التفتيش... من فلكلور الحاضر العراقي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لم تفارقنا مفردة التفتيش في حياتنا يوما، أول تفتيش تعرفنا عليه وكنا صغارا هو التفتيش المدرسي اثناء الدوامين الصباحي والمسائي.. للتفتيش رهبة انغرست في ذاكرتنا الغضة المبللة بشقاوات الطفولة.. لم نكد نفارق احضان امهاتنا، بالكاد افترقنا عنها، وجدنا انفسنا في محيط من عشرات الصغار امثالنا وعدد من الكبار والضجيج. الصغار اقران لنا نلتقي بهم للمرة الاولى واحيانا نعرف بعضهم جيران او اصدقاء او اقارب، الكبار هم المعلمون والمدير والمعاون وساعي المدرسة.

كانت عائلتي تسكن احد اقضية العراق الشهيرة..المعلمون والادارة هم اصدقاء والدي الذين يجتمعون كل ليلة معه في حديقة دارنا.. حين احمل لهم الماء او الشاي او صحون الرقي كنت انادي كل واحد منهم (عمو)... في المدرسة لا احد يعاملني كحامل اقداح عزيز.. وكنت اناديهم استاذ.

في اليوم الاول وفي درس الحساب وجه لي صديق والدي (عمو – استاذ) عباس صفعة أدارت راسي.. لم استطع كتابة الرقم ثلاثة على السبورة.. في الفرصة الزمنية بعد درس الحساب تسلقت جدار المدرسة هروبا الى دارنا.. لم يغضب والدي من صديقه وعلمني كتابة الرقم ثلاثة.

كان الاباء تلك السنوات يقولون للمعلمين (خذوهم لحما واعيدوهم عظاما).. تلك ايامنا الدراسية الاولى التي لا تشبه ايام ابنائي، الاصطفاف في ساحة المدرسة صباحا كان مرعبا ومملا وكريها.

البرد يلفح وجوهنا وأيادينا الممتدة لتفتيش الاظافر، العصا حين تسقط على اصابعنا المتجمدة من البرد كان ألمها ممضا وحارقا..او صفعة مدوية على الرقبة لأصحاب الشعر الطويل، ندخل الصفوف ويبدأ التفتيش من جديد.. هذه المرة على واجباتنا البيتية... من كتب ومن لم يكتب واجبه... العقوبة تاخذ منحى آخر، الوقوف على قدم واحدة امام الطلاب وانت تدير لهم ظهرك بمواجهة الجدار، او عدد من الضربات على اليد بعصا الرمان، هل يكفي هذا؟ لديك واجب بيتي اضافة الى الواجب الجديد.

في ذاكرتي الطفولية اذكر تفتيشا من نوع اخر، كان ذلك بداية السبعينات وكان احد المعلمين في دارنا.. كان هو وأبي يرقبون المساحة الخالية من البناء بين دارنا ودار الصديق عمو قاسم، اثنان من الشرطة يطرقان باب داره للسؤال عنه.. كنت استمع لحديثه مع والدي.. كانت يومها حملة للقبض على من خرج في مظاهرة لمنع اعتقال احد الشيوخ الأجلاء في ذلك القضاء الشهير، افتش في ذاكرتي عن حوادث أخرى للتفتيش.. لا أتذكر.. هذا لا يعني انها غير موجودة بل ربما لم تكن مهمة بالنسبة لي بعد الاعتياد عليها.

في مراحل الدراسة المتوسطة التفتيش يكتسب طابعا واسباب اخرى.. في تلك السنوات يفتشون عن السكائر في الحقائب والجيوب.. او عن المدخنين في دورات المياه او الاماكن البعيدة عن انظار الادارة.

كثيرا ما تلجأ الادارات الى المخبر السري ويكون مجموعة من الطلاب وظيفتهم مراقبة الطلاب المدخنين او المشاغبين، أضيفت الى التفتيش وظيفة أخرى وهي المراقبة.. والاثنان يقودان الى المعاقبة.. وهما ما نشأ بسببهما السجن كما يتتبع ذلك ميشيل فوكو في كتابه الشهير (المراقبة والمعاقبة.. ولادة السجن).

اعود الى موضوع التفتيش حيث اندلعت الحرب العراقية الايرانية، كنا طلابا في المرحلة الثانوية، وكنا نعتقد اننا سنكون في منجاة من ان نكون وقودا لها.. ترسب او تنجح يجب عليك الدخول عبر هذه البوابة الجهنمية.. وفعلا انتهت سنوات الدراسة واصبحنا جنودا في فيالق الموت والجنون، التفتيش هذه المرة يختلف عما تعارفنا عليه.. رغم ان الاصطفاف اخذ تسمية اخرى وشكلا اخر وهو (التعداد).

الاسباب اختلفت هذه المرة او انها لم تكن اسبابا بقدر ما كانت عادة وروتين عسكري يجب ان نمر من خلاله كل صباح.. والصباح هنا لا اعني به صباحات المدارس او الدوائر المدنية، بل صباح مجازي، فهو في حقيقته فجر لا زال مبللا بالنعاس ورطوبة الملاجيء.

كنا نستيقظ قبل شروق الشمس وكانت عصا رئيس عرفاء الوحدة تقرع ابواب القاعات والمهاجع، التفتيش على المتأخرين في النهوض.. التفتيش على ترتيب الاسرّة والاغطية ونظافة القاعات والغرف، في ساحة العرضات، التفتيش على حلاقة الذقن، وصبغ البسطال، والبدلة الخاكي، وعلى البندقية.

في اجازتك الدورية لا يفارقك التفتيش، في الشوارع او البيوت.. تفتيش على الهاربين.. تفتيش على مزوري الاجازات العسكرية.. تفتيش على المتخلفين عن الخدمة الالزامية.

في تلك السنوات اندلعت حمى التفتيش.. كل شيء اصبح اكثر خوفا ورعبا.. كنت اخبيء مجموعة من الكتب وانوي نقلها الى بيتنا الجديد غير المكتمل البناء.. ألقت بها والدتي في التنور، وهي التي لا تعرف القراءة والكتابة واحرقتها.. حدس الامومة والخوف على الابناء أشعرها بان هذه الكتب قد تأتي بالمشاكل.. بعد تلك الحرب وحرب تحرير الكويت اصبحنا نسمع عن تفتيش جديد.

التفتيش على اسلحة الدمار الشامل.. وفرق التفتيش الدولية وهانس بليكس وغيرها وغيرهم.. وسمعنا عن تفتيش القصور الرئاسية وعن مقرات الحزب والمواقع الحساسة.. عمليات التفتيش تلك قادت الى حرب جديدة والى بواعث للتفتيش اكثر جدة.

ازدادت اعداد السيارات في العراق وتقلصت مساحات الشوارع.. اختفى التفتيش عن الهويات والبطاقات المدنية واصبح التفتيش عن الاسلحة والمتفجرات.

دخل السونار بهيبته عند نقاط التفتيش قبل ان نكتشف هذه الهيبة المزيفة.. لكن من يحمله لا يصدق انها هيبة مزيفة.. منحه جهاز السونار سلطة جديدة ومصدر قوة لا ترحم.. سيارة بعد اخرى يجب ان تمر من امام الجهاز العجيب وحركة الاقدام يجب ان تكون ذات ايقاع خاص..وضع استعداد ثم تقديم القدم اليمنى ورفع الجهاز بصورة مستقيمة مع الحزام.

جميع السيارات بإمرة هذه الحركة.. حامل الجهاز هو الامر الناهي لموكب السيارات وراكبيها..لا تتحرك سيارة الا بإذنه..او بمزاجه.. يجب فتح نافذة السيارة عند الوصول اليه.. لماذا؟ لإشعاره بالاحترام.. نسيت ذلك؟ تنحى جانبا للتفتيش.

من اين اتيت؟ الى اين تذهب؟ هل تحمل سلاحا؟ يطرح اسئلة تعزز من سلطته وقوته!

يلجأ البعض الى السخرية من تلك السلطة بواسطة اللعب على الألفاظ والكلمات.. من أين اتيت؟ من الدائرة.. الى اين تذهب؟ الى البيت، تفضل.. وانت تضحك في سرك.. اي هيبة مزعومة لتلك السلطة والقوة المزيفة؟

تعودنا على التفتيش وتعود الآخرون على ابتداع أساليب جديدة كل يوم لوضعك في خانة المراقبة او المعاقبة..

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 31/تشرين الأول/2011 - 3/ذو الحجة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م