الفلسفة تنزه في فردوس الحقيقة
عدت اليك أيتها الحبيبة الغالية وفي قلبي شوق الي لغتك ومعانيك بعد
أن أعيتني معارك السياسة والحماسة، فأنا لا أستطيع أن أفارقك وان هجرتك
الى حين، عدت اليك وأنا على يقين أن قدري هو أن أعلمك لمريديك ما حييت
وأن أسترسل في التدريب عليك والتفنن في طرح أسئلتك والتهرب من أجوبة
عمالك وكهنتك. عدت اليك وقد كان الملل ينتابني من تكرار دروسك واجترار
مادتك وضعف نجاعتك وعزوف الطلاب عن طلبك ومحاصرة النفاق مبادئك.
اني على علم أنك تطلبين الحقيقة وأنك تنفرين من التقليد وتمجدين
الثورة وأن عاشقك يسترسل في وصالك دون أن يقعك ويكد في سبيل فيستشهد من
أجلك ولكن ما العمل وهذه حالك وأنت الملكة التي تتربع على عرش القلوب
وتجرس على الأريكة في قصر المعرفة؟ كيف أنطق بلسانك وأهمس باسمك وأنت
بعيدة المنال ومرتفعة المقام؟ وأي الطرق المؤدية اليك وأنت الدرة
المكنونة والجوهرة النفيسة؟ وكم من شخص تاه في بحر عشقك دون ان يذوق
طعم الحقيقة؟ والى متى هذا الهجران ونحن لا نؤمن الا بحقيقته؟
كيف نسكت ونحن نرى الحشد يحول الوهم الجماعي الى حقيقة فردية ناقلا
اياها من محور السياسة الشمولية والحزب الواحد الى دائرة الفلك
الايديولوجي وحراس التاريخ التذكاري وكهنة السوق الجدد؟ ولكن هل يمكن
فلسفيا أن أخرج من رأسي وأطل على العالم وأقول شيئا شاملا وكونيا
وصالحا للجميع وأنا أعبر عن عمق وضعيتي الخاصة؟
لقد جاء في المأثور تعبير عن امتلاك الانسان الحقيقة لما ذكر عن
الخليل ابن أحمد الفراهيدي قوله: الناس أربعة:
رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فخذو عنه، ورجل يدري وهو لا يدري
أنه يدري، فذاك ناسٍ فذكروه، ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري، فذاك
طالب فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك أحمق فارفضوه.
فما هو الفرق بين العلم والجهل وبين الدراية والحمق؟
من هذا المنطلق كم كان أرسطو تقليدا حينما جعل القول المنطوق هو
المكان الذي تتجلى فيه حقيقتك و أسند للحكم مهمة المجال الأصلي للحقيقة
وبين أن ماهيتها تقوم في التطابق بين هذا الحكم العقلي والموضوع
الخارجي وحينما نصب المنطق على باب مدينة العلوم. وكم كان نيتشه ثوريا
لما استدعى الفن واللغة والحياة وثار على التاريخ والعلم وفكر في
ماوراء الخير والشر وجعل الخطأ شرط المعرفة والوهم بابا من أبواب
الجمال ومن القوة مصدر التصديق ومن قابلية التكذيب معيار المنظورية
والنسبية العلمية ودليلا على تعدد الحقائق وزوايا النظر.
تقوم الحقيقة التقليدية على الاتفاق بين المعرفة مع موضوعها وصواب
التمثل وتسند ملكة الفهم الى فن الحكم على الأشياء ولكن الحقيقة
الثورية تقطع مع التطابق والتماثل والصدق والصحيح وتجعل الظهور
والانفتاح والحرية والاختلاف هي ماهية الحقيقة وتضع النافع والصالح
والمفيد والحسن هو الحقيقي والواقعي والحيوي والدنيوي.
لقد خضع مفهوم الحقيقة الى عدة تحولات وانتقل من التقليد الى الثورة
ومن البداهة واليقين الى الشك والنقد ومن الذات والعقل والأنا الي
الغير والجسد والنحن وتبدل الوضع من الحقيقة كقيمة الى التساؤل عن قيمة
الحقيقة ومن الحديث عن الخلاص الروحي والنعيم الأخروي الى التطرق الى
الصحة والسعادة.
ان الحقيقة هي تقييم ينجزه الكائن من أجل مباشرة الحياة ونوع من
الخطأ بدونه لا يمكن للإنسان أن يعيش، كما أن الحقيقة ليست كذلك
استقامة وصواب الحكم بل انفتاح يرسخ به البشر أقدامهم في تربة العالم
وبراءة الصيرورة والهوية المتحركة والاختلافية للفكر والجدلية العميقة
للتاريخ والمكان الذي يصبح فيه العقلاني مرئيا بل ان ماهية الحقيقة لم
تعد شيئا أساسيا بالنسبة اليها بل تحتاج الى اللاحقيقة أكثر.
ان انتصار الحقيقة الثورية يعني نهاية الحقيقة المطلقة في العلم
والفن والدين وفك الارتباط بين السلطة والمعرفة والعلم والايديولوجيا
وميلاد الكلام كفعل انساني والمقروئية كمشاركة في كتابة النص والشجاعة
على قول الحق حتى وان كان والالتزام به في كل حال والاعتراف بالانكشاف
والتجلي وممارسة الحرية.
ألم يجانب أبو حامد الغزالي الصواب حينما قال: اذا نسبت الكلام
وأسندته الى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وان كان باطلا، وان أسندته
الى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وان كان حقا؟
هكذا نرى أنه قد انتهى اليوم قول الحقيقة بالطريقة التقليدية وأن
ارادة الحقيقة تحت قيادة الذات في الطريق الى الزوال وأن التدرب على
الحكاية وفن القصص يأخذ مكانه ويركز هاهنا. ألم يكن فوكو مصيبا حينما
تحدث عن الاقتصاد السياسي للحقيقة ولما صرح ذات يوم: نعني بالحقيقة
مجموعة من الطرائق المنظمة من أجل الانتاج والقانون والتوزيع والتداول
واشتغال المنطوقات؟
لكن المعضلة التي تظهر أمام أعين الفكر الحاذق تتمثل في أن الحدث
الجلل ورأس الأمر لا يكمن في البحث الفلسفي المضني عن الحقيقة
والانتقال من فضاء التقليد الى شارع الثورة وانما في طرح السؤال
الفلسفي الثوري بامتياز: كيف يمكن انشاء سياسة جديدة للحقيقة لا تعيد
انتاج سلطة الماضي بل تقطع معها وتعترف بأن ارادة الفلسفة في بلوغ
الحقيقة هو الشيء الذي لا يمتلك حقيقة وما يجب اسكاته وأن الحقيقة تدخل
في مجال الأعمال والانجازات ويتعين اعدادها وانشاؤها من الكذب والخطأ
والوهم والزلل.
ألم يقل بول ريكور: يمكن أن يعني الكذب عن قرب الحقيقة المبحوث
عنها، فالكذب المخفي حقيقة ليس مما يتعلق بقول الحقيقة المعروفة؟ وألا
يعني هذا أن الخطاب عن الحقيقة لم يعد هو الآخر الخطاب الحقيقي في
الفلسفة؟ ومتى نكف عن معرفة الحق بالرجال ونشرع في البحث عن الرجال
بالحق؟ وما السبيل الى الخروج الامية الحدية: تناهي قدرة الكائن البشري
على انتاج المعنى من ناحية وانفتاح الوجود أمامه والحاجة الى التواصل
مع الآخرين من جهة أخرى؟
* كاتب فلسفي |