الفن التشكيلي العربي المعاصر يحاول النهوض مجدداً

كمال عبيد

 

شبكة النبأ: بعد أن نهضت أوروبا وأصبحت قوة مؤثرة في العالم، طمعت في البلاد العربية، واستعمرت عددًا منها، وكان طبيعياً أن يحاول المستعمِر نشر ثقافته وفنه؛ فانتشرت أساليب الفن الغربي في البلاد العربية، وأنشئت المدارس والكليات لتدريس الفنون التشكيلية بالطريقة الغربية.

وعملت الدول الأوروبية على إرسال الفنانين التشكيليين البارزين في البلدان العربية التي كانت تستعمرها، ليدرسوا الفنون هناك بتعمّق، وعاد هؤلاء ليقوموا بالتدريس في مدارس الفنون وكلياتها وأكاديمياتها، وكان لهذا أثر كبير في تغيير ملامح الفن التشكيلي العربي المعاصر؛ فقد ترك الفن الأوروبي المعاصر بَصَمات واضحة على الفن العربي الذي أنتج في العصر الحديث.

لذا فإن الفن التشكيلي العربي المعاصر يعيش فترة حرجة من عمره. ومن الصعب جداً أن نجد سِمات مشتركة في إنتاج الفنانين التشكيليين العرب تُميزهم عن فناني العالم. بل من الصعب أن نجد سِمات مشتركة بين فناني البلد الواحد في هذه الأيام. ومما زاد الأمر التباسا أن بعض الفنانين الأوروبيين المعاصرين أمثال هنري ماتيس وبول كلي وغيرهم، قد زاروا بعض البلاد العربية، وأنتجوا أعمالا تعبر عن تلك البلدان. واشتهرت أعمالهم في الغرب؛ لأنها استطاعت أن تعبِر عن روح البيئة العربية. وقد اختلف هؤلاء الفنانون الأوروبيون عن أسلافهم الفنانين المستشرقين الذين صوَّروا بعض البلدان العربية في القرن الماضي بطريقة واقعية أو رومانسية.

وعموماً، هناك محاولات جادة من بعض الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين لإيجاد جامع يجمعهم، وأسلوب يميزهم عن غيرهم، ويحقق نوعاً من الوحدة والترابط بين الفنانين التشكيليين العرب.

الفن الحديث

في هذا السياق استضافة العاصمة الفرنسية معرضا لأعمال مجموعة من الفنانين التشكيليين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط في وقت يتزايد فيه الاهتمام بالثقافة العربية في أعقاب أحداث الربيع العربي. المعرض عنوانه همزات وصل بين باريس والفن العربي المعاصر".. ويضم أعمال 13 فنانا وفنانة يرتبط كل منهم بصلة خاصة بباريس حيث درس بعضهم هناك بينما يحمل آخرون الجنسية الفرنسية جنبا إلى جنب مع جنسياتهم الأصلية، وذكر باسكال آمل أمين المعرض أن الفنانين الذين يضم المعرض أعمالا لهم يقدمون للعالم رسالة. وقال "الأمر الذي يثير الحماس في تاريخ أولئك الفنانين هو أنهم يمرون بفترة غليان. هناك اتساع لنطاق النظرة للفن الحديث واهتمام واضح بهم وفي الوقت نفسه هم يستفيدون من هذه اللغة المفعمة بالحركة الموجودة في كل تغير عميق بالمجتمع. لذلك في رأيي هم فنانون ضمن رسالة وفي الوقت نفسه يحملون رسالة، ومن الأعمال التي يضمها المعرض لوحة "الملثم" للفنان اللبناني أيمن بعلبكي وعملا تشكيليا بعنوان "كرسي" وآخر بعنوان "تاج من الشوك" للفنان المغربي المولد عبد الرحيم يامو. وفي المعرض أيضا لوحات بأسلوب الكولاج للفنانة المصرية نرمين همام بعنوان "المرأة المحاربة" وصور فوتوغرافية للفنانة السورية المولد ليلى مريود. بحسب رويترز.

ولم يستلهم أي من الأعمال الموجودة في المعرض ثورات "الربيع العربي" لكن الناقد الفني الفرنسي فيليب بيجيه أكد أن ذلك ليس بالأمر الغريب إن أن الفنانين يسبقون الأحداث في كثير من الأحيان، وقال "يوجد هنا فنان استخدم وحدة الزحرفة الخاصة بالثقافة العربية.. إنها شيء مقدس.. وحول اتجاهها تماما بمزجها مع طائرات حربية في علاقة بالحرب في ليبيا. إنها إشارات كثيرة مهمة إلى أن الفنانين في كثير من الأحيان يسبقون المجتمعي والمدني والسياسي، وذكر آمل أن المعرض سبق له السفر إلى العاصمة اللبنانية بيروت كما تلقى دعوات للعرض في عدد من الدول أخرى.

التشكيل العربي

وفي ذات الصدد صدر عن اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو كتاب الفن التشكيلي العربي المعاصر: الميراث والحداثة باللغتين العربية والإنجليزية للفنان التشكيلي والناقد العراقي عمران القيسي، ويتألف الكتاب النقدي من خمسة أبواب تبدأ من مفهوم الحداثة والنظريات الفنية وتنتهي بالتطبيقات الإبداعية لهذه الحداثة في المدارس التشكيلية العربية. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه "يسعى لحل التباس مزمن، يتعلق بالتعامل العربي مع الميراث الإبداعي"، كما يقول المؤلف في المقدمة، مضيفا أن الحضارة العربية الإسلامية تمثل "بطبيعة الحال البوتقة الأساس التي خلطت واستوعبت حضارات الآخرين، ونجحت في تطويرها ومنحها هويتها الخاصة بها."من دفتر الحرب الأهلية للفنان اللبناني عارف الريس ارتجال التجديد

ويتناول الفصل الأول الذي حمل عنوان "الإبداع الفني ارتجال التجديد" نظريات الفن لعالم النفس الألماني تيودور ليبس التي وردت في كتابه "بحث معمق في عالم الجمال"، وعن الشعور الذي يسميه "الإفراغ الانفعالي" أي إسقاط المشاعر في العمل الفني، وجعلها المعيار الأساسي الذي يرتكز عليه هذا العمل. ثم يتكلم عن نظريات التشكيل لبابلو بيكاسو وكاندنسكي وبول كلي وغيرهم، ومن ثم يتطرق الكاتب إلى دور الحركات الإبداعية الفنية في نهاية القرن العشرين كالتعبيرية والتجريدية والواقعية والسريالية، ويغطي البحث أيضا الحركة الأوروبية الفنية في النحت والعمارة والرسم، إضافة إلى بحث معمق عن جذور الحداثة، وتساؤل إن كان لهذه الأخيرة تأريخ واضح، في الباب الثاني يتناول القيسي مرحلة ما بعد الانطباعية ونشوء الحركة التجريدية كمدخل للحداثة، مع بابلو بيكاسو ومارك شاغال وكاندينسكي، وقد أحدثت هذه الأسماء تجديدا في الفن وقادته إلى النزعة التجريدية عبر تيارات واجتهادات مختلفة. ومن أعمال الفنان الفلسطيني عدنان يحيى  الواردة في الكتاب الفن العربي الإسلامي وينتقل المؤلف إلى التطبيق الفني العربي المعاصر متمثلا في التجريد في الفكر الإسلامي، ثم يلي ذلك الحداثة في الفنون العربية ومن بينها لبنان، ففي الماضي كان الفن اللبناني يخدم الأغراض الدينية ويظهر ذلك جليا في أعمال اسطفان الدويهي مثلا كما يقول الكاتب، ومن أبرز الأسماء اللبنانية التي خلفت أعمالا في القرن الثامن عشر، فرنسيس الكفاعي وشكري المصور وإبراهيم كرباج ويوسف صقر وبطرس قبرصي وكنعان ديب وغيرهم، بعد هذه الحقبة، أتى دور المؤسسين الأكاديميين الذين شكلوا مربعا ذهبيا، قوامه داود القرم (1852-1930) وحبيب سرور (1860-1938) وخليل الصليبي (1870-1928) وفيليب موراني (1875-1970)، وتكمن أهمية هؤلاء الفنانين في أنهم أول من اتبع طريق التخصص الأكاديمي في الرسم، وأخرجوا الفن من دائرة الهواية والممارسة الدينية ليدخل دائرة الاحتراف، ويتابع المؤلف كذلك انقسام الحركة الفنية وحيادية اللوحة والتباسات الرعيل المثابر، ويعطي أمثلة عليها من خلال أعمال إيلي كنعان وفريد عواد وحليم جرداق وميشال المير وعارف الريس وإيفيت أشقر وسلوى روضة شقير وسعيد أ عقل وميشال بصبوص وجوليان ساروفيم ونزار ضاهر وغيرهم،  ويتحدث القيسي في الفصل الثالث عن الفن العربي المعاصر وتوقه لإثبات وجوده، وهناك ذكر لأسماء من زمن النهضة الفنية العربية، كأحمد مختار من مصر، وجواد سليم من العراق، ومصطفى الحلاج من فلسطين، وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد من العراق، وحازم الزعبي من الأردن وغيرهم، ويتطرق هذا الفصل أيضا إلى تاريخ الفن العراقي وقوة جذوره، وإلى الحداثة في الفن الأردني، كما سعى  القيسي أيضا إلى كشف أبرز الاتجاهات التشكيلية في الخليج، ويلقي الضوء على الكثافة والتنوع في الفن السعودي، أما الفصل الرابع من الكتاب فيتناول "النزعة الحروفية في الفن العربي الحديث" التي جاءت نتيجة تطور الفن التشكيلي العربي، مع ذكر لأهم رموز الحروفية في الفن العربي الحديث، كالمؤسس شاكر حسن آل سعيد (العراق)، وسعيد أ عقل (لبنان)، وكمال بلاطة (فلسطين)، وأحمد عبد العال (السودان)، ورمزي مصطفى (مصر)، ورشيد القرشي (الجزائر)، ونجا مهداوي (تونس)، ومحمد غنوم (سوريا). أما الفصل الخامس فهو عبارة عن لوحات جاءت من وحي مواضيع  الفصول السابقة.

المرأة العربية

فيما تحضر المرأة بقوة في أعمال التشكيلية الأردنية هيلدا حياري، التي يستضيفها حالياً غاليري أيام بدمشق، تحت عنوان "نزوات" حيث تعتمد الفنانة الأسلوب الواقعي التعبيري وبتقنيات متعددة، وتحتفل أعمال الفنانة الاثني عشر بحضور المرأة العربية التي تحتفظ بجمالها وفتنتها وأنوثتها رغم ما يشوب هذا الحضور أحيانا من تشويه وعنف وظروف قاهرة فهي مزركشة ومزخرفة بأشكال فنية جميلة وألوان زاهية رغم أعضائها المبتورة في بعض الأعمال.

وتنوع حياري في تكويناتها الأنثوية مع خلفية بألوان جريئة وقوية على مساحات ضخمة لا تخلو من خطوط مستقيمة وهندسية وحروفية في بعض الأحيان وكولاج في غيرها من الأعمال ما يقارب أعمال الإعلان والغرافيك، ومن خلال هذا الزخم اللوني والتقني تقدم الفنانة مشهدية فنية مميزة في قوالب فنية تحمل الحداثة إلى جانب امكانية فنية متمرسة في معالجة سطح اللوحة اخذة المشاهد لتحليلات نفسية كثيرة ومناخات لونية متنوعة، وعن أسلوبها الجديد قالت الفنانة حياري.. "إن هذا الأسلوب الذي أقدمه اليوم بدأت به منذ عامين وهي تجربة وصلت إلى شكلها النهائي منذ ثمانية أشهر بعد ان قدمت التجريد لأكثر من تسع سنوات، وأضافت.."انها بدأت بالأسلوب الواقعي في بداية تجربتها الفنية ومن بعدها قدمت الأسلوب الرمزي إضافة للتجريد مما يظهر جلياً في أعمالها اليوم من خلال الرموز والخلفيات على كامل اللوحة التي انتقلت من كامل اللوحة في السابق لتقدم بتقنية جديدة مضبوطة ضمن إطار جسد المرأة، وأوضحت الفنانة الأردنية "أنها لا تهدف لمحاكاة الجمهور الغربي إنما تريد التعبير عن ذاتها وعن انفعالاتها الخاصة كامرأة عربية محاولة إيجاد الأسلوب والتقنية اللذين يخدما هذا الموضوع".

وقالت حياري "إن لوحاتي تعبر عن المرأة العربية وهي الأنثى القوية التي دخلت الكثير من المعارك سواء على الصعيد الشخصي أو الوطني وحتى لو بترت ساقها أو تعرضت لتشويه معين فهي قادرة على إكمال مشوارها ونضالها لأنها صاحبة كينونة مميزة، وعبرت الفنانة، التي تقدم معرضها الفردي الأول في سورية، عن انسجام أعمالها من خلال علاقة اللون القوي مع تكوين اللوحة اللذين يكملان بعضهما البعض مبينة أن هذا الأسلوب يعبر عن انفعالها الداخلي الذي لا يمكن أن تفسره أو أن تشرحه لانه وليد لحظته.

من جهة اخرى قالت حياري "إن الفن السوري يكتسح المنطقة العربية حالياً وهو امتداد لعمل فنانين سوريين أوائل مهمين جداً مبينة أن الأعمال الفنية السورية تأخذ حقها من التقدير والمكانة ما بين الأعمال الفنية العربية، وأضافت.. "انه يجب على الفنان العربي أن يمتلك القدرة على التغيير الدائم في أسلوبه وتقنيته بما يتوافق مع التطور الفني العالمي وهذا يأتي في البداية لنفسه ومن ثم للجمهور بما يحقق التجدد والتطور الدائم، وأشارت الفنانة إلى أنه لا يعنيها التوجه للعالمية فأعمالها موجهة بشكل أساسي للجمهور العربي كون مواضيعها تعبر عن هذا الجمهور وهذا ينطلق من أسباب ثقافية وتسويقية، وعن الحجم الكبير للأعمال قالت حياري "إن الحجم الكبير للوحة يريحني ويتلاءم مع حركة يدي وانفعالي الداخلي النزق والمتفجر كما أن المساحة الصغيرة تحد من حريتي ومن قدرتي على تقديم موضوعي كما أريد، من جانبها قالت التشكيلية السورية أسماء فيومي.. "إن الفنانة هيلدا عملت بالتجريد لفترة طويلة وأسلوبها كان يحتوي على تكوينات فلكية وفيه الكثير من النجوم فلم يكن تجريدا مجانيا بل كان يقدم فكرة وموضوعا ممتعا للمشاهد، وأضافت.."اليوم اضافت الفنانة الإنسان للتجريد مع معطيات جديدة في تعبير عن مضامين المرأة والأعمال تطورت أكثر من ناحية التقنية فالضوء كبير واللون حر وجريء وهناك توافق منسجم بين التكوين واللون إلى جانب التنوع في التقنية بين الكولاج والحروفية، أما الشاب صفوان الأخرس فعبر عن إعجابه بقوة الأعمال المعروضة والتي تنم عن موهبة فنية أنثوية متأججة بالانفعال اللوني مبيناً أن وجود فنانات عربيات يمتلكن هذه القدرة الكبيرة على السيطرة على سطح اللوحة شيء يبعث على الفخر للفنانين العرب.

والفنانة هيلدا حياري من مواليد الأردن عام 1969 درست العلوم السياسية في جامعة الأردن التي تخرجت فيها عام 1991 ومارست العمل الفني بتعليم ذاتي حتى تخرجت في كلية الفنون الجميلة في جامعة الزيتونة عام 2004 ولها العديد من المعارض الجماعية والفردية في الأردن وسورية وعدة دول عربية وأجنبية أخرى.

عذابات الإنسان المصري

الى ذلك أطلقت ثورة 25 يناير طاقات شباب الفنانين التشكيليين الذين طالما عانوا، لجذب الجمهور لأعمالهم وتوفير قاعات لعرضها، فما كان منهم إلا أن نزلوا بأعمالهم إلى الشارع، ووجدوا ضالتهم في محطة "السادات" لمترو الأنفاق، المسماة بالتحرير، مهد الثورة المصرية، واتفقت مجموعة من شباب التشكيليين مع المهندس محمد الشيمي- رئيس الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق- على عرض أعمالهم في أحد الممرات الرئيسية في محطة التحرير، واسترعى المعرض انتباه الآلاف من ركاب المترو، الذين ظلوا يتأملون بشغف الأعمال الفنية المعلقة على حوائط الممر، مذيلة بتوقيع فنانيها وغالبيتها مستلهم من الثورة المصرية. فهناك عشرات اللوحات التي تعبر عن عذابات الإنسان المصري، وقهر السلطة الحاكمة له، منها لوحة الرسام أسامة إمام الليثي التي يصور فيها شيخا مصريا غارقا في عذاباته، ويرفع يديه إلى أعلى ناشدا الحرية، والفرار من تلك العذابات والصعود من الهاوية. وهناك عدة لوحات تتناول الظلم والصلف الذي عاشه المصريون في فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك، منها لوحتان للفنانة حنان النشرتي تصور إحداهما مبارك ووجهه يبدو مقسما بخريطة مصر، في إشارة إلى بقاء الوطن وذهاب الحكام، واللوحة الأخرى يبدو فيها مبارك خلف القضبان، فيما الرؤساء السابقون محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات يلوحون بالتحية لقوى الشعب المصري التي تبادلهم التحية، فيما الجميع يديرون ظهورهم لمبارك. بحسب فرانس برس.

ولاقت الرسومات الفنية لشباب التشكيليين استحسانا كبيرا من رواد مترو الأنفاق، الذين سألوا عن أسعار هذه اللوحات من أجل شراء بعضها، لكنهم فوجئوا بأن هذه اللوحات للعرض فقط، وليست للبيع، على عكس كل معارض الفن التشكيلي؛ وهو القرار الذي اتخذه الشباب والتزموا به لأن همهم الأكبر عرض فنهم على الجمهور أولا لا بيعه.

نيو ميديا

على صعيد نفسه افتتح في صالة أيام للفنون بدمشق معرض "نيو ميديا" للفنانين نصوح زغلولة وعمار البيك اللذين يتقاطعان في شهرتهما كفنانين ضوئيين إلا أنهما يعرضان أعمالا فنية مختلفة على صعيد الفكرة وعلى مستوى التقنية والتنفيذ، وقدم الفنان البيك ستة أعمال تتمحور جميعها حول السياسة الأميركية في العالم بدءا من حربها على اليابان من خلال مأساة هيروشيما وناكازاكي مرورا بغزو العراق إضافة إلى التهكم على الذهنية الأميركية المحكومة بغريزتي إشعال الحروب وحماية إسرائيل، واعتمدت أعمال الفنان البيك على التجهيزات الآلية حيث بنى احدى معروضاته مثلا على حركة تضم مجموعة من البنادق المصوبة باتجاه المشاهد ورسم على قاعدتها شعاري الحزبين الجمهوري والديمقراطي في أميركا وعلى جانب هذا العمل مصب الوقود في إشارة منه إلى أن أميركا بجمهورييها أو ديمقراطييها مستعدة لغزو أي دولة في سبيل امتصاص نفطها وسرقة مقدراتها، وفي تصريح لوكالة سانا يقول الفنان البيك: "إن أعمالي تنبه إلى المآسي التي خلفتها الحروب الأميركية بدءا من موت وإصابة وتشويه ملايين البشر بعد إسقاط قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي عام 1946 وانتهاء بغزو العراق الذي خلف أعدادا لا تحصى من القتلى والمهجرين مضيفا ان هذه الأعمال تبين أن هناك قوى تملك الأسلحة المتطورة لغزو العالم واختلاق الحروب انطلاقا من مصالحها وليس بهدف نشر الديمقراطية أو حماية الإنسان، ورأى الناقد الفني الدكتور طلال معلا أنه يمكن قراءة أعمال البيك ضمن إطار فن الحدث بشكل عام وإطار التحولات التي تطول الفن في العالم حاليا بالتساوق مع تطلعات جديدة عن فنون معبرة عن الأحدث وقال.. إن القراءة الأولى لهذا النوع الفني تنفي الحالة الزخرفية والأيقونية من الفن للخروج إلى موقع يطول السياسة والأحداث واهتمامات الفن الأساسية التي خرجت شيئا فشيئا من محتواها العام لتصبح فنونا لها اهتمامات في المذاهب والمدارس التي تعاقبت على فن الحداثة بشكل عام فهذه الفنون تقطع العلاقة مع التاريخ ومع الماضي لتؤسس لفنون ما بعد الحداثة، ويضيف معلا إن ما يميز النوع الفني الذي يقدمه البيك هو الصلة مع المشاهد وإمكانية استخدام الميديا والصورة والحركة بمعنى أن هناك زمنا معاشا وليس زمنا افتراضيا كما في اللوحة أو المنحوتة يتم استعادته كوثيقة وبالتالي الوصول إلى موقف من خلال العمل سواء في الأعمال التي قدمها حول سرقة أميركا لبترول الدول أو موقفها من الحروب، فيما رأى الناقد الفني سعد القاسم أن معرض البيك يضم تكوينات بصرية تحيل الإنسان للتفكير باتجاه الآلات التي طغت على عصرنا وباتجاه بعض السياسات الموجودة في العالم ولاسيما سياسة أميركا الراعية والحاضنة لإسرائيل التي تحتل الأراضي العربية، وأشار القاسم إلى أن أعمال البيك استطاعت إدخال المتلقي بشكل غير مباشر من حيث كيفية العرض وطبيعة الإضاءة في حالة طقسية معينة لافتا إلى أن هذه الأعمال قد تبدو غريبة عن المشهد التشكيلي السوري إلا أنها مواكبة لتطور الفن التشكيلي العالمي.

وعلى الطرف المقابل تبرز مجموعة لوحات الفنان الضوئي نصوح زغلولة الذي استطاع إظهار البنية الجمالية للوحة الفوتوغرافية بالاعتماد على اللونين الأبيض والأسود حيث وصف زغلولة لوحاته الغرافيكية بالرحلة البصرية لتوضيح العلاقة بين الجسد الإنساني وحارات الشام القديمة وقال.. إنه لا يوجد فرق بين ضوء الإنسان وضوء الحارة الدمشقية ضمن كادر الظلمة النقية الذي يحيط بكل منهما، وأشار زغلولة إلى أنه حاول في كل لوحة من لوحاته إيجاد حوار بينها وبين المتلقي بالاعتماد على عنصر الضوء الذي يمثل المرأة والحارة الدمشقية في آن معا مضيفا.. إن جميع الصور الموجودة في المعرض التقطها عام 1985 حيث أعاد تجميعها باستخدام التقنية الحديثة التي سمحت له بإعادة صياغتها فنيا من جديد، ورأى الدكتور معلا أن هذه الصور الكلاسيكية القديمة التي أعاد فيها الفنان زغلولة ترتيب عناصره البشرية بدت وكأنها محشورة في الظلمة وهذا ما خلق منها موضوعا جديدا وأتاح بالتالي للجمهور قراءتها بشكل مختلف، وحول أحد أعمال الفنان زغلولة التنصيبية أوضح معلا أنها تمثل لحظة خشوع أو دقيقة صمت كما سماها أمام الوردة الدمشقية تعكس حالة من فقدان الأمل التي يحاول التعبير عنها وقال.. إن هذه الوردة التي هي مثال للزينة جعلها زغلولة مادة للرثاء بالاعتماد على خلفية من التصوير الفوتوغرافي لحارات دمشقية وامتدادا لخلفية حمراء للورود المسودة.

ورأى القاسم أن الفنان زغلولة اعتمد الجسد البشري كعنصر تشكيلي لبناء لوحة فوتوغرافية من خلال استخدام الإمكانيات المتعددة للتصوير والطباعة وقال.. إنه اشتغل على حالة من الترددات البصرية التي تشابه إلى حد كبير الإيقاعات الموسيقية وكأنه أراد رسم الموسيقا التي نسمعها دون أن نقرأها، وأضاف القاسم ان الفنان زغلولة استخدم في أحد أعماله التي تصور حارات دمشقية بعدا إضافيا من خلال التقدم باتجاه المتلقي عبر تنصيبه من الأزهار الصناعية في محاولة منه لكسر رتم التصوير الفوتوغرافي الذي استطاع إدخاله بصورة طبيعية ضمن معطيات الفن التشكيلي.

الحروفية العربية

من جانب اخر استمد الحروفيون السوريون إيحاءات أعمالهم من الأصول القديمة للحرف العربي وجددوا فيها فجاءت تجاربهم غنية متنوعة لكنها بقيت متناغمة معها في المزاوجة بين ضروب متعددة من الخطوط تخالطها وتوصل بينها أشكال لحروف مبتدعة تكسر من حدة المفارقة وتمهد لتجانس العناصر المختلفة ضمن تكوينات تأخذ حركتها عن طريقة واتجاه قراءة النص تأكيداً على الحركة الكامنة داخل الحروف وداخل التكوين العام، كما استفادوا مما يحمله الحرف العربي من رشاقة وحركة جمالية وقيم تعبيرية ووظفوه في لوحاتهم الفنية التي حملت قيماً فنية عالية حيث سعى عدد منهم للاقتراب في لوحاتهم من اللوحة التشكيلية من خلال الإفادة من النماذج الشائعة في الخط الكوفي الهندسي أو الكوفي الشطرنجي والنسج على منوالهما وبما يجرد الكلمة من معناها ويبقي على إيقاعها التكراري كلازمة زخرفية هندسية، بينما سعى آخرون إلى المزاوجة بين الصرامة الاتباعية للخط العربي وبين تجريدية الخلفيات التشكيلية له عبر مقدرة أدائية في الخط والرسم على حد سواء وسعى غيرهم لاتخاذ أبعاد تجريدية من الحرف مستفيدين من مقومات الخط العربي وأبعاده الفكرية والروحية، وقد ظهر الاتجاه الحروفي في التشكيل العربي مع حلول منتصف القرن الماضي من خلال اعتماد الحرف العربي كمفردة تشكيلية تؤدي إلى عمل فني عربي تشكيلي معاصر محدد الهوية ويملك إمكانية التطوير والتجديد، ومن المؤكد أن المحترف التشكيلي السوري يملك الكثير من التجارب الغنية لفنانين استطاعوا في إبداعاتهم المتنوعة واستخداماتهم المتعددة للخط العربي أن يسبقوا حركة الفن التشكيلي المعاصر في نزوعه إلى التجريد مستفيدين من قابلية الحرف العربي للمد والاستدارة والبسط والصعود والهبوط واللين في طريقة كتابته، وتتوزع تجربة اللوحة الخطية في سورية على ثلاثة أساليب اشتغل عليها الحروفيون السوريون حيث يرتكز الأسلوب الأول على وجود الكلمة في اللوحة دون أي معنى فلا تكون مقروءة ومثاله الفنان عبد القادر أرناؤوط الذي اعتنى بشكل الحرف وجماليته واستخدامه في اللوحة ومزج بين بعدين زمنيين للوصول إلى صياغة عمل تشكيلي يعكس رغبات التأصيل والتحديث بأسلوب يتجاوز الدلالات المقروءة حيث أعطى لجمالية الشكل والتكوين الفني الأهمية الأولى بغض النظر عن العلاقات القائمة بين الكلمات، ومن المشتغلين بهذا الأسلوب الفنان محمود حماد الذي تابع تجربة سلفه أدهم إسماعيل بأن اعتمد على تيارات الحداثة التجريدية وبنى عوالم لوحاته من منظوره الخاص ومن مناخ الحركة اللونية العفوية، أما الاتجاه الثاني الذي اشتغل عليه الحروفيون السوريون فكان يربط ما بين الشكل والمعنى مع استخدام عناصر وأشكال تشبيهية أخرى وأبرز رواد هذا الاتجاه الفنان عيد يعقوبي الذي دخل في عوالم ومعطيات الحركة الحروفية للخط العربي المغربي المأخوذ من المخطوطات القديمة حيث أعاد تشكيلها بتقنيات مختلفة وأوجد مكاناً وسطاً بين التجريد الحروفي والصورية إضافة إلى الفنان تركي محمود بك الذي اقترب من أجواء التشكيل الحروفي والزخرفي الهندسي بحيث تتحول اللوحة إلى حركات تتقاطع أفقياً وعمودياً بزوايا قائمة وتشكل فسحة لعناصر معمارية وحيوانية تحددها حركة الحرف ذاتها، في حين اتجه القسم الثالث من الحروفيين السوريين للمحافظة على الرسم الحقيقي والبنية الخطية للحرف العربي إلى جانب إعطائه حيوية وإشراقاً من خلال إضافة اللون ومثاله الفنان محمد غنوم الذي داخل بين الكلمات والحروف بدفق لوني حيوي مع الاحتفاظ بالدلالات المقروءة لبعضها، وسجل غنوم حروفياته في لوحات زيتية وقعت بين التجريد الهندسي الزخرفي والحروفي ثم استلهم جمالية الخطوط برؤية حديثة عبر تصعيد حوارية المشهد البصري وإبراز رشاقة الحرف وغنى حركته وانسيابيته، وفي تصريح لوكالة سانا يشير غنوم إلى أن الخط العربي مر بعدة مراحل حددت كلاسيكيته وخطوطه الموزونة بنقاط معينة بينت وأوضحت عرضه وامتداده والتفافه إلى أن حظي بنظرة متطورة تتواءم مع العصر وتستدعيه بدورها إلى البحث في جوانب تفجير الطاقات الجمالية للحرف العربي التي لم تكن تكتشف وتدرس عندما كان الخطاط قاعدياً كلاسيكياً همه اتباع القواعد والأوزان ويقول.. من أراد الاعتماد على الحرف العربي كاتجاه فني لتجربته فعليه أن يدرس ويلم بالقواعد والأسس الكلاسيكية للخط العربي قبل أن يشرع في تطوير تجربته وهويته الحروفية الخاصة، ويؤكد غنوم أن اللوحة الحروفية في سورية ولاسيما الخط الكلاسيكي قطعت أشواطاً مهمة شكلت من خلالها نكهتها الخاصة وقال إن الحروفية الحديثة بدأت ترسم ملامح خصوصيتها على يد الكثير من الفنانين الشباب الذين استفادوا من تجارب الرواد ومن الاتجاهات الفنية الغربية الحديثة، ووصف غنوم اللوحة الحروفية السورية بالنشيطة جداً لكون الحروفيين السوريين يشتغلون بمحبة للحرف العربي ويدركون التفاعل والحوار الحاصل بين اللوحة الحروفية والجمهور السوري.

كما يمثل الحرف العربي بالنسبة لعدد جيد من الفنانين السوريين المعاصرين قيمة فنية راقية يستعيدون من خلالها التراث ويحافظون على أنواع من الخطوط كما في تجربة الفنان منير الشعراني الذي يحتل الخط الكوفي عنده المرتبة الأولى في سعيه لإيجاد مناخات تشكيلية جديدة قائمة على مرتكزات ثابتة وبعيدة عن مزالق التشويه والمسخ مستعيداً بعض أنماط الخطوط الضائعة والعوالم الكتابية الصافية فامتلك المقدرة على تحريكها ضمن صياغة فنية حديثة قائمة على النسب الرياضية الهندسية الصارمة، وإذا كانت اللوحة الحروفية تتعرض للكثير من التساؤلات المتصلة بالمنجز الحروفي وصلته بالحداثة ولاسيما لجهة توسع استخدام الحاسب وإنتاج اللوحات الرقمية التي ابتعدت بالكتابة عن الدلالات المصاحبة لها وأفقدت الحروف العربية المكتوبة باليد جزءاً من روحها وجمالياتها فإن الحروفية ستبقى مواكبة للحياة وتلبي الحاجات الجمالية للناس وستبقى روح التجديد حاضرة طالما هناك باحثون وفنانون جادون في الخط العربي يهدفون للارتقاء به إلى الجمالية المبدعة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/كانون الأول/2011 - 11/محرم الحرام/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م