم المنطق الثوري
ذاته.
ان الشمولية التي خيمت على الوطن العربي ومازال البعض منها يكبح
النفوس ويضيق على الصدور الى حد الآن هي نمط وجود ومشروع حياة وليست
مجرد نظام سياسي فوقي وتسلطي وانها تتدخل في كل متطلبات الحياة العامة
وتقحم نفسها في أدق تفاصيل الحياة الخاصة بحيث تجعل الناس رهائن لدى
الدولة ومجرد رعايا وأتباع لحكامها ولا يقدرون التصرف بمفردهم في قضاء
حوائجهم وتدبير معاشهم خارج فلك السلطة الحاكمة ودون العودة الى
شبكاتها وأجهزتها السيادية ومصالحها العمومية.
ان الشمولية العربية تشكلت وفق مرجعيات مختلفة وتستند الى عدة
تبريرات ايديولوجية منها اللاهوتي الديني ومنها القبلي العشائري ومنها
الوطني القطري ومنها القومي الوحدوي ولكنها تشترك في خاصية واحدة وهي
أنها ظاهرة معادية للإنسانية وتشكل تهديدا للحياة والكرامة وتمنع من
التقدم والتحضر وتوزع القهر والاضطهاد بالتساوي وتنشر الفساد والاهانة
بالعدل على الأهالي ولكنها تحرمهم من مقومات الحياة الكريمة وحقهم في
الثروة الوطنية وتمنع عنهم نصيبهم من الاقتصاد الوطني.
فهل أنهت التجارب الثورية التي عرفتها بعض البلدان العربية هذه
الظاهرة؟ وهل أن تنظيم الانتخابات النزيهة يضمن القضاء عليها وصعود
القوى الثورية؟ والى أي مدى يمثل انتصار الحركات الاسلامية نقطة
اللاعودة مع نمط الحكم الشمولي ومنظومة الاقصاء؟
في الواقع يجب التمييز بين الديمقراطية والانتخابات، فالديمقراطية
لا تعني بالضرورة الاكتفاء بتنظيم انتخابات والانتخابات لا تفضي
بالضرورة الى صعود الديمقراطية ولا تترجم بلوغ الوعي السياسي درجة من
التحضر المدني والتشبع بالقيم الديمقراطية وهي التسامح والسلم وحق
الاختلاف واحترام الرأي المغاير وحرية التعبير وتداول الحكم.
ان ما ينقص العرب اليوم ليس تنظيم محطات انتخابية متتالية ومنتظمة
في جميع الدوائر والمؤسسات واعتماد قاعدة الاقتراع السري والاختيار
الحر كقاعدة لتنظيم المؤسسات وانما الذهنية الديمقراطية نفسها وثقافة
حقوق الانسان والتعددية والمرور باللحظة التنويرية والتشبع بالروح
الحداثية وحسم معركتهم مع الآراء القروسطية والاحتكار وروح الاقطاع.
ان المطلوب هو محاربة الأنظمة الشمولية باسم الديمقراطية وحقوق
الانسان ونشر قيم المواطنة والتحررية والثورة على السائد والتمرد على
ثقافة المسايرة والخطية والتقليد. وان القضاء على الشمولية لا يتوقف
عند المشاركة في الانتخابات والادلاء بالأصوات لفائدة من عانى من نير
الظلم والتعسف وانما الحرص على بناء مؤسسات عصرية تفرق بين السلطات
وغرس عقلية التسيير الشعبي والتداول وتقوية حس النقد والمراقبة
والمحاسبة.
كما يجب التفريق بين المنظومة الديمقراطية كثقافة متكاملة تنعكس في
فلسفة الحياة وتصور منفتح للمجتمع ونظرة ابداعية وخلاقة للوجود البشري
والممارسة الديمقراطية كآلية شكلانية ومجرد اقتراع وتصويت وصراع بين
أحزاب تحمل لواء القبائل والجهويات.
لقد حققت الثورة النوع الثاني من الممارسة وساعدت على اجراء
الديمقراطية كآلية اقتراع وانتخاب للممثلين في المجالس التأسيسية
وأوصلت لأول مرة رؤساء منتخبين الى سدة الحكم ولكنها لم تنجز النمط
الأول أي الديمقراطية المشبعة بالفلسفة السياسية والحداثة والعلمانية
والتي تقطع مع الاستسلام الخارق للعادة للقداسة ولقوة الأبطال والى
الخصال الفذة لشخص.
ان الديمقراطية التمثيلية تعاني من الكثير من العاهات ويمكن أن تنتج
التعالي والاستبداد وتوصل أناس غير ديمقراطيين الى حكم في ظل وجود
المال السياسي وعدم تمرس الشعب على الاختيار وتحكم وسائل الاعلام في
عقول ومزاج الناس عن طريق الدعاية والاشهار ولذلك حري بنا التعويل على
الديمقراطية الاندماجية كخيار استراتيجي يحقق التلاحم بين قوى الشعب
وفئاته ويسمح للشباب والنساء والمثقفين بلعب دور الريادة.
ألا يجب أن ينتهي النمط التقليدي في تنظيم العلاقة بين الحاكم
والمحكومين على أساس الولاء والعطاء ويحل محله النمط القانوني على أساس
خدمة الوطن والوفاء للأمة؟ وأليس من المنطقي أن ينتهي التنظيم الهرمي
التراتبي للمجتمع والعلاقة العامودية وتحل محلها علاقة أفقية وتنظيم
وظيفي وتكاملي يؤسس للديمقراطية الاندماجية؟ وألم يمل العرب من
الانتخابات الشكلية والمفرغة من كل محتوى ومن ديمقراطية الواجهات
والممارسات المشوهة للمعايير السياسية الراقية والنبيلة؟ متى ينهي حكم
الأقلية سيطرته على الأغلبية من الشعب الكريم؟ وكيف نمنع هيمنة حكم
الأكثرية على حقوق الأقليات باسم الدين أو العرق؟
وهل يفهم الاسلاميون الجدد الدرس ويبتعدون عن الديمقراطية الشكلية
المفرغة من قيم ومعايير الفكر السياسي المعاصر ويرسون في الفضاء
العمومي ديمقراطية اندماجية مشبعة بروح التضحية والاعتراف بين
المجموعات وتؤسس لقيم الانفتاح والتسامح والايثار وذلك بتقليص أكبر قدر
من الضرر لأكبر عدد من الناس وجلب أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من
المواطنين؟ ألا يجب ان يختفي النفوذ الفردي وتقديس الشخصيات من الحياة
السياسية؟
* كاتب فلسفي |