كتب المختصمون في الشأن القضائي الكثير من المؤلفات تجاه دعم
استقلال القضاء سواء على الصعيد المحلي أو العربي والدولي واجمع هؤلاء
على إن القضاء المستقل هو حق من حقوق الإنسان ولابد من دعمه وتأييده
لكي ينال كل مواطن حقه في وجود قضاء مستقل، وواحدة من آليات دعم
استقلال القضاء هو الدعم السياسي، والمقصود به دعم المؤسسات السياسية
لاستقلال القضاء، وهذا الدعم لا يقصد به كيل المديح للمؤسسة القضائية
وإنما طرح المشاكل التي تعاني منها ومعالجتها بالآليات الصحيحة، ومنها
إيجاد تشريعات تعزز من استقلاليتها.
وكنت قد أشرت في أكثر من مناسبة سواء بكتابة مقال او مقابلة
تلفزيونية إن السلطة القضائية في العراق نالت استقلالها حديثا ولابد من
دعم هذه الاستقلالية في إيجاد ما يعزز ويثبت ذلك الاستقلال، ومنها دور
المؤسسة التشريعية في سن القوانين التي تساعدها على مواكبة التحول
السياسي والاجتماعي في العراق في ظل دستور عام 2005، إلا إننا نجد بين
الحين والآخر إن بعض السادة من السياسيين يتهم السلطة القضائية ويشكك
في استقلالها دون أن يتبصر حقيقة الأمر أو يبحث في ما يتهم به الآخرين
وعلى سبيل المثال اطلعت قبل أيام على تصريح لفضيلة الشيخ صباح الساعدي
عضو مجلس النواب العراقي، عبر شاشة التلفزيون ومن المنبر الإعلامي
لمجلس النواب ووجه فيه الاتهام الى السلطة القضائية بأنها مسيسة ونعت
رئيسها بوصف الديكتاتورية وطلب إجراء انتخابات في السلطة القضائية
مستشهدا بواقعة قضائية تتعلق بوزير التجارة السابق السيد صفاء الدين
الصافي.
وهذا الاتهام لا يشكل الدعم الذي نتمناه للسلطة القضائية بل هو
إسهام في التنكيل والتسقيط الذي يؤثر سلبا على حق المواطن في إيجاد
سلطة قضائية مستقلة وما ورد على لسان فضيلة الشيخ الساعدي سأعرض له
كمثال مما ذكر في بعض وسائل الإعلام لأني على دراية بان فضيلته يسعى
دائما لنيل المواطن على حقوقه وانه اعلن في أكثر من مناسبة بأنه سيكون
صوت المواطن الذي لا يخشى في قول الحق لومة لائم ولأنه قريب من العمل
القضائي من خلال عمله في لجنة النزاهة البرلمانية سأتولى عرض ما ورد في
كلامه حتى نتمكن من الوقوف على الحاجة التشريعية التي لابد منها في
إصدار التشريع الذي يدعم السلطة القضائية وعلى وفق الآتي:-
1. جاء في تصريح سعادة النائب وصف نعت به رئيس مجلس القضاء الأعلى
بأنه (ديكتاتور) وان هذا القول تجني على كل منتسبي السلطة القضائية لان
الوصف بمعناه انعدام إرادة جميع أعضاء السلطة القضائية واختزالها بشخص
رئيسها وهذا مالا يقبله القضاة على أنفسهم لان لديهم شخصيتهم القضائية
التي يعتزون بها ولا يمكن أن يسمحوا لأنفسهم ان يكونوا بهذا الوصف ولو
أجهد سعادة النائب نفسه قليلا والاتصال بالقضاة لوجد ان القاضي لا يخضع
لهوى او ميل او ضغط، الا لما يظن به مقارب للحقيقة في ضوء الأدلة التي
تقدم أمامه من الخصوم كما سيجد ان السلطة القضائية فيها جهاز للإشراف
القضائي يعمل بدأب وجد في متابعة كل ما يخدش سمعة القضاء واستقلاله
وفيه من الأعضاء الذين لا يميلون إلا إلى الضمير القضائي وهو وازعهم
وفيهم من تقلد منصبه من خلال ما عرف عنه من مهنية وحرفية واستقامة
ويرأس الجهاز قاضي عرف عنه الإخلاص لضميره القضائي واعتزازه بشخصيته
القضائية التي بناها من خلال عمله المهني الذي يكاد يقارب العقد الثالث
من الزمن وهو صلب تجاه ما يعتقد وكثيرا ما تكون له وقفة تجاه ما يرد
إليه سواء من مجلس القضاء الأعلى أو رئيسه أو جهاز الادعاء أو الشكاوى
العامة من سائر الجهات والمواطنين.
وبذلك لا يمكن أن نجد ديكتاتورا على رأس السلطة القضائية بوجود
هؤلاء القضاة الذين يجتهدون في إيصالهم العدالة إلى كل مواطن في عموم
العراق فضلا عن رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي عضد شخصيته من خلال عمله
المهني في الاجتهاد القضائي وشهدت له الأحكام التي أصدرها والتي ساهم
في إصدارها، ومن يملك العلمية لا يخشى منه التفرد والدكتاتورية لأنها
لا تنموا إلا في الوسط الأمي أو البيئة الجاهلة والجميع يعلم ان الوسط
القضائي وسط متنور بنور العلم ومتوشح بوشاح العدل والاستقامة.
2. أما عن الآلية التي تعمل عليها السلطة القضائية ودعوة سعادة
النائب إلى إجراء انتخابات وسمعنا هذا القول لأكثر من مرة، فان الواقع
العملي يشير إلى أن العمل يجري على وفق أحكام قانون التنظيم القضائي
رقم (160) لسنة 1979 المعدل وهذا القانون كان قد صدر في ظل فلسفة قيادة
تؤمن بالشمولية وما زال نافذا حتى إن الإشراف القضائي ما زال يعمل
بموجب القانون رقم (124) لسنة 1979 ويحمل اسم الإشراف العدلي وليس
الإشراف القضائي ولم ترد في نصوص هذه القوانين أي أحكام تمنح الفرصة
لإجراء انتخابات في تقلد المناصب القضائية، وإنما المعيار المتبع ليس
في العراق حسب وإنما في جميع الدول، إن تقلد المناصب القضائية يختلف
كليا عن تقلد المناصب الإدارية والسياسية لان المنصب القضائي يحتاج إلى
تدرج زمني في ممارسة العمل القضائي ويحتاج إلى تراكم خبرة قضائية من
خلال ممارسة كل الأعمال القضائية في شتى المحاكم ذات النوع المختلف،
فضلا عن الالتزام بتقديم بحث يتم بموجبه إكمال مستلزمات الترقية من صنف
إلى آخر، وهذه جميعها تهدف إلى أن نضع القاضي الجيد في الموضع القضائي
الذي سيكون جهة مرجع للطعن في الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم
الأدنى درجة، لأنه سيكون ذو خبرة عالية تؤهله للاجتهاد تجاه تصحيح
الأخطاء في الاجتهاد القضائي للقاضي حديث العهد في العمل وبذلك نضمن
وصول العدالة إلى المواطن في ظل قضاء مستقل، وما دعا إليه سعادة النائب
كانت السلطة القضائية قد نادت اليه قبل سنوات عدة من اجل تحقيق قفزة في
العمل القضائي واقترحت عدد من مشاريع القوانين ذات الصلة بالقضاء الا
ان الدستور النافذ لم يمنحها فرصة اقتراح القوانين لأنه حدد المنافذ
بمجلس النواب والسلطة التنفيذية ومع ذلك الجهد الذي بذل من اجل إيصال
هذه المقترحات والمشاريع إلى قبة البرلمان من خلال أصدقاء القضاء
والساعين إلى دعم استقلاله وكان لسعادة النائب صباح الساعدي دور في
تقديم هذه المقترحات، إلا أنها ما زالت تراوح مكانها منذ الدورة
الماضية وحتى الآن وكنا نأمل في سعادة النائب صباح الساعدي ان يبذل
جهده نحو تفعيل عملية تشريع قوانين السلطة القضائية سواء قانون مجلس
القضاء الأعلى او المحكمة الاتحادية او الإشراف القضائي او أي قانون
آخر ذو صلة بالعمل القضائي.
3. تناول تصريح السيد النائب واقعة قضائية تتمثل بالاتهام الموجه
إلى وزير التجارة السابق السيد صفاء الدين الصافي وذكر في تصريحه إن
الاتهام قد اسقط بحق السيد الوزير وعد ذلك تسييس للقضاء. وكنت أتمنى
على سعادة النائب أن يتحرى الحقيقة من مصادرها وان لا يعتمد على ما
يذكر في وسائل الإعلام. لان التهمة لم تسقط ولم يغلق التحقيق بحق السيد
صفاء الدين الصافي وان القضية مازالت قيد التحقيق وان قرار محكمة
جنايات البصرة العدد (438/ت.ج/2011) في 3/11/2011 قضى بنقض قرار قاضي
تحقيق النزاهة في البصرة المتعلق بإصدار أمر القبض الصادر بحق الوزير
المذكور وعده سابق لأوانه لأنه لم يكمل تحقيقاته التي يقوم بها في جمع
وتحري الأدلة التي ذكرت في الإخبار الوارد إلى هيئة النزاهة عبر البريد
الالكتروني من شخص غير معروف الاسم وحتى لم تدون أقواله بوصفه مخبر سري
وهذا لا يتيح إصدار أمر قبض ما لم تستكمل كافة الإجراءات في سماع أقوال
المخبر وتحليفه اليمين وجمع سائر الأدلة الأخرى وهذا لا يتعلق بواقعة
السيد وزير التجارة وإنما على جميع من توجه له التهمة على وفق أعمام
مجلس القضاء الأعلى العدد في.
وبذلك فان قول سعادة النائب جانب الحقيقة لأنه اعتمد على ما قيل
إليه وكنت أتمنى أن يكون حاضرا في ذهنه وقت إطلاق التصريح قول الله عز
وجل في سورة الحجرات ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))
4. إن فضيلة الشيخ الساعدي حينما يعتلي المنبر الإعلامي لمجلس
النواب فانه لا يمثل شخصيته الطبيعية كمواطن سائر المواطنين وإنما يمثل
جميع المواطنين لأنه شخصية عامة لها حضورها السياسي والاجتماعي الفاعل
في الساحة العراقية ومازلت أظن فيه حسن النية وسلامة الطوبة تجاه ما
يقول وهو سعيه للتقويم والإصلاح وليس للتجريح أو الانتقام من خلال
إسقاطات الذات على الوقائع في ما حصل له مع القضاء فمثل له خصومة شخصية
تجاه المؤسسة القضائية، لانه كان ما زال عليه أن ينتقل من أجواء ذاتيته
إلى فضاء العامة من الناس وان يعمل على تحقيق مصالحهم والمحافظة على
حقهم في الحصول على قضاء عادل ومستقل وهذا ما أظنه في سعي سعادة
النائب، كما إن الاتهام بتسييس القضاء، فأرى بان الواقعة التي استشهد
بها سعادة النائب تنفي هذه التهمة وتردها، لان تلك الواقعة شكلت أكثر
من مسار ففي الفترة الأولى حينما صدر قرار ضد مصلحة السيد وزير التجارة
عد ذلك القرار انتصار للاستقلالية لأنه سار مع رأي البعض ضد السلطة
التنفيذية علما إن القاضي الذي أصدره هو جزء من السلطة القضائية وبذلك
كان القضاء غير مسيس، الا أن المتهم حينما مارس حقه في الطعن بالأحكام
والقرارات القضائية على وفق أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية ولان
محكمة أخرى أعلى درجة من محكمة التحقيق وجدت ان القرار فيه نقص وعوار
قانوني اوجب نقضه انقلب الأمر وأصبح القضاء مسيس، علما ان كلا الجهتين
هم جزء من السلطة القضائية ثم عادت محكمة التمييز وتدخلت في القرارات
ضد طلبات المتهم ولصالح الهيئة الاجتماعية فكان القضاء غير مسيس على
وفق رأي البعض من السياسيين.
وارى بان هذه الأحكام التي كانت بين أن تكون مع أو ضد مصلحة اي طرف
هو الوجه الناصع لاستقلال القضاء، لان الجهات التي أصدرتها كلها جزء من
السلطة القضائية وتعمل على وفق اجتهادها القضائي الذي يؤسس لمبادئ
العدل وتطبيق القانون بالشكل الصحيح. ولا يجد المراقب المنصف أي تسييس
على وفق ما جاء في تصريح سعادة النائب. فضلا عن الأحكام القضائية التي
صدرت ضد جميع الجهات مثلما صدرت لصالح لجميع دون أن يميز بين جهة وأخرى
وبإمكان المراقب أن يطلع عليها من خلال ما ينشر في موقع المركز
الإعلامي للسلطة القضائية.
في الختام أرى إن المناسبة التي دعت إلى كتابة هذه المادة ساهمت
كثيرا في طرح الحقائق التي لم تكن خافية على الجميع وان الحاجة ماسة
الآن إلى دعم السلطة القضائية في إصدار التشريعات التي تكمل استقلالها
المالي والوظيفي وعلى وفق المبادئ التي وردت في دستور عام 2005 لمواكبة
التحول الذي حصل في العراق وكذلك الحاجة إلى بذل الجهود وتركيزها نحو
دعم استقلال القضاء وادعوا الجميع بما فيهم سعادة النائب صباح الساعدي
إلى زيارة موقع المركز الإعلامي للسلطة القضائية او تشكيلات السلطة
القضائية للاطلاع على ما فيها من إجراءات إدارية تجاه العاملين في
السلطة وان الأبواب مشرعة ومفتوحة له وللجميع لأنها تؤمن بمبدأ
الشفافية في العمل وان يتمكن النائب من إعداد قناعاته تجاه ما يرد إليه
بحكم موقعه السياسي والاجتماعي على معلومات دقيقة تبعد عنه الحرج إن
وقع لا سامح الله. |