الفدرالية لم تعد خيارا نخبويا في العراق

د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

في عام 2005 أكمل المشرعون في العراق صياغة مسودة الدستور النافذ في هذا البلد، وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات التي ترافقت مع هذه العملية إلا أن المسودة أبصرت النور بعد أن صوت إلى جانبها أغلبية الشعب العراقي وهو ما عد في حينه انتصارا حقيقيا لشعب خرج لتوه من عباءة الاستبداد ووقع تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، ويواجه إرهابا دمويا غذته أطراف داخلية وإقليمية.

وهذا الدستور هو أول دستور شعبي حقيقي في تاريخ العراق، حرص مشرعوه على جعله مختلفا تماما عن الدساتير التي سبقته منذ عام 1925 ولغاية عام 2003 من حيث طبيعة الدولة وشكل الحكم فيها ومساحة الحقوق والحريات الممنوحة للعراقيين، فقد تحول العراق وفقا للدستور الجديد من دولة بسيطة إلى دولة مركبة تتبنى صيغة الاتحاد الفدرالي، وهذا ما أكدت عليه المادة الأولى من الدستور التي ورد فيها (جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراق)، ثم جاءت بقية مواد الدستور لترسخ المنهج الفدرالي في الحكم من حيث اللغات الرسمية المعمول بها في البلاد (م 4)، وكون الدستور الجديد نافذا في كل أنحاء العراق ولا يجوز سن دستور إقليمي يتناقض معه (م 13)، وتحديد مؤسسات الحكم الاتحادي: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية (م 47، م48، م 65، م89)، والهيئات والمجالس الاتحادية (م 105، م 106، م107)، وكيفية توزيع الاختصاصات بين الحكومية الاتحادية وحكومات الأقاليم (م 110، م 111، م 113، م114، م115)، والآليات الدستورية لتكوين الأقاليم الجديد في الدولة الاتحادية الناشئة (م 118، م119، م120، م121).

 ولكي لا يدع المشرع الدستوري الباب مشرعا للجدل حول قضية احتمال أن يكون النظام الفدرالي نافذة لتقسيم العراق، فقد حسم هذا الجدل في المادة 109 التي نصت على أن (تحافظ السلطات الاتحادية على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي(لتكون كل رغبة أو دعوة داخلية للانفصال عن العراق أو تأسيس حكم لا ديمقراطي غير دستورية وخاضعة إلى طائلة العقاب والمنع من قبل السلطات الاتحادية وبكل الوسائل المتاحة. إلا أن التصويت الشعبي لصالح دستور 2005 في الوقت الذي فتح الباب لنفاذه القانوني، فأنه لم يغلق باب الجدل الساخن جدا حول منهجه الفدرالي، إذ عملت جهات عدة على تصوير الفدرالية على أنها مشروع (أمريكي – صهيوني) جديد يتناغم مع مشاريع قديمة هدفها تقسيم العراق والمنطقة تحت عبارة تجزئة المجزئ أو تقسيم المقسم في إشارة إلى اتفاقية سايكس – بيكو المشهورة، أو أنها مشروع (عراقيو الخارج) على حساب مصلحة (عراقيو الداخل)، أو أنها المشروع الكردي المفروض على العراق بحكم الاحتلال والتوازنات السياسية الجديدة التي تميل لمصلحة الكرد، أو أنها مشروع شيعي طائفي على حساب سنة العراق.. لقد وصلت حدة العداء للفدرالية حدا خطيرا ومؤلما إلى درجة أن مجرد التلفظ بها يكفي إلى اتهام الشخص بأفظع الاتهامات غير الوطنية ويعرضه إلى أبشع العقوبات بما فيها التصفية الجسدية من جهات تنتمي إلى مختلف المكونات الاجتماعية العراقية.

مشروع فدرالية الجنوب

إن خطورة الحديث عن الفدرالية على المستوى الشعبي جعلت الخوض فيها أمرا نخبويا تمارسه الكتل السياسية القادرة على مواجهة أعدائها وإلحاق الأذى بهم إذا أرادوا مهاجمتها، لذا كانت أولى الدعوات لتأسيس إقليم جديد في ظل دستور عام 2005 هي تلك التي أطلقها المجلس الإسلامي العراقي الأعلى الذي يقوده اليوم السيد عمار الحكيم، عندما صرح عن رغبته بتأسيس إقليم الجنوب ليضم المحافظات العراقية الشيعية التسع جنوب بغداد، وعلى الرغم من الحجج والمبررات التي قدمها قادة ودعاة المجلس الأعلى دعما لمشروعهم إلا أن المشروع لم يكتب له النجاح بسبب اتهامه بالبعد الطائفي، والعمالة لأجندات خارجية، وتقسيمه للعراق، ومحاولة احتكار مصادر القوة والنفوذ الاقتصادي والسياسي. مما دفع دعاة المشروع إلى الشعور بالإحباط والتراجع عن حماستهم التي قدموا بها مشروعهم، وشيئا فشيئا اختفى الحديث عن هذا المشروع ولم تعد القوى السياسية ووسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية تركز عليه.

مشروع إقليم البصرة

يعد القاضي وائل عبد اللطيف واحدا من القيادات السياسية الشيعية المرموقة في العراق، وقد عمل بعد الاحتلال الأمريكي للعراق تحت مظلة الائتلاف العراقي الموحد (ائتلاف شيعي)، قبل أن يخرج عليه ويعتمد النهج السياسي المستقل، وقد طرح مشروع إقليم فدرالي جديد في العراق اسماه (مشروع إقليم البصرة) وبشر بمشروعه هذا خلال عامي 2008 و2009 مستفيدا من النصوص الدستورية التي اقرها دستور 2005 فيما يتعلق باستحداث الأقاليم الجديدة، ونجح فعلا في الحصول على موافقة عشر الناخبين في البصرة مما أهله إلى عرض المشروع على مجلس الوزراء العراقي لإجراء استفتاء للناخبين في البصرة عليه، ولو صوتت أغلبية الناخبين البسيطة في البصرة على هذا المشروع (استنادا للمادة 131 من الدستور) لكان المسرح السياسي الشعبي والرسمي اليوم مضطرا إلى التعامل مع البصرة كثاني إقليم في العراق بعد إقليم كردستان، لكن الهجوم الكبير الذي شنه خصوم عبد اللطيف على المشروع كونه يشكل إجهاضا لمشروع إقليم الجنوب، أو لوجود الأجندة الخارجية الإقليمية وراءه، أو محاولته سلب المبادرة السياسية من قوى سياسية معروفة، أو خنقه للعراق من خلال التحكم بسلة غذائه النفطي، أو عدم قناعة بعض المكونات السياسية لاسيما ذات المنطلق السني والصدريون بالفدرالية ورغبتهم المعلنة بالتحول عنها من خلال تعديل الدستور، كل هذه الأمور مجتمعة أجهضت المشروع ولم تسمح له أن يبصر النور.

الفدرالية كخيار لمعالجة إخفاق الحكومة الاتحادية

لم يلبث مجلس محافظة البصرة كثيرا بعد مشروع القاضي عبد اللطيف حتى بادر بعض أعضائه إلى الخروج من تخندقهم الأول ضد مشروع إقليم البصرة، فبدأوا يعلنون رسميا من خلال وسائل الإعلام أن الواقع المزري طويل العهد لمدينتهم أصبح خارج قدرة الحكومة الاتحادية على معالجته، وان الضغط الشعبي الهائل الذي يتعرضون له من ناخبيهم يطالبهم بتحسين الخدمات الحكومية وإصلاح البنية التحتية المهدمة، وهو أمر لا يكون إلا من خلال استقلال البصرة إداريا واقتصاديا عن الحكومة الاتحادية لتكون إقليما مستقلا تحت الخيمة الاتحادية العراقية، وقد توالى تزايد أصوات أعضاء المجلس حتى وصل إلى العدد المطلوب دستوريا، واليوم يوجد طلب رسمي لم يبت به من مجلس محافظة البصرة أمام مجلس الوزراء الاتحادي للسماح بإنشاء إقليم البصرة. فضلا عن مشروع إقليم البصرة تعالت الأصوات من بعض قيادات مجلس محافظة الكوت تطالب بإنشاء إقليم جديد في المحافظة، كما أن مثل هذه الأصوات يتردد صداها في الساحة السياسية لمحافظات بابل وديالى والانبار والموصل وغيرها.

أعداء الأمس يتحولون إلى مدافعين أشداء

شكلت المحافظات ذات الأغلبية السنية الحاضنة الأولى والطبيعية للدعوات المعادية للفدرالية لا يضاهيها في حدتها إلا الصدريين الشيعة، لأسباب معروفة تتعلق بحلم العودة إلى الدولة العراقية البسيطة المتعارف عليها منذ الاستقلال، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء فيما يتعلق بمسألة السلطة، والخداع السياسي المضلل الذي مارسته عليهم القوى الإقليمية العربية الرافضة للتغيير السياسي القائم في العراق بعد عام 2003، والأمل المعقود على الحكومة الاتحادية في بغداد في أن ترتقي بمستوى أدائها إلى الحد الذي يعالج كثيرا من مشكلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وانعكاسات الصراع بين مكوناتها الاجتماعية المختلفة لاسيما مع المكون الكردي، كل هذه العوامل منفردة ومجتمعة وبمستويات مختلفة جعلت هذه المحافظات كالإسفين في دولاب الحركة للقاطرة العراقية التي أرادت السير على منهج الفدرالية لبناء عراق الغد القادر على تجاوز ويلات الحروب الماضية والإرهاب والصدمات الاجتماعية التي سببها الاستبداد والتعصب وانغلاق الأفق الفكري.

 لكن مع توالي السنين، وتراكم الخبرة، وانفتاح الأفق، والاعتراف بالأمر الواقع، بدأت بعض القيادات السياسية في هذه المحافظات تتناغم مع النصوص الدستورية التي رسخها دستور عام 2005 بما فيها توجهه الفدرالي، وبروز قيادات وطنية فيها تحارب الإرهاب والقاعدة وتحرص على أن يكون لها دورا سياسيا معترفا به وفقا لقواعد اللعبة السياسية المعمول بها بعد عام 2003، بل وصل الأمر إلى أن يقوم مجلس محافظة صلاح الدين بأغلبية 25 من 28 من أعضائه بإعلان محافظتهم إقليما إداريا واقتصاديا مستقلا ضمن العراق الفدرالي ومطالبتهم حكومتهم الاتحادية بتفعيل الآليات الدستورية المطلوبة لاستكمال مشروعهم، وهذا الأمر يشكل تطور لافت للنظر يحسب لصالح العملية السياسية في العراق.

أخطاء سياسية قاتلة

في الوقت الذي كان يجب أن ينظر إلى إعلان مشروع إقليم صلاح الدين من القوى السياسية الحكومية وغير الحكومية نظرة ايجابية، إلا أن ضيق الأفق السياسي وانعدام الرؤية الإستراتيجية دفعت الكثير من المتنفذين في الحكومة الاتحادية وعلى أعلى المستويات إلى التعامل مع الموضوع بشكل ارتجالي غير مدروس، فمرة يتهمون دعاة المشروع بالانسياق وراء رد الفعل العاطفي على قضية الاقصاءات والعزل بحق الأكاديميين في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العاملين في صلاح الدين، ومرة ثانية يقولون انه إقليم طائفي للسنة، ومرة ثالثة يتكلمون عن احتمال جعل الإقليم ملاذ آمن للبعثيين والجماعات الإرهابية المحلية والدولية، هذا في الوقت الذي حاول بعض صناع القرار في البلد رشوة مجلس محافظة صلاح الدين بالوعود والعهود بعلاقة أفضل بين الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية..

 إن ردود الفعل المستعجلة هذه ترتكب أخطاء قاتلة بحق المسيرة الديمقراطية الوليدة في البلدة، إذ عند مناقشة بعضها نكتشف ما يلي:

فيما يتعلق بقضية كون مشروع إقليم صلاح الدين هو ردة فعل عاطفية على فعل مسبق من الحكومة الاتحادية أليس الحقائق التاريخية تثبت أن التجارب الفدرالية الناجحة غالبا ما كان إنشاء الأقاليم والولايات فيها ناتجا عن ردود الفعل على الحكومات الاتحادية التي تعيق رغبات الحكومات المحلية بالمزيد من الصلاحيات لتنهض بدور اكبر في خدمة الناخبين والمواطنين ضمن نطاقها؟

 أما اتهام المشروع بكونه ذا بعد طائفي فما الذي يمنع الطوائف من التعبير عن رغبتها في أن تكون لها أقاليم خاصة بها ضمن الحدود الإدارية لمحافظاتها إذا ما احترمت دستور البلاد وعملت على ضوء نصوصه كافة؟ ثم أن محافظة صلاح الدين اليوم شأنها شأن كافة محافظات العراق الأخرى ليست ذات لون طائفي وقومي واحد، بل هي متعددة الألوان، وقد سبق أن تم التعامل مع مشروع إقليم البصرة وفقا للآليات الدستورية على الرغم من أنها محافظة ذات أغلبية طائفية معينة، لذا كان ينبغي بصناع القرار أن لا يكون لديهم ازدواجية وكيل بمكيالين مختلفين عند تعاملهم مع رغبات ومبادرات الحكومات المحلية، وفيما يتعلق باتهام المشروع بكونه سيكون ملاذا آمنا للإرهابيين والبعثيين فهو من اكبر الأخطاء القاتلة لأنه يعكس عدم ثقة المسئول السياسي بشعبه، ومعاناته المستمرة من عقدة البعث وصدام والماضي، إذ كان المفروض بممثلي الحكومة الاتحادية والقيادات السياسية الرسمية وغير الرسمية أن تتصف بمستوى عال من انفتاح الأفق السياسي لبناء حكم كفوء ومستقر متحرر من عقد الماضي وجاذب لمختلف مكونات الشعب للتفاعل الايجابي مع البناء الديمقراطي الذي يشاد صرحه في العراق بألم ومعاناة وتحديات هائلة.

نتائج مثل هذه الأخطاء على مستقبل العراق

ربما يحلم السياسي في الحكومة الاتحادية بتراجع مجلس محافظة صلاح الدين عن مشروعه من خلال الاتهامات الموجهة إليه وتعزيز دور الحكومة الاتحادية على حساب الحكومات المحلية مع إعطاء بعض الصلاحيات الموسعة لهذه الحكومات، لكن مثل هذا الحلم لن يطول على أصحابه قبل أن يستيقظوا ليكتشفوا أنهم لم يكونوا على صواب في الاستغراق فيه، بعد أن تمر الأيام دون ارتقاء الحكومة الاتحادية بمستوى أدائها في ظل أزمة فساد مالي وأداري جعلت العراق في المراتب الأولى بين دول العالم فسادا، وعدم قدرة المركز على تفعيل دور الحكومات المحلية وهو ما اعترف به رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في لقائه الأخير مع مجالس المحافظات عندما قال: إننا نرغب في توسيع صلاحيات المجالس لكننا لا نعرف كيف ذلك؟، واندفاع محافظات الانبار وصلاح الدين والموصل بتأثير فشل مشروع إقليم صلاح الدين واتهامه بالبعد الطائفي، وسياسة الكيل بمكيالين إلى تنامي الشعور الطائفي فعلا لديها وربما التنسيق فيما بينها لتعلن نفسها إقليما موحدا متخندقا طائفيا اتجاه الحكومة الاتحادية، فيكون ما تخشى منه الحكومة الاتحادية وتسعى لدفعه هو ما تقع فيه وتندم عليه مستقبلا مع فسح المجال للتدخل الخارجي الإقليمي والدولي، في حين أن التعاطي الايجابي مع مشروع إقليم صلاح الدين سوف يفعل عمل النصوص الدستورية، ويقنع من رفضوا الدستور ابتداء بكونه ملاذهم القانوني الأنجع للعمل في الساحة السياسية العراقية الجديدة، ثم أن وجود إقليم صلاح الدين قد يحفز الموصل والانبار وغيرها من المحافظات إلى تشكيل أقاليم جديدة لكنها ستكون أقاليم إدارية وليست طائفية محضة، تعمل على تجاوز إخفاقات المركز في خدمة الناس، وتقلل في الوقت ذاته من ثقل الأعباء والمسؤوليات الملقاة عليه ليتفرغ إلى الاهتمام بالقضايا ذات الشأن السيادي للعراق.

كلمة أخيرة

أن ما تشهده الساحة السياسية للعراق اليوم يمثل تطورات ايجابية تحتاج إلى قيادات كفوءة وعلى مستوى المسؤولية لتلمح بذكاء هذه التطورات وتحولها إلى برامج عمل تصب في مصلحة البلد، فلأول مرة منذ سقوط نظام صدام حسين تتنافس مكونات العراق الاجتماعية المختلفة وفقا للنصوص الدستورية، وتتحول هذه النصوص من نصوص نخبوية ينحصر الكلام والعمل فيها على نخب سياسية معينة في قمة الهرم السياسي إلى نصوص تنزل إلى المستوى الشعبي الراغب بتجاوز الماضي، وتحسين الخدمات، وبناء البنية التحتية، ومعالجة الفساد، والبطالة، وسوء التوزيع، وغياب العدل. ومثل هذه البيئة قد تتعكر بفعل الحماقات السياسية غير المحسوبة، لذا هي بيئة تحتاج إلى من يستغلها لبناء نظام حكم ديمقراطي كفوء ومستقر في العراق.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

khalidchyad@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21/تشرين الثاني/2011 - 24/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م