إرهاب الحرائق وتأبيد مسلسل الفساد

عدنان الصالحي/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

في وقت يغيب فيه التيار الكهربائي الرئيسي (الوطني) بشكل شبه تام في العراق غير انه سرعان ما يلبث حتى يحضر في حوادث الحرائق التي لا تكاد تخمد في مؤسسة حكومية حتى تنشب في أخرى و بشكل دراماتيكي متشابه.

 (التماس الكهربائي) رغم انه تفسير جاهز لعشرات الحرائق في المؤسسات الحكومية وهو ليس مقنعاً بالتأكيد، حتى بالنسبة الى الطبقة السياسية التي توافقت، ربما للمرة الأولى، على إن الكهرباء ليست مذنبة، غير انه يكاد يكون سببا مدرجا في أولى التعليقات للمسؤولين الحكوميين العراقيين على أي حادث من هذا النوع في اغلب تصريحاتهم التي تعقب كل حلقة في مسلسل الحرائق.

ولو وضعنا مقارنة بسيطة لما حدث من حرائق في مؤسسات الدولة العراقية والأسواق الكبيرة للقطاع الخاص ومخازن المواد التموينية وغيرها، نجد إن مجموع ما وقع منذ عام 2003 لحد الآن يفوق ما حدث من حرائق في هذه الدوائر لمدة قرن ونيف.

الشرارة الأولى لتلك الحرائق انطلقت من وزارة النفط، حيث اندلع حريق كبير ضمن أهم طابقين فيها في ايار2006، ليليها بعد فترة حريق وزارة الداخلية في 2007 ثم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية 2008، وحريق البنك المركزي 2008 ايضا، وسجل حريق آخر داخل مبنى وزارة الصحة في شعبة العقود والتراخيص نهاية نيسان (ابريل) العام 2009، وفي الثالث من آب (اغسطس) 2010 شب حريق في مبنى وزارة التجارة في الطابقين الثاني والخامس الذين يحتويان على ملفات وعقود خاصة بالبطاقة التموينية، وفي30/ 6/ 2011 نشب حريق كبير في مبنى وزارة الداخلية مرة أخرى، وآخر الحرائق بالنسبة للوزارات كان يوم 4/ 7/ 2011، حيث استهدف دائرة العقود في وزارة التعليم العالي، هذا بالنسبة للوزارات المركزية ناهيك عن الحرائق التي بدأت وكأنها مرتبة بفترات زمنية معينة في المستشفيات والدوائر والسجون الواقعة في المحافظات العراقية الأخرى.

الحالة تظهر درجة عالية من الشك والارتياب، حيث يقول الأستاذ في مجال علم النفس (علي بهجت): (... إن مسلسل حرائق الوزارات في بغداد، جعلت الناس يفقدون ثقتهم في إجراءات الحكومة، لكشف الفساد المالي والإداري المستشري في الوزارات منذ الاحتلال...)، من جانب آخر يرى المحلل السياسي الأستاذ (مازن الياسري): (.. إن الحرائق التي استهدفت مجموعة من المباني الحكومية وغيرها، بعمليات لا تضع حداً للشك بأنها مدبرة.. حيث تعد متقاربة في الغاية رغم تنوع الوسائل واختلاف الاستهداف، ففي واقع التنافس اللاشرعي في ظل سيادة قيم القوة والاحتيال على القانون بتبعية النفوذ الرسمي أو غير الرسمي للإرهاب من جهة كونه مجاميع تهدف إلى تصديع الواقع الحكومي والاجتماعي على الأرض لتحقيق مصالح دول أخرى، تجد إن مثل هذه الممارسات ستحقق لها منافع معينة...).

 وبدا الأمر أشبه بإرهاب من نوع جديد إن لم يكن إرهابا فعليا، فضرب البنى التحتية بطريقة الإتلاف او تغييب الملفات المهمة التي تختص بالفساد والمتورطين فيه وتخريب العصب الاقتصادي وضياع العديد من المستندات نتيجة الحرائق المتكررة، إنما يدل على وجود سياسة محكمة، الغاية منها الإخلال ببنية الدولة ونهج واضح معاكس للنظام السياسي الجديد بل وطريقة من طرق العداء للعملية السياسية برمتها وهو يمثل تهديدا لا يختلف عن الأسلحة الكاتمة والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة.

‎فحرائق التماس الكهربائي أو (كما يدعى) هكذا، إنما تصور معركة من حرب الفساد المالي والإداري التي تشن ضد بنية هذه الدولة الجديدة وهو جزء من مخطط واسع يستهدف تدمير أي منجز أو أي خطوات لبناء مستقبلي لمشاريع قد تؤمن التطور لهذا البلد، وتكمن خطورتها في هدفها الأساس وهو زعزعة الثقة لدى المواطنين في امكانية سيطرة الحكومة على مؤسساتها بالدرجة الأولى، فما جرى بالتأكيد ليست جزء من إهمال أو تسيب لمجموعة موظفين او تقادم لشبكة كهرباء او ضعف لأمور السلامة المهنية في الدوائر والمؤسسات.

والمثير للريبة انه من بين نحو (100) حريق في مؤسسات حكومية وأسواق عامة ومخازن غذائية خلال السنوات الماضية، لم تظهر نتائج أي تحقيق الى العلن ولم يحدد أشخاص معينون بالتقصير سواء بالعمد او بالإهمال، ما يدفع الى اعتبار تلك الحرائق تقع ضمن المماطلات السياسية وتقف خلفها أجندة خطيرة ويتمتع منفذوها بحماية خاصة سواء من جهات سياسية او حكومية.

ثم أن الأخطر من ذلك كله هو إن الحكومة لم تأخذ الموضوع بمحمل الجد بل تحاول غض النظر عن الحقيقة في كل حادثة، ظنا منها بان حماية من قاموا بهذه الحادثة سواء بالإهمال او بالتعمد هو حماية لجزء من الحكومة، وهذا سيؤدي بالنتيجة الى انتشاره بشكل غير متوقع في وقت يتوقع المحللون حدوث حرائق أخرى في مواقع حساسة جدا.

إننا اذ نتفق مع الكثير ممن يقولون بان نتائج التحقيق أثبتت صحة ادعاء الحكومة بوجود تماس كهربائي في اغلب الحرائق، غير إننا نختلف فيمن هيأ الأسباب لهذا التماس او ممن اصطنعه بصورة مقصودة، فقد يكون التيار موجودا بالفعل ولكنه ليس من أنتج الحريق وإنما استخدم لإنتاج الحريق أشخاص مرتبطون بأجندة وملفات خاصة سواء بالفساد او لإرباك الوضع بمجمله.

إذن فمن الضروري أن ينظر الى المسالة بأهمية كبرى وان يوضع التحقيق في كل حادثة موضع التدقيق فيمن المستفيد ومن المسؤول عن الحريق بغض النظر عن آليته سواء بالحرق المباشر بالنار او باستخدام التيار الكهربائي المتهم ظلما.

انها دعوة للحكومة العراقية لتنظر في الملف نظرة جادة وعدم الاعتماد على التحقيقات الروتينية التي لم تحسم أمر سوى صرف الأموال وهدر الأوقات دون محصلة ترجى او نتائج فعلية، وإلا فان الإرهاب سيهاجم بشكل أكثر خطورة في الفترة القادمة مستغلا الوضع السياسي المتشنج والوضع الأمني الذي يمر بمرحلة حساسة، فالإرهاب متعدد الصور ومختلف الإشكال ولكنه واحد في الهدف والنتائج و التماس الكهربائي صورة من صور الإرهاب الأعمى.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com/index.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/تشرين الأول/2011 - 20/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م