ان واجبنا الثوري، اليوم، لا ينحصر في التفكير بحاضرنا المثقل
بالتهديدات وحسب، بل يجب أن نفكر بالمستقبل أيضا.
يتساءل اليوم كثيرون عن مستقبل الثورة العربية والافرازات السياسية
التي ترتبت عنها والبديل الفكري الذي انجبته والتغييرات المجتمعية
والمنعطفات التاريخية التي قامت بها. وقد اعترف كثيرون بأن هذه الثورة
قد مضت الى الأمام وطورت شعاراتها وتكيفت مع السياق الاجتماعي وتغلبت
على العوائق بعد مرور عام كامل على تفجرها في الأطلس الصغير يوم 17
ديسمبر 2010.
لكن يبدو أن مرحلة ما بعد الثورة في تحدياتها وغموضها وصعوباتها لا
تقل استعصاءا وتعقيدا عن الظروف والملابسات التي سبقتها وأدت الى
تفجرها وتوسعها على المنطقة العربية بأسرها، بل ان هذا الزمن الثوري
الجديد يفترض عودة الى التجارب النيرة والأفكار الأصيلة وذلك بغية
تغيير الذهنية واحداث ثورة ثقافية في أساليب العمل ومضامين البرامج
المقترحة والمخططات الكبرى ومقصد الاستراتيجيات.
لا يمكن العودة الى الوراء بعد نقمة الشرائح الاجتماعية المفقرة على
الطبقة الحاكمة وانتصار الثورات وفك ارتباطها مع واقع لم يعد يحظى
بالقبول أخلاقيا ولا يمكن الاكثار من التحدث عن المشاركة في الأحداث
وعد البطولات والأجدى هو التعرف على فكر أولئك الذين صنعوا المعجزات
وساهموا في دحر الطغاة وذلك لن التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها وانما
يتطلب فترة لا باس بها من الوقت.
ان المطلوب هو أن يكون للثوار دورا اجتماعيا واضح العيان وأن
يساهموا في الحكم وبناء الدولة الجديدة وتقديم برنامج ثوري للشعب وأن
يحافظوا على المبادئ الثورية والحركة التغييرية وأن يفوتوا الفرصة
بوحدتهم وبايمانهم بالشعب الموحد والقائهم التسامح والأمان بين الناس
على كل الملتفين والمرتدين.
لقد قضى الشعب أشهرا بأكملها تائها قلقا وتغلب الناس على السير الى
المجهول ورغم ذلك تجاسر على الصعود والنهوض مجددا وتبدل الحال رويدا
رويدا وبدأت تتضح معالم الطريق وامتلك الثوار البوصلة وتمكنوا من
الاشراف الثوري على الظاهرة العمومية والمراكز الاجتماعية دون الحاجة
الى النضال المسلح ودون المرور بلحظة النشاط السري والانقلاب
والاستيلاء على الحكم.
ان الثورات ظاهرة معقدة جدا ونتيجة لذلك يصعب توقعها، وغالبا ما
تتطلب انهيار بنيات المجتمعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ينبغي
ان تأخذ نظريات الثورة في عين الاعتبار عددا كبيرا من المتغيرات التي
تساهم بالانهيار الاجتماعي وبنزاع اجتماعي واسع النطاق، ومن بين هذه
المتغيرات ظروف دولية وقوى تؤثر على أرجحية الثورات وحتى على طبيعتها.
لقد أن الأوان لكي يحدد الثوار قبلة المجتمع وهوية الدولة تحديدا
مرنا يرتبط بالقيم العقلانية والأخلاقية التي هتف بها المنتفضون وحلم
بها الأطفال والشباب والنساء والعمال والمثقفون والناشطون. وليكون
بمقدور الثورة العربية أن تحقق تقدما منشودا كان لزاما علي الثوار أن
يتنزهوا عن المهزلة الانتخابية والتشيع الحزبي ويترفعوا عن منطق
الغنيمة وأن يتصرفوا بمسؤولية أمام المخاطر التي تهدد المد الثوري.
ان ما لا يمكن تأجيله هو مساهمة الجميع في انجاح الثورة واستكمال
انتصارها على القوى المحافظة وان مصلحة الشعب تقتضي التمتع بالسيادة
السياسية والاستقلال الاقتصادي وجعل القوانين الثورية والحكم الثوري
قابل للحياة وأمر فوري.
يجب أن نفتح طرقا جديدة نحو تعريف المصالح المشتركة لبلداننا
النامية وأن نصون أنفسنا من جميع المحاولات الهادفة الى تفريقنا
والنضال ضد أولئك الذين يطمعون في بذر الشقاق فيما بيننا، ضد أولئك
الذين نعرف مناوراتهم، والذين يأملون في الاستفادة من خلافاتنا
السياسية واثارة أفكار قبلية غير مفهومة في بلادنا.
ان هذا الأمر ليس موكولا الى رجال الثورة من الشباب الذي تتشكل منه
الكتيبة الديغاجية فحسب وانما الشعب العربي بأسره مطالب بأن يتسلح
بالمبادئ الثورية وأن يظل مستيقظا ومنتبها. ان الشعب العربي بأسره
متراص الصفوف ويجب أن يبقى موحدا حتى لا يكون النصر على الاستبداد
مؤقتا وحتى تعم الثورة مختلف الأقطار العربية وتنتقل العدوى الثوري الى
بقية الشعوب المستضعفة.
ان المهمات التي يجب أن تنجزها الثورة العربية هي شطب الأنظمة
التقليدية نهائيا وتنظيف المشهد السياسي من النمط الشمولي في الحكم
واعادة الاعتبار الى مفهوم الشعب واسترجاع الأوطان لسيادتها والأفراد
لحرياتهم وتغيير نمط الحياة بما يتلاءم مع الزمن الثوري وروح العصر
والربيع الديمقراطي.
يجب أن تحطم الثورة العربية جذور الشر السياسي العميقة وأن تسلك
الطريق الاستراتيجي المفضي الى القضاء على الاحتكار والفساد والمفكك
لقلاع العنف والتبديد وأن تبقي معامل الثوار مفتوحة.
يجب أن تكون كوادر حزب الثورة الموحد هي الأولى في الدراسة، الأولى
في العمل، والأولى في الحماس الثوري، والأولى في التضحية، وأن تكون
دوما أفضل من غيرها وأكثر نقاء وانسانية.
ان العرب بعد تفجر الثورة يجب أن سيروا نحو الأمام ويحدثوا ثورة في
العقل والثقافة والمدينة والادارة والعائلة والمؤسسة وأن يحولوا
القبلية الى مجتمع مدني والعقيدة الى رأي عام مضاد والغنيمة الى اقتصاد
وطني انتاجي كما يقول الجابري وذلك لأننا نعيش في عصر مهم في تاريخنا
حيث تتجه فيه الأنظار الينا ويتابع سكان المعمورة جل المستجدات
والقضايا التي تطرأ لدينا والأحداث السياسية المتغيرة عندنا ويتساءل
معنا عن الطريق الصحيح الذي يجب أن يسير عليه الشعب.
كان ثوار الماضي والحاضر خلاقين ومعبرين للغاية في الظروف الحاسمة.
كما ظهر في شعار أيار/ماي 1968 وهو السلطة للخيال. وفيما نحن بعيدون عن
ثقافة معارضة مهيمنة جديدة، فإن ثوار المستقبل سيشكلون على الأرجح
خليطا متعددا جديدا من الأفكار والايديولوجيات القديمة والجديدة بأفضل
معنى. ولقد قلت انه لابد من حياكة الحب والحلام ضمن نسيج هكذا ثقافات
سياسية معولمة للمقاومة.
ان الدرس الكبير الذي ارتسم في اذهان الثوار هو أننا لا نريد ان
نطور مجتمعاتنا على ضوء ثورات الآخرين ونموذجهم في التنمية والتطور
وانما نريد أن نعيش من ثورتنا ونطرح بعقولنا أسئلتنا ونشخص عيوبنا
وأمراضنا وأن نبدع بأنفسنا نموذجنا في التحديث والتطوير ونحل بأيادينا
وخبراتنا مشاكلنا.
أما الدرس المستفاد العام فهو انهاء أسطورة انقاذ الرأسمالية واحداث
مقايضة منصفة بين بلدان المركز وبلدان المحيط لأن الهوة الأخلاقي لا
يمكن ردمها الا بالثورة على العولمة المتوحشة والاجهاز على مخلفات رأس
المال العالمي من استبداد واستغلال وفقر وجهل وأمراض والعمل بجدية على
تجديد الاشتراكية والديمقراطية الجذرية والابقاء على تفاؤل الارادة حتى
في ظل تشاؤم العقل.
كم هي ساذجة تلك الفكرة التي ترى بان اكتساح العولمة المعمورة كان
من العوامل المبشرة بنهاية زمن الثورات فقد بينت الأحداث الخيرة ان
عولمة الاتصال والاعلام والانتشار الواسع لأجهزة الكومبيوتر والأنترنت
والهواتف الجوالة قد أعطى نجاعة أكبر للعمل السياسي والحقوقي
والاجتماعي وأصبحت لدينا حركات سياسية ومجموعات نقابية تتمتع
بالديمقراطية السيبرنيطيقية وانخرطت افتراضيا في الحياة العامة وساهمت
بطريقة حاسمة في الفعل الثوري.
وبالتالي ليس استخدام التكنولوجيات الجديدة لربط المعلومات
بالممارسة وتطوير السياسة المعارضة غريبا عن المعارك السياسية وليست
مجرد يوطوبيا.
ان رأس الأمر في هذا الحدث الجلل الذي يحصل الآن وهنا بين ظهرانينا
ومن توقيع عقول وسواعد الشبيبة هو أن الثورة العربية هي النموذج الذي
ينبغي ان يحتذى به شرط أن تنتصر على قوى الردة والتصورات التي تجذب الى
الخلف وأن تبرز القوى التقدمية والعقلانية التي تدفع الى الأمام وتسعى
الى البناء والتحديث والقضاء على الفساد والافساد وأن يجد المضطهدين
طريقهم الى التحرر والتمتع بالحقوق.
ان مصير الثورة هو المزيد من الثورة والمضي قدما في الطريق الحداثي
التنوير وان الحراك الاجتماعي والديمقراطي هو خيار لا رجعة فيه وان
امتلاك الشبيبة للوعي الثوري هو الوقود الذي لا يجعل الجذوة الثورية
تخمل وصمام الأمان في المستقبل من اجل استكمال المسار وحسم المعركة مع
الشمولية والاستعمار والارتداد. ان مصير العرب أصبح متعلقا بمآل الثورة
وتعثرها يؤدي بهم الى الرجوع للعصر الهمجي والسبات الحضاري، ولكن
نجاحها يعني أنهم سيقودون الانسانية من جديد الى قيم الخير والحق
والجمال واحترام كرامة الانسان وسيزرعون التعارف والمحبة في الأرض
وينشرون قيم الحرية والمساواة والعدل بين الناس وتعود على بدء فكرة
الأعرابي صانع الحضارة ويراهنون على خيارات أممية ويجعلون خصوصيتهم في
خدمة ماهو كوني وقوميتهم تتكامل وتتجادل مع ماهو وطني ومحلي.
لكن الاشكال الذي يجب طرحه في نهاية المطاف هو:
ما السبيل الى حماية الثورة العربية في نظام عالمي جديد معادي
للعروبة والاسلام والتقدمية الانسانية؟ وكيف يقع التعاطي مع القوى
الامبريالية وهي عابثة حتما بأية بإمكانية لدخول حضارة اقرأ الزمن
الديمقراطي؟ الا تتخطى أهداف الثورة المسائل الانتاجية والمؤسسات
السياسية نحو تثوير فكرة العدالة نفسها واطلاق موجة تكافلية تضامنية
عابرة للحدود؟ وهل يقضي البرنامج الايجابي للثورة ببناء تحالفات ثورية
فعلية تعمل على نحت فكرة الانسانية العالمية المشتركة التي تتخطى جميع
الفئات والتمييزات؟ ألا يحتاج العرب الى ثورة ثانية بعد الثورة الأولى
حتى يبلغوا شاطئ الوحدة والحرية والعدالة والكرامة؟
* كاتب فلسفي
..........................................
المراجع:
تشي غيفارا، بعد انتصار الثورة، ترجمة فؤاد أيوب
وعلي الطود، دار الفارابي للنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1998.
جون فوران، مستقبل الثورات، اعادة التفكير بالتغير
الجذري زمن العولمة، ترجمة تانيا بشارة، دار الفارابي للنشر، بيروت،
الطبعة الأولى 2007. |