إن يسقط دكتاتور عربي واحد، فهذا ولا شك إنجاز، فكيف إن سقط ثلاثة
منهم – بن علي ومبارك والقذافي- وكيف إن تزعزعت كراسي البقية وباتوا
يتحسسون رؤوسهم؟. ما دامت غالبية الشعب تقول بأنهم مستبدون وكانت ترفض
حكمهم، فلا يهم إن سقطوا بإرادة حرة وخالصة للشعب أم بتخطيط خارجي أم
بجمع بين الاثنين؟.
الثورات محصلة لنضوج أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية ولتضافر عدة
عوامل داخلية وخارجية، في لحظة تاريخية ما تتجمع كل هذه العوامل فيثور
بركان الثورة، بحيث يكون من الصعب نسبتها لعامل واحد، ولكنها تُنسَب
دائما للجهة التي تتمكن من توجيه الثورة أو ركوب موجتها، وفي بعض
الحالات لا يكون مفجرو الثورة ووقودها نفسهم الذين يستفيدون منها
ويقودون النظام الجديد.
المجتمعات العربية التي أسقطت الدكتاتورية لن تعود مجددا لنفس
الأوضاع السابقة حتى لو طال عمر الثورة أو انحرفت عن مسارها أو ركبت
موجتها قوى داخلية مشكوك بمدى التزامها بالديمقراطية أو قوى خارجية لها
أجندة خاصة في المنطقة لأن الثورة تغير في نفسيات الشعب وفي الثقافة
السائدة وتُولِد تطلعات جديدة.
لكن في نفس الوقت فإن إسقاط طاغية وإحلال قوى جديدة بشرعية انتخابية
أو بشرعية الثورة لا يعني أن ملائكة حلوا محل شياطين، بل يجب النظر
والتعامل مع القادة الجدد كقوى لها مصالح وإيديولوجيات وارتباطات أو
كسلطة لا يكفي أن تقول بأنها تستمد شرعيتها من خطابها وأيديولوجيتها
ولا حتى من صناديق الانتخابات، بل من قدرتها على الحفاظ على وحدة الأمة
وإحداث نقلة نوعية سياسية واقتصادية واجتماعية في حياة الشعب، والأهم
من ذلك الحفاظ على ثوابت الأمة التي تحفظ للدولة ثباتها واستقرارها
ووحدتها الوطنية، وثوابت الأمة لا تتغير مع كل دورة انتخابية لأنه لو
حدث ذلك فلن تكون للأمة ثوابت وما دامت الدولة على حالها، ولذا فإن
ثوابت الأمة لا يضعها الفريق الفائز بالانتخابات بل يتم الوصول إليها
بالتوافق الوطني.
إذن الثورة فعل اجتماعي/سياسي مركب ومعقد، وفي حالة كالحالة العربية
حيث المنطقة محط أنظار العالم ومحل تطلعات هيمنية للدول الكبرى، وحيث
دول المنطقة فقيرة وتعتمد اعتمادا كبيرا على الدعم الخارجي واقتصادها
مرتبط بالغرب، فإن سيرورة الأحداث في المنطقة لا تسير بفعل القوى
الذاتية للشعوب ونخبها السياسية فقط، بل يكون لتأثيرات وتدخلات القوى
الخارجية دور فيها، سواء كانت تدخلات مباشرة كما جرى في ليبيا، أو غير
مباشرة ولوجستية لقوى داخلية بعينها كما هو الحال في سوريا وبدرجة أقل
في مصر. تونس كانت الحالة الوحيدة لثورة شعبية خالصة، وفي جميع الحالات
(الثورية) السابقة – عدا بعض الأحزاب الصغيرة في تونس -لا يوجد أي حزب
أو قوة سياسية تطرح رؤية معادية للغرب بل يمكن القول بأن باتت اليوم
كلها تتودد للغرب وخصوصا لواشنطن ولا تناصبه العداء، ولكنها تتفاوت في
درجة تقربها للغرب وفي دور الغرب في تأسيسها ودعمها، فجماعة العدالة
والتنمية في المغرب جماعة إسلام سياسي وطني وولدت من رحم المجتمع
المغربي بعيدا عن اية ارتباطات خارجية، كما أن فوزها بالانتخابات جزء
من استراتيجية للنظام السياسي المغربي بدأت منذ نهاية الثمانينيات تهدف
لدمج قوى المعارضة حتى المتطرفة منها في النظام السياسي لتعزيز
الديمقراطية الدستورية.
وهكذا نلاحظ كثرة الحديث عن دور أمريكي غربي في الثورات العربية
سواء من حيث التخطيط لهذه الثورات أو ركوب موجتها ودعمها لوجستيا
وخصوصا من خلال الإعلام الغربي أو العربي التابع، وأن هدف التدخل
الأمريكي تنفيذ إستراتيجية أمريكية تقول باستيعاب الإسلام المعتدل
ودمجه بالحياة السياسية، أو خلق حالة من الفوضى البناءة تُمكِن واشنطن
من إعادة بناء الشرق الأوسط مجدد تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير أو
الجديد بما يمكنها من تصفية كل من يشكل تهديدا لمصالحها الإستراتيجية
الآنية أو المستقبلية أو تهديدا لإسرائيل. إن كنا لا نستطيع إسقاط
نظرية المؤامرة لأن لا سياسة تخلو من تآمر وما يراه البعض تآمرا ما هو
إلا السياسة الواقعية بعينها، إلا أنه لا يجوز أيضا القول بأن كل ما
يجري تآمر، فما جرى ليس انقلابا عسكريا أو حراكا سياسيا لعشرات من
العسكريين أو السياسيين بل تحرك شعبي مليوني شارك فيه ممثلو كل قطاعات
الشعب ولا يمكن أن يكون كل هؤلاء منفذين لمخطط خارجي.
وعليه يجب إعادة النظر في الأفكار المسبقة عن الثورات كما اختزنها
العقل السياسي العربي باعتبارها فعلا جماهيريا شعبيا حر الإرادة معاد
بالضرورة للاستعمار والامبريالية وللغرب ولإسرائيل، أو أنها ثورة
تقودها القوى القومية واليسارية والتقدمية في مواجهة أنظمة ملكية أو
رجعية موالية للغرب، أيضا إعادة النظر في تصورنا بأن الشعوب العربية ما
زالت تنظر لواشنطن وللغرب باعتبارهم قوى في عداء كامل مع العرب
والمسلمين (الحرب الحضارية أو الصليبية كما روج لها البعض). بدلا من
ذلك يجب النظر بعقلانية وواقعية إلى ما يجري حتى وإن كان واقعا محفوفا
بمخاطر الانزلاق لمتاهات غير مسبوقة في خطورتها. الواقعية السياسية
السائدة اليوم تقول بأن الشعوب وأحزابها (الثورية) لا تضع على رأس سلم
اهتماماتها معاداة واشنطن والغرب ولا القضايا الكبرى كالوحدة العربية
والإسلامية أو تحرير فلسطين الخ، بل تريد التخلص من الدكتاتورية وتحقيق
الحرية والحياة الكريمة وخصوصا الاقتصادية، وفي مسعاها هذا مستعدة
للتعاون أو التحالف مع أي طرف خارجي سواء كان الناتو أو واشنطن أو
تركيا أو أنظمة عربية محافظة موالية للغرب وتنفذ سياساته. والواقعية
السياسية تقول أيضا بأن الغرب الذي يحكمه مبدأ (لا توجد صداقات دائمة
ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة) مستعد للتحالف أو التعامل مع أي حزب
أو جماعة عربية أو إسلامية مستعدة للحفاظ على مصالحه في المنطقة والبحث
عن قواسم مشتركة بين الطرفين.
في هذا الإطار يمكن فهم وتفسير ما يمكن تسميته بالتحالف الخفي بين
جماعة الإخوان المسلمين وواشنطن. ذلك أن تاريخ الأخوان المسلمين يدل
على أنهم منذ نشأتهم لم يكونوا معادين أو متصادمين مع الغرب سواء مع
بريطانيا في بداية نشأتهم أو واشنطن لاحقا، وعندما كان الغرب يخوض حربا
ضروسا في مواجهة ما يسميهم (المتطرفون الإسلاميون) وكان يقتل الأبرياء
بمئات الآلاف في العراق وأفغانستان، كانت عواصم الغرب تحتضن قيادات
الإخوان وتقدم لها كل ما يساعدها على الانتشار والتمكين في بلدانها
الأصلية بل ضغطت على الأنظمة القائمة لتُشرك الأحزاب الدينية في الحياة
السياسية من خلال الانتخابات – أشرفت السفارات الأمريكية في الأردن
والمغرب ومصر بشكل مباشر في الحوارات بين الأنظمة والجماعات الإسلامية
قُبيل الانتخابات التي شهدتها هذه البلدان منتصف العقد الماضي -. ما
جعل الالتقاء أو التحالف الخفي بين الطرفين ممكنا هو التحول في
الإستراتيجية الأمريكية في السنوات الأخيرة.
منذ أن بدأت واشنطن تشعر بأن القوة الخشنة أو العسكرية لا تحقق لها
أهدافها الإستراتيجية أو تمكنها منها بأثمان باهظة كما هو الحال في
العراق وأفغانستان، أخذت بالتفكير بتوظيف القوة الناعمة من خلال محاولة
استقطاب دول وجماعات للسياسة الأمريكية أو التغيير في مواقف دول أخرى
ليس بالقوة الخشنة ولكن من خلال الإقناع والتأثير على العقول وخصوصا
الشباب والنخب الفاعلة موظفة وسائل الإعلام ودعم القوى السياسية ذات
النفوذ الشعبي. مشروع الشرق الأوسط الكبير وسياسة الفوضى الخلاقة
يقومان على هذه القوة الناعمة أو المزاوجة بينها وبين القوة الخشنة عند
الضرورة بما يسمى القوة الذكية. ويبدو أن واشنطن من خلال هذه
الإستراتيجية الجديدة التي طبقها أوباما استطاعت تحقيق نجاحات نسبية
مكنتها من الخروج من ورطتها في العراق وأفغانستان بخسائر أقل. وهي
الإستراتيجية التي تطبقها في التعامل مع التحركات الشعبية العربية.
القول بتحالف أو تنسيق بين جماعة الإخوان المسلمين وواشنطن لإحداث
تغيير في المنطقة لا يعني أن هذا التحالف له بعد استراتيجي وأهداف
واحدة من الطرفين، فهو أقرب من التحالف التكتيكي أو الظرفي ومن غير
المؤكد استمراره طويلا، وهو تحالف لا يتضمن حكم قيمة سلبي بالضرورة على
جماعة الإخوان ضمن منطق الواقعية السياسية، لأنه لو لم يكن للإخوان
حضور شعبي واسع ولو لم يكونوا قوة فاعلة ما توجهت واشنطن للتحالف معهم
أو دعمهم، فهناك أحزاب ليبرالية وعلمانية تجاهلها الغرب وواشنطن لأنها
أحزاب بدون شعبية أو تم تجريبها وفشلت، كما أن نظامي بن على في تونس
ومبارك في مصر وحتى نظام القذافي بعد تسوية لوكيربي لم يكونوا مصدر
تهديد للمصالح الغربية ولكن الغرب شعر أن الدور الوظيفي لهذه الأنظمة
قد انتهى وأن قوى جديدة صاعدة –الإسلام السياسي- لا يمكن مواجهتها
بالقوة، فركب الغرب موجة الثورات حتى لا يخسر حلفائه القدامى والقوى
الصاعدة في نفس الوقت.
بداية كان الغرب يوظف الإسلام السياسي كأداة لمواجهة مناوئيه من
الحركات والأنظمة كعبد الناصر والشيوعيين والقوميين، ولكن بعد اشتداد
عود هذه الجماعات فهو مضطر لإعادة النظر في إستراتيجية التعامل معها
بما يتناسب مع كل حالة، فإن ترافقت قوة الجماعات الإسلامية مع سياسية
معادية للغرب كان لا بد من ضربها واستئصالها كما جرى مع تنظيم القاعدة،
ولكن إن استمرت هذه الجماعات تنهج سياسة براغماتية مهادنة للغرب ولا
تهدد مصالحه فلا بأس من استمرار التعامل معها بعد وصولها للسلطة بل
مساعدتها على ذلك، وبعد ذلك ستُحدد العلاقة بين الطرفين حسب نهج هذه
الجماعات وهي في السلطة.
ما يبدو تحالفا أو تنسيقا بين جماعات الإسلام السياسي وخصوصا
الإخوان المسلمين والغرب يدعو للتساؤل إن دعم واشنطن للإسلام السياسي
المعتدل وللثورات العربية هدفه خلق الاستقرار في المنطقة وتأمين مصالح
الغرب من خلال أنظمة إسلامية موالية؟هذا ممكن، ولكن يمكن طرح السؤال
بشكل مغاير: ألا يمكن القول بأن هدف واشنطن من دعم الثورات والإسلام
السياسي خلق الظروف للفوضى الخلاقة التي تريدها واشنطن لإدراك واشنطن
أن الإسلاميين لا يمكنهم تحقيق دولة مدنية حضارية وأنهم سيدخلون في
مواجهات مع بقية شرائح المجتمع سواء من أصحاب الديانات الأخرى أو مع
العلمانيين أو في مواجهات داخل الجماعة بين من تستهويهم السلطة
وامتيازاتها ويخضعون لاستحقاقاتها من جانب وبين قوى داخل الجماعة تطالب
بتطبيق الشريعة والعودة للأصول والتعامل مع الغرب وإسرائيل كقوى
كافرة؟.
سنترك للأيام الحكم إن كنا أمام ثورات شعبية بمضامين وطنية وقومية
وتحررية تؤسس لديمقراطية الشراكة السياسية والمواطنة والتداول السلمي
على السلطة، أم سنواجه (الفوضى الخلاقة) التي بشرت بها واشنطن؟. ولكننا
في نفس الوقت نؤمن ونتمنى بأن تكون القوى السياسية وخصوصا في مصر
وسوريا على درجة من الوعي بخطورة المنعطف الذي تمر به الأمة العربية
ككل وتمر به كل دولة عربية من حيث قدرتها على الحفاظ على الوحدة
الوطنية ومواجهة التطلعات التوسعية والهيمنية من دول الجوار.
Ibrahemibrach1@gmail.com |