ما رحل رسول او شارف على الرحيل الى جوار ربه الا ونصب من يلي
الامر بعده او اوصى به، ومن هذا المنطلق خاطب القرآن؛ النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم في الآية الكريمة (يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من
ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) وذلك لان الله
تعالى لن يدع امر المسلمين فوضى بعد رسوله الاكرم، بل نصب لهم وليا
وقائدا.. في اليوم الذي تمت به النعمة واكتمل فيه الدين (اليوم اكملت
لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)، يوم الغدير آخر
البلاغات السماوية واهمها، (وان لم تفعل) اي ان لم تبلغ (فما بلغت
رسالتك) اي الرسالة غير مكتملة، لانها وفقا لهذا المعنى بحاجة الى راع
وهاد ومسؤول يحافظ عليها وينميها ويمتلك القدرة والشجاعة على مواجهة
تحدياتها، وبذلك لا بد من شخصية قيادية متكاملة تجتمع فيها الخصال
والقدرات التي تؤهل للعمل والتصدي.
لذا فلا اختلاف على ان بيعة الغدير جمعت بين الامامة والخلافة،
امامة الامة والخلافة؛ القيادة الدنيوية.. وكان الخيار الالهي للبيعة
ما تجسد في مناداة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم لمبايعة علي
عليه السلام.. !
وفي ذلك يقول شاعر عهد الرسالة حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم***بخم واكرم بالنبي مناديا
يقول له قم يا علي فانني***رضيتك من بعدي اماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه***فكونوا له انصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهم ! وال وليه***وكن للذي عادى عليا معاديا
الوصية بالخلافة اذن كانت في التكليف والتصدي بتحمل المسؤولية على
كل المستويات، فالامام علي عليه السلام رغم انه لم يحظى بالخلافة بعد
وفاة النبي الاكرم الا انه كان في حينها امام امة المسلمين لا اميرها..
واستمر اماما حتى توليه الخلافة وما زال اماما للمسلمين واميرا الى
يومنا هذا.. اماما استعان به الخلفاء الذين سبقوه في الامور الروحية
والدنيوية.. حتى قال فيه الخليفة الثاني لولا علي لهلك عمر، وما زال
اماما واميرا ينهل من فيض علمه وتجربته الخالدة التي مزجت بين ولاية
امر الامة روحيا وارشاديا وقيادة امر المسلمين وشؤونهم الدنيوية، ذوي
العقل والحكمة على مر التأريخ، لان في المرحلة التي استلزمت تولي
مسؤولية القيادة والتصدي للامور الدنيوية وبعد ان تحقق اجماع الامة،
ضرب الامام علي (ع) اروع الامثلة في احداث التوازن الذي افتقدته الامة
الاسلامية منذ آواخر عهد النبي بين امامة الامة وقيادة الدنيا.
يقول الامام: أأقنع من نفسي بأن يقال هذا امير المؤمنين، ولا
اشاركهم (اي الرعية) في مكاره الدهر او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش..
هكذا ينظر الامام من قيادة الدنيا الى رعيته ليعلم الحكام من بعده بأن
الحكم ليس وسيلة للاستمتاع بملاذ الدنيا، ولا اداة للتميز عن الآخرين
في مظاهر الحياة وزينتها او للترفع عن الرعية او صناعة الاحجبة التي
تحول بين الطرفين (الحاكم والمحكوم)، انما هو مسؤولية وخلافة تصل حد
مشاركة المستضعفين همومهم.
لذا لا بد من استحضار القيم والضوابط التي حكمت عملية تكليف الامام
علي (ع) لخلافة المسلمين وربطها بالحاضر، لان واقعة الغدير موجودة في
كل حاضر سياسي ولكل البلدان، اما في عراق اليوم فان درس الغدير البليغ
يتجسد على اكثر من مستوى:
• القيادة السياسية: المطالبة بالتصدي للمسؤولية في الدعوة الى
توحيد كلمة الامة وقت شتاتها، وضرب المثل في المبادرة الى انهاء الخلاف
السياسي ووأد الاختلاف بين مختلف المكونات السياسية، ذلك الخلاف الذي
طال حتى اصبح هو الاساس والاتفاق هو الشواذ.
• القوى السياسية: مطالبة بتقديم الرجل المناسب في المكان المناسب
وسحب الغير مناسب ممن في مواقع المسؤولية حاليا، وذلك اعتمادا على
الكفاءة والنزاهة والاخلاص والمهنية وتقديمها على معايير الولاء
والانتماء وغيرها من المعايير الضيقة في ترشيحها للمناصب الوزارية او
في مجالس المحافظات او اية مناصب ادنى، لان القيادة قدوة وصفات وليست
تميز او ميزات وامتيازات.
• الشعب: مثل كل وقت مطالب باختيار الاجدر ومبايعته وانتخابه لخدمة
المجموع، وبما ان لا انتخابات قريبة او في المدى المنظور؛ بل قد تكون
هناك استفتاءات او استطلاعات رأي حول الاقاليم؛ فان الشعب مطالب في هذا
الوقت بمبايعة العراق الواحد لا الاقاليم المتعددة.
هذا هو نهر الغدير لجميع العراقيين من سياسيين وغير سياسيين ولامة
المسلمين ينهلوا منه كيفما شاءوا وانما شاءوا.. دون توقف، في كل زمان
ومكان.. لانه لا ينضب ابد الدهر. |