المثقف الانتهازي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: المثقفون ليسوا منزَّهين عن اقتراف الخطأ، فهم يشبهون غيرهم من أصحاب الحرف والمهن والمواهب، إنهم خطّاؤون بقصد أو من دونه، ولكن المشكلة تكمن في طبيعة الخطأ الذي يرتكبه المثقف، فحين يُخطئ الطبيب في عملية جراحية مثلا، ستترتب مخاطر ذلك، على شخص واحد وهو المريض حصرا، وحين يخطأ البنّاء يمكن أن يصحح خطأه المادي بقليل من الاموال، أما حين يخطأ السائق ويصدم سيارته، فيمكن له أن يعيدها الى ما كانت عليه أيضا!.

ولكن حين يخطئ المثقف فتلك مشكلة كبيرة! ربما لا يحسب حسابها هو أو غيره من المثقفين، إن خطأ المثقف يمكن أن يصبح – بالتراكم- خطأ المجتمع بأكمله، لأن المثقف يتجاوز بأفعاله وأقواله حدوده الفردية، الى حدود أوسع بكثير، فهو يؤثر في شريحة او شرائح أو أفراد يسمعون أو يقرؤون ما يكتب وما يقول وربما يرون أفعاله، فتنعكس على المجتمع باعتبار أن المثقف يمثل نموذجا للآخرين، وهذا يتضح من الاحترام الكبير الذي يكنه الناس للمثقف، عندما يلتقون به في اي مكان او مناسبة، إذ غالبا ما يعبر الناس عن اعجابهم وامتنانهم للمثقف الذي كتب في هذا المجال أو ذاك، أو ظهر في هذا البرنامج التلفزيوني او الاذاعي او ذاك، فاستمع له الناس وتأثروا بأفكاره وكلماته، ومن باب أولى بأفعاله.

هذا التأثير الذي لا يستطيع أحد أن ينكره، سواءا كان من المثقفين او من عامة الناس، هو الذي يحتّم على المثقف ضبط أفكاره وأفعاله، لهذا حينما يتحول المثقف الى كائن إنتهازي فتلك معضلة كبيرة حقا، لأن الناس لاسيما البسطاء منهم، سيرون أن نموذجهم قد انحرف عن المسار الانساني السليم، والمشكلة أن الناس التي تؤمن بالمثقف ستبرر الخطأ الذي ارتكبه، بل سوف تنحدر الى ارتكاب الخطأ نفسه من دون تأنيب للضمير، باعتبار أن المثقف الفلاني وهو نموذج لغيره قد ارتكب ذلك، والمشكلة أن بعض المثقفين لا يريد أن يعي خطر العيوب التي ترسم شخصيته، ومن تلك العيوب بل أوضحها، ذلك اللهاث المحموم لاقتناص الفرص باسلوب انتهازي واضح، ما يجعل من هذا المثقف وأمثاله إنتهازيين بجدارة.

والمثقف الانتهازي هو من ينحرف عن جادة السلوك والفكر الصحيحين، وفي الوقت نفسه لا يرى في ذلك عيبا، بل قد ينظر الى هذه الحالة كجزء من سلوك مجتمعي عام، وطالما انه –المثقف- جزء من المجتمع، فإن الانتهازية اذا تحولت الى (شطارة) وانحرفت هذه القيمة الاخلاقية عن مسارها، فلا مشكلة في ذلك، لأن الامر كما يظن المثقف الانتهازي حالة عامة لا تخصه وحده، بل تتعلق بالمجتمع عموما، ناسيا أو متناسيا، بأنه سبب رئيس في تكريس هذه القيمة المنحرفة في السلوك المجتمعي، من خلال إنحراف النموذج المثقف عن جادة الصواب.

بعد التحولات الكبيرة التي اعقبت نيسان 2003 حدثت الكثير من الاهتزازات والموجات الكبرى، في معظم ميادين الحياة العراقية، ومنها الميدان الثقافي، وثمة من المثقفين من استطاع أن يركب موجة اللهاث نحو المناصب والمراكز وما شابه، معتبرا أن الحالة عامة، وانه سباق مشروع لاقتناص الفرص، أما الانتهازية كما يظن هؤلاء المثقفون فمقصود بها (الشطارة) وهي لا علاقة لها بالانتهازية، كما يظنون، في تبرير بائس لا يقتنع به حتى الاطفال!.

إن المثقف الانتهازي يعرف نفسه جيدا قبل غيره، وهو يدري أنه في نهاية المطاف سيُركن جانبا كأي متقاعد بائس، لذا يُسرع بأقصى ما يستطيع للاستحواذ على المنافع ذات الطابع المادي، ومع انه يعرف بأنه مكشوف للجميع، لكنه مع ذلك لن يتردد في مواصلة طريقه هذا، لأنه – كما اثبتت الوقائع مع مثقفين انتهازيين رُكنوا جانبا- يعرف نهايته البائسة تماما، لذا كلامنا هذا لا يعني أمثال هؤلاء الذين دخلوا اللعبة الانتهازية، وتورطوا بها ولوثوا تأريخهم بها ايضا، بل كلامنا يعني من لم يدخل من المثقفين بعد، في هذا المسلك الانتهازي الخطير، فالمثقف الأصيل هو مبدع أولا وأخيرا، وصاحب رسالة انسانية عظيمة تنحني لها كنوز الدنيا أجمع، وعليه أن يبتعد ما أمكنه ذلك عن تلويث نفسه وطموحاته باللهاث وراء الماديات التي سيأتي يوم لتمضي فيه هباءا وجفاءا، أما ما يبقى فهو التأريخ الناصع، ونموذج المثقف العظيم، برسالته وأنفته الانسانية العظيمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20/كانون الأول/2011 - 24/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م