المدرسة الشيرازية واللاعنف المطلق

الذكرى السنوية لليوم العالمي لمبدأ اللاعنف

 

شبكة النبأ: يوما بعد آخر تتأكد الحاجة القصوى لعالم بشري يخلو من العنف، حيث التزايد المضطرد في أعداد النفوس على المستوى العالمي، يرافقه تزايد مضطرد في الصراعات لحماية المصالح الدولية والاقليمية والمحلية، بالسبل والوسائل كافة، ومنها وسائل العنف والحروب الدامية التي لا ينتصر فيها سوى الخرب والشر.

المدرسة الشيرازية لها باع طويل في الدعوة الى انتهاج مبدأ اللاعنف، في ادارة شؤون البشرية جمعاء، تمثلت هذه الدعوة المتكررة في الكثير من المؤلفات الفكرية، لاسيما ما انتجه فكر الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، عبر العشرات من الكتب والمؤلفات، التي دأبت بجدية كبيرة على ترسيخ هذا المنهج، لمواصلة الحياة بسكينة واستقرار وسلام، بين أمم ومكونات العالم أجمع.

والامر المتميز في الدعوة الشيرازية الى هذا المنهج، هو وجوب الاعتماد المطلق لمبدأ اللاعنف، سواءا في التعاملات الدولية الكبيرة، نزولا الى التعاملات الاقل حجما، وصولا الى التعامل بين الجماعات الصغيرة وبين الافراد ايضا، وثمة ما هو متميز في هذا الجانب، أن هذه الدعوة لا تنطوي على المرحلية التكتيكية المجتزأة، بل لابد من حالة الاطلاق في اعتماد اللاعنف لمواصلة الحياة.

بكلمة أوضح، أن الطرح الشيرازي لمبدأ اللاعنف كمنهج حياة، لم يأت نتيجة لحاجة مؤقتة او مرحلية، بل هو مبدأ يتميز بالثبات والاستمراية، لذا يُعد منهج اللاعنف في نظر المدرسة الشيرازية، من العوامل الاستراتيجية التي ينبغي أن تنتظم من خلالها الانشطة البشرية كافة، والتي ينبغي أن تبقى ثابتة مع ثبات الحياة نفسها، فتؤكد لنا هذه الرؤية التي أطلقها الامام الشيرازي في نظريته الخاصة بمبدأ اللاعنف، عمق البصيرة التي يتميز بها الامام وهو يضع عنصر الثبات، كشرط أول في انتهاج التصالح الدائم بين أمم العالم كافة، والعمل معا بقوة وحكمة، لحل جميع الاشكالات التي تنتج عن تعارض المصالح أو تضاربها، سواء بين الدول الكبرى او الاقل حجما وقوة ونفوذا، في ادارة شؤون العالم اقتصاديا او سياسيا.

لهذا يُعد طرح الامام الشيرازي متميزا في هذا المجال، إذ يقول الكاتب سعد الامارة في إحدى مقالاته عن نظرية اللاعنف:

(يتصف الإمام محمد الحسيني الشيرازي في كتاباته بنوع من الروحية الخاصة، حيث يولي عنايته لمسائل عديدة ربما كانت لعلماء تخصصوا في علوم غير دينية، فهو استطاع أن يخلق نظرية متخصصة في اللاعنف آواخر القرن العشرين، بعد المهاتما غاندي، الهندي الذي تخصص في اللاعنف كطريق موصل إلى الأهداف السياسية)، ويتأتى تميز الامام الشيرازي في هذا المجال، من خلال قدرته على تطوير نظرية اللاعنف، وترسيخها كمنهج لا ينبغي التخلي عنه، اذا ما أراد المجتمع الدولي أن يطور آليات الازدهار والتقدم والعيش تحت مظلة السلام، إذ يقول الكاتب نفسه في هذا الصدد:

(لقد جمع الإمام الشيرازي في طرحه لمبدأ اللاعنف أرقى الآراء والأفكار والاتجاهات الحديثة، بل ربما تنوعت بابعادها أكثر مما طرحه سابقه داعية اللاعنف المهاتما غاندي، أحد أبرز رواد هذا الاتجاه في النصف الأول من القرن العشرين، وربما تجاوز معاصريه في التقسيمات التخصصية النوعية لمبدأ اللاعنف... فهو أبدع بطرحه كنظرية معرفية تارة، وأبدع باعتباره شكّل مدرسة اجتماعية إنسانية ذات أبعاد سيكولوجية لمبدأ اللاعنف تارة أخرى، فضلا عن العنصر الفعال في العمل والسلوك أو التنظير العقلي تارة ثالثة).

ويؤكد الامارة في مقالة اخرى قائلا: (لقد كان الإمام الشيرازي داعية مجدداً ورائداً في مجال اللاعنف ونبذ العنف في حل المشكلات الإسلامية والقضايا السياسية المعاصرة، وكل ما تعانيه البشرية من سلوكيات منحرفة، فانتشار الأساليب والآليات التي يدعو إليها في حل الصراعات الفردية والجماعية والدولية في طريقها إلى التطبيق والتنفيذ، وما زالت دعواته تجد صداها في عالم اليوم وهي نابعة من الفكر الإسلامي المتجدد، وما زالت كل دعواته إلى اللاعنف تجد طريقها إلى التطبيق الميداني).

لهذا نلاحظ أن العلماء والمفكرين والمصلحين، دأبوا على اجتراح الانهاج العملية، واستخلاصها من عصارة الافكار، من اجل تثبيت دعائم السلام، على أسس عملية راسخة، لاتستند الى التمنيات وحدها، لذا نجد تأكيدا متواصلا على ضرورة، بل حتمية التمسك بمبدأ الاعنف، في ممارسة انشطة الانسان كافة، إذ يقول الزعيم الهندي الراحل غاندي "إن اللاعنف هو أقوى قوة في متناول البشرية. فهو أعتى من أعتى سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إليه من خلال إبداع الإنسان".

وهكذا تستمر جهود عمالقة السلام، في ترسيخ هذا المبدأ الاساسي كما يراه الامام الشيرازي، في نظريته التي تكرس اللاعنف، كمنظومة ينبغي أن تنغرس في تربة النفس، ابتداءا من ولادة الانسان حتى مماته، وقد عرّف الامام الشيرازي مبدأ اللاعنف، هو أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هداماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، لذا تنطوي أفكار الامام الشيرازي بهذا الخصوص على اركان واضحة هي: عدم العنف، الدفاع السلبي، مبدأ المسالمة، وتشكل هذه الاركان وغيرها، رؤية فكرية عملية تساعد الانسان على نبذ الاقتتال بكل أشكاله المتعارفة، كالحروب الدولية والصراعات الاهلية وسواها.

وقد أكد الامام الشيرازي في كتابه (اللاعنف في الإسلام) بأنّ "هذا المبدأ يعد من سمة الأنبياء والأئمة -عليهم السلام- والعقلاء الذين يقدمون الأهم على المهم في شتى حيثيات حياتهم)، هذه الصورة توضح لنا بجلاء أهمية هذا المبدأ، وقدرته على مساعدة بني الانسان على تجاوز الكثير من المشكلات، والصعوبات التي تواجهم لاسيما في صراع المصالح وحمايتها.

ومن العوامل المساعدة لنشر مبدأ اللاعنف كمنهج حياة، وسائل الاعلام كافة، وهذا ما استجابت له (مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام) بوضوح وديمومة، حيث دأبت هذه المؤسسة عبر مجلتها الشهرية الثقافية العامة المسماة بـ (النبأ) وموقعها الألكتروني (شبكة النبأ المعلومتية)، وسواها من المطبوعات والندوات، دأبت على نشر ثقافة اللاعنف بين الجميع، عبر مقالات متخصصة، وتحقيقات ودعوات متواصلة، لنبذ العنف، مع تغطيات صحفية متواصلة، لجميع المحافل والندوات التي تؤازر مبدأ اللاعنف، وتهدف الى ترسيخه بين عموم الناس، أفرادا أو جماعات او حكومات او سواها، والهدف دائما هو نبذ العنف، كما اكدت المدرسة الشيرازية على هذا الامر بنحو دائم ومتواصل.

يُذكر أن العالم كان قد احتفل قبل ايام باليوم العالمي للاعنف، إذ تقرر أن يكون الثاني من اكتوبر/ تشرين الثاني (ولادة غاندي)، من كل عام مناسبة، لتذكير العالم أجمع بأهمية منهج اللاعنف لاستمراية الحياة البشرية بسكينة وسلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/تشرين الأول/2011 - 7/ذو القعدة/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م