وانت ربما جاوزت العشرين او الثلاثين وربما الاربعين وقد تكون امتدت
قدماك الى الستين ولكنك ما زلت واقعاً تحت تأثير الابوة او الامومة
التي لم تغادرك وانت في هذا العمر فهي صاغت ملامح شخصيتك وانت في
الخامسة او السادسة من العمر او قبلها باعوام حتى تشكلت خيوط هشة في
شخصيتك، تشعر ان والدك حاضرا في كل لحظة والوالدة تظل بدفئها علينا
ونحن كبار، انه شريط مليء بالاحداث يسير معنا ربما في مسراتنا او
ألامنا، افراحنا ونجاحاتنا وهفواتنا، انها الوالدية التي لم تغادرنا
ونحن كبار فتصرفاتنا تحكمها قيمنا التي اكتسبناها منذ تلك السنوات
وتعلمناها منهم بطريقة التعلم الاجتماعي او توحدنا فيمن نحب حتى تقمصنا
شخصيته لاشعوريا او حاكى او قلد بعضنا سلوك من صادفه في تنشئته
الاجتماعية الاولى مما اضاف لتأثير الوالدية صورا جديدة جعلته يتكيف مع
بيئته الاجتماعية ويتعايش معها، يؤثر ويتأثر فيها انه يحاول ان يخلق
تكيفات جديدة في تعامله مع الاخرين.
ان الانسان السوي يعيد لعبة اعادة توظيف القيم التي اكتسبها في
طفولته وهو كبير لكي يحقق التكيف الناجح مع الجميع ويحدث ذلك في اغلب
الاحيان لا اراديا حتى وان خبر تلك المعلومات في طفولته فهي عادت بشكل
محور مقبول اجتماعيا ومتوافق مع الذات، إنه يتعلم التمييز بين الذاتي
والموضوعي (بين ما له وما لغيره) وهو طفل ويجد صدى هذا التعلم مرهون
باكتشاف التواجد مع الآخر وهو بالغ – كبير، انه ادرك وهو كبير القدرة
على التفكير الواضح وهذه السمة تنمو لديه من طفولته، انها ابعدته عن
الانانية اذا وحب الذات وان تفاوتت لدى البعض، إنه لم يقطع الرباط بين
الذات والغير فَكون الشخصية المميزة بذاته معتمدا على سنوات الطفولة
بكل احوالها.
ونحن نقلب مواقف الحياة بسلبياتها وايجابياتها نواجهها ونتعامل معها
نتغلب عليها واحيانا تقهرنا ولن نركع لها او نستسلم لها كل تلك مواقف
المواجهة نستمدها مما اختزناه من خبرات في تلك الطفولة حتى يبدو لنا
تأثير الوالدين في تكوين الشخصية تأثير حاسم، فمثلا تلك الشخصية التي
يتميز سلوكها بالانتقاد المستمر للآخرين.. مثل هذا الشخص يتصرف بصفة
عامة وكأن ميله المفضل ان يستعمل الدائرة الاولى وكأنه شخصية والديه
انتقاديه دائماً، هذا الشخص له تفضيل اختاره منذ أمد بعيد بأن يحبس
الطاقة النفسية في ذات الوالدية ويتعامل بصفة غالبة من هذه الدائرة كما
عبر "د. عادل صادق" عن ذلك، حقاً انه جدل مستمر تم تثبيته في تلك
المرحلة من الطفولة لاشعوريا حتى إنه يذكرنا ويلج في ذلك في افعالنا او
حتى افكارنا وتصرفاتنا، يفطن لها من يرصد البلوغ ليعود سلوكا منفصلا ذو
مظاهر واضحة، انه سلوكنا حتى وان كانت تلك الافعال تلقائية، بتلقائيتنا
نعبر عن كل مكنونات شخصيتنا وان اصطنعنا المواقف في التعامل مع الاخرين.
جدل الطفولة وما رسمته في شخصياتنا ينير لبعضنا كما لو كان البرق
يبرق خاطف جزءا من الواقع ونحن كبار، فإذا كانت خبرة مؤلمة حملت معها
هموما جديدة وزادت الواقع هموما اخرى، اما اذا كانت هذه الخبرة سارة
حملت معها الذكريات العطرة الدافعة نحو النجاح والتفوق.
تعد الطفولة جدل دائم في حياتنا ونحن كبار ونجد ملامح ذلك في انماط
شخصياتنا فالبعض منا يتصرف معظم الوقت بناءا على مشاعره وانفعالاته
الفطرية، نجدهم ينفجرون في ضحك بشكل مفاجئ او ينسحبون في شعور بالذنب
بصورة سريعة او ينتابهم الغضب بشكل عفوي وربما يجادلون باستماته
ولايقبلون الرأي الآخر ويمتعضون في عبوس او ربما يذعنون في طاعة عمياء،
مثل هؤلاء من المحتمل ان تضعف قدرتهم على تحمل المسؤولية ويمكن ان
يكونوا في طفولة دائمة، لم تغادرهم تلك المراحل الاولى من الطفولة وهم
بذلك يعيشون اختلاط الحاضر بالماضي وهو انطماس للحدود الفاصلة بين
الواقع المعاش والماضي في الطفولة ويقول "مصطفى زيور "ان للمعرفة سيرة
تبدأ من الطفولة وتنموكما ينمو كل ما يتصل بالكائن الحي.
ان حياتنا ونحن كبار بها من السلبيات ما لا نهاية لها وبها من
الايجابيات الكثير التي لا تعد ولاتحصى، وهي بعضها ذات الطفولة ويمكن
ربطها لبعض الشخصيات غير الطبيعية والاحوال الانفعالية او غير الصحية
ويمكن للواعي منا او مدركاً وربما مراقبا لنفسه ان يتجنب تلك الخبرات
لكي لا تصبح سلبيات ذات الطفولة مجسمة بذاته وهو بالغ كبير مما تفسد
علاقاته مع الاخرين وربما مع الزوجة او الابناء او المحيطين به من
المقربين.
ان الانسان وهو بالغ يعي ويدرك تماما ما يريد ان يفعله او يقوله
ويعرف الطريق الصحيح في التعامل وله القدرة في التحليل والتوجيه ويعرف
الطريق المؤدي للراحة والاستقرار النفسي الذي يقود للاتزان وبالتالي
يمكنه ان يعيش بأقل قدر من المعاناة والصراعات الطفلية حتى وان وجدت
ولا يستطيع اي منا نحن البشر الاسوياء ان نخنق الطفولة في دواخلنا حتى
الموت ونحن كبار لاننا بحاجة اليها وربما نستعيد بعضها الجميل مع
ابنائنا فكل منا في حاجة الى الطفل الذي في دواخلنا وفي حاجة الى
الوالد بعد ان اصبحنا بالغين.
*متخصص في علم النفس-استاذ جامعي وباحث نفسي
elemara_32@hotmail.com |