تعود دورة المفاوضات العتيدة لتدور من جديد، بانتظار تمهيد الأرض
لها، وتهيئة ظروف ومعطيات إستيطانية جديدة، تعمل على نسفها مجددا، من
قبيل دعوة الرباعية الدولية لاستئنافها في غضون شهر، للتوصل إلى "اتفاق
سلام" قبل نهاية العام المقبل 2012، ومن قبيل إقرار لجنة تخطيط المناطق
في وزارة الداخلية الإسرائيلية الموافقة على خطة بناء 1100 وحدة
استيطانية جديدة في حي جيلو الاستيطاني في القدس الشرقية، وكذلك من
قبيل تصريح نتانياهو أنه لن يقبل تجميدا جديدا للاستيطان من أجل إقناع
الفلسطينيين بتحريك المفاوضات أو الموافقة عليها، أو من قبيل ما أعلنه
السفير الأميركي في إسرائيل دان شابيرو من أن بلاده تعارض وضع تجميد
الاستيطان شرطا لاستئناف المفاوضات.
هذه الدورة القديمة – الجديدة من الشروط والشروط المضادة، ووضعها
كعربة أمام حصان المفاوضات الكسيح، تعيد هذه الأخيرة إلى حظيرة من جمود
انتظار متبادل، كل طرف فيها يحاول تحقيق مطالبه المصاغة بطريقة
اشتراطية، من أجل الانطلاق نحو طاولة باتت تقوم في العراء، فيما مطالب
كل طرف أضحت أكثر وضوحا وسطوعا، ذاتيا وموضوعيا للطرفين المعنيين
الفلسطيني والإسرائيلي ولكل تحالفاتهما الإقليمية والدولية، المعلنة
منها والمضمرة، فما الجديد الذي تسعى إلى إضفائه والاحتفاء به الرباعية
الدولية، في انتظار بحث الطلب الفلسطيني في مجلس الأمن الدولي؟.
تواجه جهود الرباعية الدولية إشكاليات متعددة، ليس على صعيد جهودها
لاستئناف المفاوضات، بل وعلى صعيد مسألة "يهودية الدولة" وطريقة طرحها،
وقد فشلت كذلك في وضع مسودة بيان لما أطلق عليه "بنودا مرجعية" يمكنها
أن تبعث الحياة أو تشجع الطرف الفلسطيني خاصة على الإقدام والدخول في "المفاوضات
الجديدة". حتى أنه يمكن القول بفشل تلك الجهود الدبلوماسية المحمومة،
التي تواصلت حتى اليوم الأخير؛ قبل أن يقدم الرئيس الفلسطيني طلب
العضوية للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة.
وتحت مظلة هذه الأخيرة في التوصل إلى صيغة مقبولة من الطرفين؛ حول
القضايا الأساسية وهي الحدود والمستوطنات ومصير اللاجئين ووضع القدس،
وهي مسائل تفصيلية قد يستغرق الاتفاق في بحثها زمنا طويلا. فإذا كانت
المفاوضات، من حيث المبدأ، لم تعد تجد متسعا للاتفاق في شأنها، فكيف
يمكن الاتفاق على مسائل تفصيلية معقدة هي في الجوهر، قلب القضية
الوطنية الفلسطينية كما هي على الطبيعة، وليس كما يحاول البعض اختزالها
على طريقة من يحاول تهوين الموت.
وإذ تحاول الرباعية الدولية الآن إعادة إحياء خطة خريطة الطريق
لعام 2002 التي دعت إلى تجميد البناء في المستوطنات، وتحض الطرفين على
الامتناع عن القيام بأعمال استفزازية، فهي وفي بيانها الأخير تدعو إلى
خريطة طريق خاصة بها، تدعو من خلالها إلى إجراء محادثات تحضيرية في
غضون شهر، وأن يقدّم الجانبان اقتراحات حقيقية حول الحدود والأمن في
غضون ثلاثة أشهر، على أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام بين الطرفين، أو أن
تحقق أي نتائج إذا بدأت.
وفي ذلك عودة إلى تجريب المجرب من مسارات أفشلها ويفشلها
الإسرائيليون عبر الاستيطان تحديدا، وعبر اشتراطات لهم أو لحلفائهم
الأميركيين، عوضا عن الاشتراطات الفلسطينية الخاصة بوقف البناء
الاستيطاني والرفض المبدئي والعملي لـ "يهودية الدولة".
وعلى حد تعبير مارتن أنديك الذي عمل من قبل مساعدا في الخارجية
الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، ويعمل حاليا في معهد بروكينغز البحثي،
أنه مثلما كنا محاصرين في نقطة تجميد المستوطنات، يبدو أننا الآن أيضا
محاصرون في نقطة "يهودية الدولة". لهذا تجد حكومة نتانياهو أنه من
الصعب قبول صيغة دولة على حدود العام 1967، مع اتفاق الطرفين على تبادل
أراض مقابل "يهودية الدولة"، بينما وعلى الطرف الآخر يجد الفلسطينيون
أن فكرة "يهودية إسرائيل" كدولة غير مقبولة أيضا، لأنها ستكون مجحفة
بحق الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، الغائبين والحاضرين في مناطق الجليل
والمثلث والنقب.
وإذا كانت الصهيونية المسيحية قد أعلنت موقفا يعارض إقامة دولة
فلسطينية في الأمم المتحدة، واعتبرت التحرك الفلسطيني في هذا الاتجاه "تدميرا
لاحتمالات السلام في المنطقة"، فقد طالب خبراء في الأمم المتحدة بالوقف
الفوري للتدمير الحقيقي والجاد الذي تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي
والمستوطنون للممتلكات الفلسطينية في الضفة الغربية. وهؤلاء الخبراء
مختصون في مجالات الحق في السكن والحق في مياه الشرب والحق في الغذاء،
أشاروا إلى أنه في أماكن معينة تحرق أراض وأشجار ومحاصيل لقرويين
فلسطينيين على يد مستوطنين إسرائيليين.
ويقول الخبراء أنه "منذ كانون الثاني العام 2011 تمّ هدم 387 وحدة،
من بينها 140 منزلاً و79 منشأة زراعية، ما أدّى الى تهجير قسري لـ 755
شخصاً"، ولأضرار أثرت على 1500 شخص آخر. ونتيجة للهدم فإن "عدد
المهجرين منذ آب 2011 يتجاوز عددهم خلال عام 2010 بأكمله".
ورأى الخبراء أن عمليات الهدم هذه هي نتيجة "لسياسة التقسيم
التمييزية والتقييدية، وسياسة التخطيط التي تنتهجها حكومة اسرائيل"
تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وتشير راكيل رولني، الخبيرة المعنية بالحق في السكن اللائق، إلى أن
هناك (تصاعداً في الوضع مع الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان).
وقالت: (لم تطرد العائلات التي يقيم بعضها منذ عقود في بيوتهم فحسب، بل
لم تتلق أيضاً أي تعويضات أو إعادة إسكانهم، بل يُجبرون على تغطية
تكاليف عملية الهدم ودفع الغرامات بسبب البناء غير القانوني).
أما الخبيرة الخاصة بمياه الشرب كاترينا دو الباكورك، فلاحظت أن
(20 خزان مياه على الأقل، و12 بئراً، دمرت منذ بداية العام، ما يؤثر
على قدرة عشرات آلاف الفلسطينيين للوصول لمياه الشرب.) وحذر أوليفييه
دو شوتر، الخبير في الحق في الغذاء، من أن التدمير يهدد (بتفاقم انعدام
الأمن الغذائي لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية). ورأى الخبراء أنه
(يتوجب على السلطات الاسرائيلية اتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع
اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية بما
فيها القدس الشرقية)، مطالبين (بالتحقيق في الأعمال الإجرامية التي
يرتكبها المستوطنون في شكل مستقل).
أما وقد أدلت الرباعية الدولية بدلوها، من دون أن تحظى مواقفها
بقبول إسرائيلي، على رغم انحيازها للمواقف الإسرائيلية، أو برضا
فلسطيني، فإن المواقف تبقى تراوح أو تراوغ بلا أدنى تغيير يذكر، على
أمل وفي انتظار البت بطلب عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، فيما
يبقى الاستيطان سيد المرحلة، و (البقرة المقدسة) التي لا يستوي المشروع
الاستيطاني الصهيوني من دون البقاء أو الدوران حول ضرعها، وبهذا فإن
تلك المواقف ستبقى تدور دورانها الفارغ، وسط جلبة البلدوزرات وضجيج
اللفظيات الكلامية التي لا تسمن سوى الاستيطان، في وقت يفقد
الفلسطينيون المزيد من الأرض، فلا يجدون من يعوّضهم عنها ولو بالكلام.
فأي تسوية ممكنة وأي (اتفاق سلام)، يمكن الوصول إليه في مثل هذه
الأجواء التي تجترها الرباعية الدولية، من دون أن تجرؤ على تسمية
الأشياء بمسمياتها، على رغم انحيازها الواضح والفاضح للجانب
الإسرائيلي؟ |