قراءة في كتاب: مملكة البيت السعيد

الشخصية الروائية في رواية

 

 

 

 

الكتاب: مملكة البيت السعيد

الكاتب: حنون مجيد

الناشر: دار فضاءات في عمان

عدد لصفحات: 242 قطع متوسط

قراءة: علي حسين عبيد

 

 

 

شبكة النبأ: مملكة البيت السعيد عنوان رواية جديدة صدرت عن دار فضاءات في عمان 2011، مؤلفها قاص وروائي عراقي معروف، حنون مجيد، خلق شخصيات روائية عديدة، من الصعب أن تغادر ذاكرة القارئ بعد أن ينتهي من قراءة الرواية، السبب في ذلك كما أعتقد، أن الشخصيات العديدة التي انطوت عليها – مملكة البيت السعيد- لها وظائف مختلفة ومتداخلة في آن، صوَّرت مرحلة مهمة من تأريخ العراق .

 هذا يدل على أن حنون مجيد لم يخلق شخصية من هذه الشخصيات من دون أن يعرف مسبقا ما هي وظيفتها؟، خلافا لبعض الطروحات النقدية الحديثة أو سواها، تلك التي تحدثت عن النص الروائي المفتوح ووضعت له أطرا لا نهائية، فقيل في توصيفه أنه لا يقبل التخطيط المسبِق، استنادا الى لحظة الكتابة وما تنتجه من مسار كتابي غير محدد سلفا، هذا التأشير الواضح، لا يعني أن هذه الرواية حجَّمتْ نفسها في واقعية الاحداث العراقية الجسيمة، بل هناك دلالات تتوامض في نقاط واضحة من النسيج السردي، تشي بخيال راق تمكن من مزج الوقائع بالرؤى المتخيَلة، في لغة (رسمية) كثيرا ما كسرت حدودها لتبلغ قمة التأثير في قارئها، وأعني برسمية اللغة، أنها تتمسك بإصرار واضح بقواعد النحو، لدرجة أن حنون مجيد يحرص لمرات عديدة على وضع العلامات في وسط أو نهاية مفردة هنا او أخرى هناك.

ويبدو أن هذا التمسك بلغة كهذه مخطط له أيضا، فجسامة الاحداث العراقية وجفافها وقسوتها الحادة، فرضت على المؤلف خيار اللغة – الرسمية- والشيء المثير حقا أن هذا المسار الفني لم يتقاطع مع وظائف الشخصيات التي خلقها المؤلف على نحو متنوع ومثير ايضا، فالملكة وهي الشخصية الاولى في – مملكة البيت السعيد- إمرأة متمردة صاخبة تعيش حياتها من دون محددات اجتماعية، تشرب الخمر متى تشاء وتمارس هذا الطقس على نحو يومي، كما أنها تستقبل في مملكتها رجالاً يتمتعون بأصناف راقية من النساء، وفي الوقت نفسه، تختار ما تشتهي من الرجال ليمارسوا معها الجنس قبل أن تقرر الاكتفاء برجل واحد: (منذ الليلة قررت الملكة قرارا جديدا.. أن تأتي برجل رجل، زوجا أم عشيقا، يأكل ويشرب ويستجيب الى دعوتها كلما أطربها صوت، أو أخذت بها نشوة سكر) ص29، إنها امرأة نزوات بلا حدود كما يمكن وصفها، ولذا نتوقع أن يأتي خلق هذه الشخصية بلغة متمردة ايضا، لأنها النسيج اللغوي الذي يمكن أن يتسق مع التمرد والانفلات، لكن ما يحدث أن لغة حنون تبقى كما هي، منضبطة، وهي تعالج شخصية منفلتة، هذا يعني أن المؤلف لم يضحّ بخياره اللغوي المسبق، كما أنه لم يفشل في ترسيم الوظيفة الروائية لشخصيته الاولى هذه، حيث ترمز الى واقع مكبوت مقنن بسياسة الحروب والحصارات والممنوعات التي لا تسمح بالتمرد الظاهري على السلطة، فتلجأ الى نوع آخر من التمرد، هو التمرد الخفي، أو ما يحدث خلف الجدران، كفعل مضاد لكبت سياسي ظاهري وخفي في آن. بمعنى أوضح حدد المؤلف وظيفة واضحة لشخصية روايته الاولى الملكة، هذه الوظيفة هي فضح المستتر الاجتماعي والسياسي وغيره، وهذا الفضح ينفلت في حدود مملكة – شقة- تتحرر بصورة منفردة من الضوابط السياسية والاجتماعية، كرد فعل على الكبت والحرمان والتجهيل المتعمّد، كل هذا ينبني بلغة ليست متمردة، ومع ذلك يتصاعد تأثيرها في المتلقي عبر مشاهد وشخصيات ثانوية مثل شخصية الفتاة الصغيرة مريم، حيث تسمو اللغة على الرغم من شدة انضباطها وتمنح القارئ دفقا متواصلا من الانفعال العاطفي، وشيئا فشيئا تتضح لنا وظيفة هذه الشخصية ايضا، إنها الحلم القادم والمشوّش في آن، فهي صورة باذخة للجمال المأمول، ولكنها تشي بمستقبل غائم غير محدد بملامح واضحة.

في مسار آخر هناك شخصيات ثانوية أخرى لها وظائفها أيضا، نجح المؤلف في خلقها، بمعنى أوضح، لم أجد إقحاما لشخصية ما، في رواية مملكة البيت السعيد، ولم يضطر حنون مجيد على الرغم من سعة المساحة الروائية (242 قطع متوسط) الى ملء النسيج السردي بشخصيات مهلهلة، هناك شخصية (شاكر/ صالح) وهي شخصية تنطوي على إشكالية الايهام والتنكر لماض مميت، وظيفة هذه الشخصية تصوير الحروب، وهي وظيفة شاقة تتطلب لغة دامية لا تقترب من الانضباط والرسمية، ينجح حنون مجيد مع هذه الشخصية مثلما نجح في شخصية الملكة، الحروب نراها ونعيش فداحتها، وهي وظيفة تم إلحاقها بشخصية (شاكر في الماضي/ صالح في الحاضر) ونقرأ هواجس وأفكار المقاتلين، يقول صالح محدثا صديقه الجندي السابق أبا ليث: (لعلك تتذكر إصابتك في قدمك اليمنى وإطلاقك سؤالك النافذ الحار: حقا لماذا نحن هنا، ثم ماذا تحقق لنا وماذا حققنا حتى الآن؟) ويضيف قائلا: (كنا قتلة وملوثين بقدر ما كان خصمنا كذلك، وأبرياء ومقودين بقدر ما كانوا هم كذلك، لم نكن على شاكلة ذلك المثل القائل: اذا تصارعت الفيلة فالعشب هو الضحية.. كلا.. كنا ذئابا تتقاتل والدماء تسيل والضحية نحن) ص117، وتزدوج وظيفة شخصية أبي ليث صاحب الدكان المقابل للمملكة، لتفضي لنا بأحلام المقاتلين سابقا، القابعين راهنا في هامش الحياة، فما ضاع في جبهات القتال، يضيع اليوم في اتون الزمن المقتول الذي تتم تزجيته عنوة في فسحة مكانية زمنية حسيرة، هو عبارة عن دكان صغير وزمن عقيم يعيش على اجترار الامنيات، يقول ابو ليث عن الحرب:

(أخيرا انتهت، لكنها لم تتحول الى مزحة كما قد يقال عن اشياء أُخر، كانت بؤسا متصلا وقهرا وعذابا غاشما.. ولعلك إن سألت ساذجا عن معنى الحرب، لما قال لك غير الموت) ص114، ويضيف ابو ليث قائلا لنفسه في استذكار آخر للحرب: (على مدى سنوات من الحروب الخروج منها برجل معطّلة واحدة، ربح لا يساويه ربح) ص128.

أما شخصية المحامي فقد اتسمت بالاتزان والتحليل والاستنتاج، وكانت وظيفتها إتمام النسيج العلاقاتي في جلسات الخمر التي كانت تعد متنفسا لاستنهاض ذاكرة الحروب والحصارات معا، إن وظيفته قارئ أفكار من الطراز الاول. ومن الشخصيات الروائية المهمة شخصية الروائي صاحب المكتبة التي تدخل ضمن الاطار المكاني للمملكة، فوظيفة الروائي معروفة وهو يدون روايته التي اعطاها عنوانها داخل المتن ايضا حين سمّاها (مملكة البيت السعيد)، إنه يرقب ويترصد ويدون كل شاردة وواردة، خاصة ما يتعلق بالملكة، وما يدور في عوالم مملكتها، باعتبارها صورة لواقع ملتبس ينمو ليتهشم، ولشد ما أغاض الروائي الملكة بصمته وجديته وانهماكه في تدوين الوقائع والحقائق معا، وكانت تهمله احيانا، ولعل أجمل ما نهضت به هذه الشخصية تلك الاوراق التي تطايرت من مكتبته باتجاه بيت الملكة لتعثر عليها ويقرأها لها خادمها المطيع يوسف في أمسيات جميلة، كما نقرأ ذلك في ص 91.

إن مملكة البيت السعيد، تجسد الالتباس واللاسعادة في بيت أكبر وواقع أكبر، ينتهي بشخصياته الى الموت او الضياع، ولا فرق كبير بينهما، الملكة تنتحر، الفتاة ريم وهي صورة الحلم المأمول تذوب في المجهول، صالح الذي حاول أن يرمم حياة ما بعد الحروب تم اغتياله في وضع ملتبس ايضا، يوسف خادم الملكة يفر بأموالها الى جهة مجهولة، أبو ليث والمحامي يواصلان العيش في هامش الحياة، هكذا تبدو وظائف الشخصيات منفصلة ومتداخلة في آن، لتقدم للقارئ رواية حياة تزخر بالحروب والحصارات.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/تشرين الثاني/2011 - 25/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م