أيام قليلة تفصلنا عن موعد الانسحاب الأمريكي من البلاد حسب
الاتفاقية الموقعة بين الحكومتين العراقية والأمريكية، وسط صورة مشوشة
عن الوضعين السياسي والأمني، فبعد هذا الفاصل الزمني يفترض ان اغلب
القوات الأمريكية قد غادرت مواقعها في العراق وسلمتها الى قوات عراقية،
وقد بدأت المؤشرات تدل على ان الحكومتين الأمريكية والعراقية تبحثان عن
صيغة جديدة لوجود مدربين أمريكيين تحت تسمية واطر قانونية مقبولة لدى
الجانبين.
من جانبها تصر الولايات المتحدة الأمريكية على منح جنودها الباقين
لغرض التدريب حصانة قانونية (والتي تعني بشكل عام إعفاء ما تبقى من
القوات الأمريكية من أي التزام أو مسؤولية، كإعفائهم من تطبيق القواعد
العامة في المسائل القضائية والجنائية، وذلك في حالة الادعاء عليهم
بارتكاب جريمة ما).
حيث طالب رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي (مايك مولن)
طالب الجانب العراقي خلال زيارته لبغداد مطلع شهر آب الماضي بضرورة
توفير حصانة قانونية للجنود الأمريكيين وان يتم المصادقة عليها في مجلس
النواب في حال بقاء جزء من القوات الأمريكية بعد 2011 وهو أمر يجد
صعوبة بالغة في قبولها من قبل اغلب الكتل السياسية، وكان العراق
والولايات المتحدة قد وقعا اتفاقية الإطار الإستراتيجية، وتنص هذه
الاتفاقية الموقعة بين بغداد وواشنطن في نهاية تشرين الثاني من العام
2008 على وجوب أن تنسحب جميع قوات الولايات المتحدة من جميع الأراضي
والمياه والأجواء العراقية في موعد لا يتعدى 31 كانون الأول من العام
القادم 2011.
أما الشأن السياسي العراقي الداخلي فلا يخفى على أي متابع حالة
التذبذب التي تسوده في اغلب الجوانب وحالة الصراع الساخن بين الكتل
السياسية العراقية الحاكمة فهي مسالة مهمة في ما بعد الانسحاب وتأثيرها
على الوضع الداخلي، وبشكل عام تشير التحليلات الى أن معظم تلك القوى
تتمنى في الإبقاء على قسم من القوات الأمريكية في العراق غير إنها
تتخوف من إعلان موقفها بصورة رسمية خوفا من فقدان ثقة قواعدهم
الانتخابية كونها قوات غير مرحب بها شعبيا، وهم وفقا لهذا المنطق يضعون
عدة مبررات لهذا التواجد منها:
أولا: الفراغ الذي يخلفه مغادرة هذه القوات والذي قد يسمح بتدخل
إقليمي مباشر لصالح أحزاب وكتل سياسية معينة ضد أخرى وتحولها الى
دكتاتورية الحزب بدل دكتاتورية الفرد، وتغليب طائفة معينة على حساب
طوائف أخرى.
ثانيا: التخوف من توسع سطوة المليشيات المسلحة والسيطرة على المشهد
الأمني بشكل يمهد للسيطرة على مساحة العمل السياسي بشكل كبير.
ثالثا: فراغ الأجواء العراقية من الغطاء الجوي وسهولة اختراقها من
قبل طائرات تجسس او لتنفيذ عمليات إرهابية بشكل مشابه لسيناريو 11
سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.
رابعا: الخشية من خضوع القوات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية
لحزب معين وتسخير تلك القدرات لتصفية الخصوم السياسيين والتدخل للتأثير
على نتائج الانتخابات المستقبلية بشكل او بآخر.
خامسا: عدم وضوح الرؤيا لكثير من القضايا العالقة والتي قد تسبب
تفجرا طائفيا او قوميا خصوصا في المناطق المتنازع عليها والمادة 140 في
الدستور.
سادسا: عدم اكتمال تشكيل الحكومة الحالية وفراغ أهم منصبين هما
وزارتي الدفاع والداخلية.
سيناريوهات ما بعد الانسحاب؟
النظرة العابرة للوضع العراقي تظهر خلاصة تكاد تكون غريبة نوعا ما
وكأن القوات الأمريكية جاءت إلى العراق لتموت وتنفق المليارات من أجل
تحقيق أهداف يكون المستفيد الأكبر منها إيران بشكل يعطي بلد مثل العراق
على طبق من ذهب ثم تنسحب دون وضوح لإستراتيجية واضحة مع العراقيين بل
ان العدد المحدد للمدربين الأمريكان يكاد يهدده غياب الحصانة التي يرفض
العراقيون منحها لهم حتى الان، مع احتمالية تدفق تركي في شمال العراق
في أي لحظة تراها مناسبة لملاحقة حزب العمال المعارض، ناهيك عن المشاكل
العالقة مع الكويت جنوبا وما سينتج عن بناء ميناء مبارك الكويتي ووضع
الحدود التي يعتبرها العراق جرت بطريقة ارضائية للجانب الكويتي وتحت
وضع عراقي متهالك في زمن النظام السابق:
1- حكومة المركز وقوة النفوذ:
إحدى الاحتمالات التي يمكن أن تسود المشهد العراقي هي زيادة سطوة
قوة المركز وخصوصا في وضع امني يمكنها من استخدام قيادات العمليات
المنتشرة في اغلب المحافظات والتي ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة
شخصيا وهو رئيس الحكومة، والتي تعتبر في حالة الأوضاع الأمنية الحرجة
هي القيادة الفعلية للمحافظات حيث يمكن أن تكون هذه التشكيلات اليد
الطولى لحكومة المركز بالسيطرة على مفاصل مهمة في اغلب المحافظات إن لم
تكن جميعها، إضافة إلى إن اغلب مجالس المحافظات وخصوصا الوسط والجنوب
بوضعها الحالي يكاد يكون تابع لنفس القائمة الانتخابية لرئيس الحكومة
او بعض الكتل المتحالفة معه وهو ما يمكن الحكومة المركزية من إيجاد
أكثر من منفذ لبسط نفوذها بشكل كبير.
2- نشوء فدراليات محددة:
التخوف من الاحتمال الأول قد يدفع بالبعض من المحافظات خصوصا
الغربية منها والتي ترى بان النظام السياسي الحالي يمثل حالة ليست
متوافقة معه بشكل او بآخر، فبدأت في الآونة الأخيرة تتحدث بصوت مسموع
عن اللجوء الى فكرة الأقاليم التي ترى فيها ملجأ أخيرا للهروب من وضع
سياسي أصبح واقعا لا مناص منه بعد 2003 وعليها أن تتعايش معه بطريقة او
بأخرى، فلكي يحاول البعض إعطاء محافظته حصانة معينة من نفوذ الحكومة
المركزية بدأ يفكر بإيجاد حائط صد حيث يرى بعض المحللين ان بقايا
النظام السابق ستحاول استثمار فكرة الاقاليم لإيجاد ملجأ آمن لها خصوصا
بعد ان تصبح يد الحكومة المركزية حرة بعد انسحاب القوات الأمريكية وخلو
الساحة.
3- عودة المليشيات وتفكك التشكيلة الحكومية:
السيناريو الأخير في هذا الصدد هو انهيار الحكومة المركزية وتحول
العراق إلى فوضى شاملة ومما يضع هذا الاحتمال في سلسلة التوقعات هو
الوضع السياسي المتشنج والمربك وفقدان الثقة بين الكتل الرئيسية
المشكلة للحكومة والمناكفات السياسية المتصاعدة بين اكبر كتلتين
فائزتين في الانتخابات التشريعية الأخيرة (العراقية ودولة القانون)
فانسحاب اي طرف من الحكومة يعني شلل حقيقي سيصيب الدولة العراقية، بحيث
تتحول إلى مناطق متفرقة تسيطر عليها العشرات من الجماعات المسلحة
التابعة للقاعدة او لبقايا النظام السابق من عسكر وبعثين أو للمليشيات
بحيث يتمزق العراق إلى كانتونات يستحيل معها إقامة دولة من أي نوع،
وهذا أيضًا سيحوِّلها إلى مرتع لكل جماعات وعناصر الإرهاب من كل
الأطياف وهو أمر شديد الإزعاج لأمريكا.
ورغم هذه الصور المتعددة للوضع العراقي فان اغلب المحللين السياسيين
يرون بان الوضع سيشهد تحسننا ملحوظا بعيد الانسحاب رغم ان هزات متكررة
قد يحاول البعض العمل على إحداثها من خارج الحدود او من الداخل، إلا ان
المؤشرات تدل على ان السيناريو الأول هو المرجح للصعود بالمشهد العراقي
خصوصا بعد التماسك الواضح في التحالف المتراس للحكومة (التحالف الوطني)
والذي بدا في الآونة الأخيرة أكثر انسجاما في قراراته ووضوحا في تعاطيه
مع شخصية رئيس الوزراء وخصوصا الكتلة الأكبر منه والشريحة الشعبية
الواسعة ( التيار الصدري) والذي يعتبر في هذه المرحلة من أقوى حلفاء
الحكومة حيث يعتبر الصدريون ان تقوية الحكومة العراقية امرا مهما لسد
أي حجة بوجه المطالبين ببقاء أي قوات أمريكية في العراق تحت اي مسمى،
وهو يرسل لرئيس الحكومة إشارة خضراء شديدة التوهج بأنه سيكون قريب منه
في مواجهة أي أزمة مستقبلية بعد رحيل الأمريكان.
أضف الى ذلك الترتيبات التي جرت بين حكومة المركز وحكومة الإقليم في
كردستان وهدوء التوتر بشكل كبير وهذا يعني اتفاق ضمني على إيجاد جبهة
موحدة في الأيام المقبلة ضد أي محاول للتمرد سواء المسلح او الانفصال
بشكل غير قانوني.
فيما تبقى القائمة العراقية غير واضحة المعالم في تشكيلتها النهائية
فمنها من يرفض إقامة الأقاليم بوضعها الحالي ومنها من يرى بان إعطاء
الحكومة المركزية سلطات اكبر من حجمها سيعيد الدكتاتورية من جديد بمسمى
آخر، غير إن بقاء هذه القائمة على تماسكها الى نهاية المطاف أمر مشكوك
فيه خصوصا بعد الاختلاف الحاد في أمر مفصلي كطبيعة التعامل مع الحكومة
المركزية.
وفي كل الأحوال فان احتمالات التشظي وايجاد مناطق خارجة عن سيطرة
الحكومة المركزية هو أمر يكاد يرفضه الأغلب الأعم في الداخل العراقي
وهو على ما يبدو أمر بعيدا الحدوث او التحقق حتى وان جرى الحديث عنه
علنا من قبل جهات او مجالس محافظات معينة، غير ان حدوثه يكاد يكون صعب
المنال في الوقت الحالي على اقل تقدير.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com/index.htm |