لماذا نحن بحاجة الى اليابان؟

زاهر الزبيدي

تشير الوقائع التأريخية لإمبراطورية السِلم، اليابان، ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد أن هناك تشابهاً نوعياً في الظروف السياسية التي مرت بها اليابان مع تلك التي مر بها العراق.. إلا أن اليابانيين كانت لهم القدرة الهائلة والسريعة على الانعتاق من آثار الحروب والانطلاق بثبات صوب المستقبل الذي يتصوره الجميع جلياً اليوم فيما وصلت له اليابان من رقي حضاري وأنساني وصناعي تكنلوجي تتوضح دقته في كل زاوية من زوايا منزلنا القديمة..

 على الرغم من أن اليابان، لمن لا يعرف، لا تمتلك أية ثروات معدنية كالنفط أو الغاز أو الكبريت، فهي ليست سوى 4000 جزيرة بركانية تمتد على شكل ارخبيل بطول 3000 كم والأراض الزراعية لديهم تمثل 20% فقط من مجموع مساحة الإمبراطورية !

إلا أن اليابان استثمرت وبشكل مبهر الثروة البشرية التي تمتلكها فأنتجت عقولاً منتجة مولدّة، ألفت من أجلها كتب كثيرة ويتحدث العالم بأسره عن تلك التجربة التي أثرت البشرية جمعاء بتلك الدقة المتناهية في التكوين والصنع...

اليابان عانت الحروب الأهلية وعانت الحصائر لمدة مائتي عام انعزلت عن العالم خوفاً من الحملات التبشيرية التي كانت تجوب العالم نشراً للديانة المسيحية ولعشرة سنوات طحنت الحرب الأهلية أهلها مع حروب العصر الحديث وحتى سقوط القنابل النووية الأمريكية واستسلامها ودخولها عصراً جديداً بدأت من خلاله المضي قدماً في تطويع مواردها البشرية التي أضفت على الحضارة الإنسانية نوعاً جديداً من الحياة والألق..

فشعب مثل شعب اليابان أصبح مضربا للأمثال حتى على لسان شعوب الدول المتقدمة وانبهار زوارها من كل العالم بتلك المثل العليا التي يتحلى بها الشعب الياباني من التعامل الشعب فيما بينهم وحسن ضيافتهم.. إمبراطورية هائلة من الأخلاق تصنع مجدها بقوة بعيداً عن الفساد الأخلاقي وخراب الذمم الذي يطال أغلب بلدان العالم.. وبالأخص العالم المسلم الذي تعمم بأرقى الأديان السماوية وهو غير قادر لغاية الآن على الخروج من الخوانق التي تعيق ظهوره بوجهه الناصع من جديد.. ليس لليابانيين دين واضح حين بدئت نهضتهم الحضارية بل كانوا بعيدين كل البعد عن الأديان السماوية إلا أنهم، الشعب والإمبراطور، آمن بأن لا يقوم إلا بالعمل الخير الذي يرضي ضميره ووطنه.

أحتلت اليابان المركز 19 في تقرير الشفافية الدولية من بين 178 دولة شملها تقرير 2010 مما يدل أن كل الأعمال التي تقوم بها تمتلك جانبها الشفاف بعيداً عن الفساد.. ونحن بحاجة جدية لليابان وحاجتنا تلك أكثر بكثير من حاجتنا لدول الجوار التي تعود بأموالنا، مليارات التبادل التجاري معها، لتستخدمه ضدنا وبأبشع الصور.. شقيقاتنا تلكم تحاربنا وبأموالنا أحيانا التي جعلت تتسرب من تلك الموازنات الكبيرة حتى لنشعر بأن اليابان أحق بتلك الأموال من تلكم الشقيقات العاقات لحق الأخوة والجيرة.

فلا أعتقد أن اليابان ستقدم لنا شيئاً غير الحضارة.. الحضارة التي يغلفها التمدن وحسن التصرف.. ففي أصعب الظروف التي تمر بها اليابان بعد تسونامي 2010 ولصعوبة موقعها في "حلقة المحيط الهادئ النارية" والزلازل التي تهز جزرها بين الحين والآخر إلا أنها صامدة بأخلاقها وأخلاق شعبها..

نحن بحاجة لليابان لنتعلم كيف نفسح المجال أمام الأخرين إذا ما انتابت خططنا أي أخطاء تسير بالوطن الى الهاوية أحياناً.. فكم من رئيس لوزرائها استقال وأخرهم كان في عام 2010 لعدم تمكنه من تلافي أمر الله (التسونامي الهائل) ! وكم من وزير انتحر خوفاً من الفضيحة ونحن الفضيحة عندنا تجلجل كالأفعى أمام حيطان الأحزاب بلا اكتراث منها.

نحن بحاجة لليابان لنتعلم كيف نصون أغنى الأوطان في العالم حضارة وثروات متنوعة وأديان وشواخص تأريخية وشعب صبور وأئمة وصحابة وأرض يخرج نباتها سهلاً لا نكدا.

نحن بحاجة لليابان لنتعلم منهم، بعد أن عجزنا وعجز عنا ديننا، كيف نصون الأمانات ونحفظ الحقوق ولا نعتدي على الحرمات وكيف ننظم أنفسنا في مواجهة التيارات المتلاطمة من السياسيين وكيف نضع الوطن في المرتبة الأولى والوحيدة في عملنا اليومي وكيف نقضي على الفساد الذي وصل اليوم الى لقاح الأطفال الأبرياء..

نحن بحاجة الى اليابان لنتعلم كيف نضع الخطوط الحمراء أمام التعصب القبيح الذي ما أنتج إلا قيح العذاب والحرمان والتخلف.. لنتعلم الصبر على الفقر وكيف ننتشل شعبنا من دائرة الفقر وكيف ننشي صناعة ستراتيجية بعيدة المدى تمتص البطالة التي عاثت بشبابنا.. وكيف نحافظ على عجائزنا لكون اليابان لديها أكثر نسبة من المعمرين في العالم..

نحن بحاجة لليابان لنتعلم كيف نرسم رؤيا لمستقبل الوطن بحرفية بالغة وكيف ننفق بجدية على الدراسات والتدريب والتركيز على تأهيل الكوادر البشرية وكيف نحرر قطاع الزراعة من تخلفه وتحقيق الاكتفاء الذاتي سريعاً وكيف نغرس القيم الأخلاقية المطلوبة لكل نهضة كبرى وكيفية التخلص من الترهل الكبير في مؤسساتنا بلا جدوى اقتصادية وكيف ننتج الأجيال أولاً من ثم الصناعات وكيفية الاهتمام بالحوافز وإيجاد الحلول السريعة لمشاكل العمال... اليابان اليوم إذا اقتدينا بتجاربها العملية والإنتاجية سنكون قد وضعنا قدمنا على الخطوة الأولى للتقدم وقد تطول المسافة حتى نصل ولكننا حتماً سنصل يوماً ما.. عسى أن لا يكون بعيداً؟

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/تشرين الثاني/2011 - 26/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م