يلمس كل من يقرأ حركة التاريخ وتطور الشعوب والمدنيات والحضارات، أن
انتقالة أمَّةٍ من واقع سيء نحو الأفضل يجيء في أغلب الأحيان على يد
رجالها الذين هاجروا البلد طوعا أو كرها وعيونهم شاخصة إليه وقلوبهم
معه وسيوفهم على ظالميه، فما من عاقل يرغب في الهجرة الطوعية وهو يجد
ملاذه الآمن في بلده بين أهله وأحبائه، كما أنه ليس من الحكمة أن يقبر
المرء نفسه في بلد يحاصره الحاكم من كل جانب ويسعى لأن يقص جناحيه
ويقتص منه ويكتم عليه أنفاسه.
بيد أن الحكمة كل الحكمة أن يجد المصلح موطئ قدم في بلد آخر يتحرك
من خلاله لإنقاذ أمته من شرور الحاكم المستبد، إن أعوزته الحيلة للبقاء
في مسقط رأسه، ليسعد ويهنأ شعبه من حيث أن عزّ الأبناء من جهاد الآباء،
والأمثلة ليست بقليلة على هذا المدعى، هكذا كانت سيرة أبي الأنبياء
إبراهيم الخليل في العراق، وهكذا كان موسى الكليم في مصر، وهكذا كان
محمد الحليم في الجزيرة العربية، فهجرة المصلحين أتت أكلها ولو بعد حين
رغم مرارة العيش وضنك الأيام وقساوتها.
والعراقيون الذين توزعوا في المنافي والمهاجر منذ العقد السادس من
القرن العشرين حتى يومنا هذا، هم نموذج حي للرحلة القسرية أو الطوعية
النضالية التي أثمرت بعد حين ببزوغ فجر جديد، لا يسير فيه المواطن في
شوارع المدينة وأزقتها وحواريها خائفا يترقب، يلتفت عن شماله مرة وعن
يمينه أخرى خشية رجل الأمن، وقد مرّ رجال العراق الحديث بهجرات عدة،
توزعت بين القسرية والكرهية والطوعية، ومن أبرزها هجرة ما بعد انهيار
النظام الملكي عام 1958م، وهجرة ما بعد انهيار نظام عبد الكريم قاسم
عام 1963م، والتهجير القسري في العام 1969م، والهجرات المتوالية من بعد
عام 1979م وهي السنة التي تولى فيها صدام حسين الحكم حتى انهياره عام
2003م، ولعل أهمها هجرة عقد الثمانينات وهجرة ما بعد حوادث عام 1991م (الإنتفاضة
الشعبانية)، وهجرة ما بعد السقوط في 9/4/2003م.
ومن الطبيعي أن هجرة نصف قرن تخلق جيلا شابا جديدا على احتكاك
بالمدنيات والحضارات التي يتواجد على أرضها، ويكاد يكون العراقيون هم
الأكثر شعوب العالم المتوزعة في كل أنحاء العالم، فما من بلد إلا وفيه
عراقيون، ولتقادم سنوات الهجرة، فإن الموت زرع لهم في كل مدينة مقبرة.
وقد كشف انهيار نظام صدام حسين عن بروز ثقافة خاطئة وخطيرة إلى سطح
المجتمع كانت كامنة تحت أحجار الترقب والحذر تجعل مائزاً بين العراقيين
أنفسهم، حيث انتقلت ثقافة التمييز من التفريق بين عراقيي القرية
والمدينة في السبعينات إلى عراقي المدينة الحديثة والمدينة القديمة (الولاية)
في الثمانينات والتسعينات، إلى التمييز بين عراقيي الداخل والخارج في
مطلع الألفية الثالثة، وتطورت إلى وضع الفواصل بين مهاجري الثمانينات
ومهاجري التسعينات، ثم راح يتعزز التمييز الظالم بين مهاجري ما قبل
السقوط وما بعده، وراحت بعض الحركات السياسية التي طفحت إلى السطح
السياسي العراقي بعد عام 2003م إلى النقر على هذا الطبل لدوافع نفسية
رمادية محبوسة في الصدور، أو لأسباب انتخابية، وربما لأغراض حواسمية
مختلفة الصور والأشكال، متأثرة وفق شعور داخلي غير منظور بالثقافة التي
سادت في عهد صدام حسين، وربما عن سابق إصرار، وهي الثقافة التي جعلت من
المهجَّر قسريا أعجميا عن العراق، والمهاجر كُرها غير وطني، والمهاجر
طوعا خائنا، فلم يسلم أي عراقي خارج العراق من تهم النظام، فصارت حدود
العراق الداخلية العلامة الفارقة بين الوطني واللاوطني!
ولا يخفى أن الملايين من العراقيين في خارج العراق هم ضحايا نظام
لا يرى الحق إلا مع نفسه والثلة التي يحكم بها رقاب الناس مشفوعا ببعض
رجال دين أسبغوا على أفعاله اللاوطنية الشرعية، وحتى إذا ما انهار
النظام راحت هذه الثقافة تظهر هنا وتفلت هناك على ألسنة وفعال أناس
ربما كان بعضهم من ضحايا سياسة النظام أيضا، لكن الثقافة هي من أصعب
الأمور تلقينا لشرائح الأمة وإذا ما تعششت في الأدمغة تصبح وبخاصة
السيئة منها من أصعبها إخراجا، ولهذا فربما يتصرف المرء خلاف ما يرغب
من حيث يدري أو لا يدري بفعل ثقافة خاطئة درج عليها خلال عقود من الزمن
تسربت إليه وتسربلت بين تلافيف لا وعيه، ومن هنا كانت رسالة الأنبياء
رسالة إصلاح للنفوس واجتثاث للثقافات الخاطئة ولم تكن رسالة قتل النفوس
واجتثاث الأرواح وقطع الأرزاق تحت دعوى ومزاعم الإجتثاث.
فليس من المعيب الاعتراف بوجود ثقافة داخل قطاعات من المجتمع
العراقي تفرق بينهم على أساس القرية والمدينة والولاية والداخل والخارج،
فهذا إبن ولاية وذاك لفُوَّة (دخيل)، وهذا إبن البلد وذاك مهاجر!، كما
ليس من المعيب الإقرار بان ثقافة كره الآخر التي أشاعها النظام البائد
وحرمان الشعب من الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة، نجحت في خلق
ستار عازل بين العراقيين أنفسهم في داخل العراق وخارجه، لكن بانهياره
تصدع هذا الجدار، لكن المشكلة في وجود عناصر تعمل على الترويج لهذه
الثقافة الخاطئة مكملة عن قصد وغير قصد لرسالة صدام التبعيضية وإحياءاً
لثقافته التجزيئية التي جعلت من العراقيين أيدي سبأ.
وبالطبع لا يمكن تحميل ثقافة صدام العبء كله، فثقافة الاجتثاث
والاستئصال التي روج لها البعض بدواعي ثورية أو ثأرية ساهمت في عدم
تصدع كامل لهذا الجدار، كما أن الشعب العراقي الذي أسكنه النظام في قبو
التعتيم وحرمه من الاتصال بالعالم الخارجي، عاش تغييبا حقيقيا عن
الجهود الكبيرة والمضنية التي بذلها العراقيون في خارج العراق طيلة
أربعة عقود لتعريف العالم والمنظمات الدولية بمعاناة الشعب العراقي،
وبخاصة جهود العراقيين في البلدان الغربية ذات التأثير المباشر على
القرار الرسمي والدولي.
فكم من العراقيين في داخل العراق يعرف أن لندن خلال عشرين عاماً
وحتى عام سقوط النظام، كانت تشهد في شهر ابريل نيسان من كل عام تظاهرة
كبيرة تجوب شوارع لندن للتعريف بالعنف الذي يمارسه النظام البائد بالضد
من الشعب العراقي!
وكم من العراقيين يعرف أن ساحة الطرف الأغر وسط لندن شهدت خلال سبع
سنوات متواصلة اعتصاما عصر كل يوم سبت تحت شمس صيف لندن الحارقة وبرد
شتائها القارص، من اجل التعريف بمظلومية الشعب العراق وظلم النظام
البائد، واستمر الاعتصام 333 أسبوعا وانتهى في 9/4/2003م، وشاهده 30
مليون سائح من كل أنحاء العالم، وكان المعتصمون، وبعضهم الآن في الحكم،
يتقاسمون طعام الإفطار في شهر رمضان المبارك!
وكم من العراقيين يعرف شخصية مثل الدكتور صاحب الحكيم، رئيس منظمة
حقوق الإنسان وسفير السلام العالمي، حيث كان يتأبط ملفات حقوق الإنسان
يطوف بها حول العالم متنقلا بين العواصم حاملا روحه على كفه للتعريف
بقضية الشعب العراقي وكشف الانتهاكات الخطيرة التي كان يمارسها النظام
بالضد من الشعب العراقي بكل أطيافه!
وكم من العراقيين في داخل العراق اطلع على حجم النشاط السياسي
والإعلامي الذي بذلته الحركات السياسية بمكاتبها وصحافتها وتحركها في
أروقة البرلمانات ومكاتب المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، للتعريف
بالبؤس الذي كان يعيشه العراقيون، ودوائر الظلم التي كانت تطوق رقابهم
وتحسب عليهم سكناتهم!
وهناك الكثير من النشاطات السياسية والاجتماعية والإعلامية التي
مارسها العراقيون في بريطانيا ولا زالوا، فضلا عن النشاطات الكثيرة في
فرنسا وسويسرا وهولندا وألمانيا وأميركا والدول الاسكندنافية وسوريا
وإيران واستراليا، وغيرها من دول العالم، فالعراقي أينما حل وارتحل
يحمل معه همّ العراق وهموم المواطنين، وهو مشروع وطن وبناء، ولا أعتقد
أن الشعب الألماني بأفضل من الشعب العراقي فكلنا من آدم وآدم من تراب،
حيث هدّم الألمان في الشرقية والغربية جدار برلين فيما يصر البعض على
ترميم جدار العزل اللاوطني!
إن سياسة التجهيل التي مارسها إعلام النظام البائد تجاه العراقيين
في خارج الوطن، والجهل الذي يمارسه البعض لإحياء الميت من الثقافات
الجاهلية، يحمّل العراقيين في خارج العراق مسؤولية جديدة لتعريف
العراقيين الذين غيبتهم الثقافة التبعيضية بالدور الكبير الذي لعبه
إخوانهم في تقريب ساعة الخلاص من النظام البائد، وقد آن الأوان
للفعاليات المختلفة في المهجر، والكثير منها اليوم في سدة الحكم، أن
تشمِّر عن ساعد الجد وتوثِّق نضالات المهاجرين، من أجل خلق جسور
التواصل وتعريف العراقيين في داخل العراق بما كان يقوم به إخوانهم في
المهجر، حتى لا يقال أن العراقيين في الخارج جاءوا للحكم على طبق من
ذهب، وأنهم كانوا يعيشون في بروج عاجية!
كما لا يمكن أن يوضع اللوم كله على كاهل العراقيين إذا ما جهلوا
نضالات ومعاناة إخوانهم في الخارج، فالمهاجرون يتحملون الجزء الأكبر من
هذا الجهل والتجهيل، بلحاظ أنهم قبل غيرهم يدركون أن الشعب العراقي كان
يعيش تحت حصار إعلامي أُضيف إليه الحصار الإقتصادي، إلى جانب كوبونات
النفط التي كان النظام يوزعها على الدوائر الإعلامية غير العراقية لخلق
سياج من التضليل الإعلامي يصب في صالح النظام يزيد من تجهيل الشعب
العراقي، ويحجر عليه التواصل مع إخوانه المهاجرين.
من هنا، فإن من الخطوات المفيدة من أجل تنوير العراقيين على طريق
إزالة آخر لبنة من جدار العزل اللاوطني، وقطع الطريق أما قطاع الحقائق،
بأن يصار إلى تأسيس مراكز دراسات ونشر في كل عاصمة من عواصم المهجر،
تقوم بعملية توثيق للجهود التي بذلت من أجل العراق وشعبه، وجعلها في
متناول يد العراقيين في داخل العراق وخارجه، وفي الوقت نفسه يصار إلى
إنشاء مراكز دراسات وتوثيق لنضال العراقيين في الداخل، ومن ثم تزويد
المراكز البحثية والمكتبات العامة في العراق بهذه الوثائق، فالأمة التي
لا توثق نضالاتها ولا تحفظها للأجيال ستُنسى بعد حين، فالتغافل عن
سنوات المعاناة وعدم التذكير بها يساهم في تدهور الذاكرة النضالية، مما
قد يوقع الأمة في دوامة جديدة من الظلم والتيه. مجلة المهجر(52)- لندن. |