إصلاح الذات... خطوة أولى في القضاء على منظومة الفساد

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

شبكة النبأ: الفساد كلمة ذات مدلولات واسعة كثيرة ومتعددة أيضا، فهي قد تعني فساد الذات الفرد، أو الجماعة، وقد تعني فساد النفس، أو الفساد المادي بمدلوله العام والواسع، كالاختلاس والتجاوز على المال العام، او السرقات الفردية والجماعية التي تشكل تجاوزا خطيرا على حقوق الآخرين.

وأصعب أنواع الفساد، هو فساد الذات أو النفس، لأنها لا تتعلق بالجانب المادي بل الروحي، ولهذا ينبغي أن يكون العلاج روحيا ايضا، وهنا تظهر لنا القدرة الفائقة لتعاليم الدين، وتلاوة القرآن، والتمعن بمفاهيمه وتعاليمه، وكذلك قراءة الادعية والخشوع لله تعالى، طلبا لتنظيف النفس من الرغائب الكثيرة غير المشروعة، والتي يخضع لها الانسان اذا كان ضعيفا ومقادا لاهواء النفس ونزواتها.

لذا يعد أخطر الحكام، هو ذلك الحاكم الضعيف تجاه نفسه وأهوائها، فهو شديد البأس مع قومه وشعبه وامته، وضعيف أشد الضعف تجاه نزواته التي تستلزم أموالا وفيرة لتحقيقها، فتدفعه الى التجاوز على المال العام بشتى الطرق والوسائل والاساليب السيئة، الامر الذي يتسبب بإلحاق الظلم الفادح بالشعب أو الامة وفقرائها، حيث تبدأ الغلظة وشهوة السلطة تطيح برقاب الضعفاء ممن يرفع صوته، لمقارعة ظلم الحاكم واستهتاره بالقيم وفساده الكبير والواضح للعيان.

لهذا يؤكد سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في معظم مؤلّفاته ومنها كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين) على أهمية تشذيب الذات من الفساد، على أن الفساد له اتجاهات ومسارات ونتائج قد تكون متناقضة، لهذا ربما يقع الانسان في هذا النوع من الفساد أو ذاك.

يقول سماحة المرجع الشيرازي، في هذا الصدد بكتابه المذكور آنفاً، إستنادا الى ما ورد في الصحيفة السجادية – واستصلح بقدرتك ما فسد مني-: (إن الإنسان معرَّض للفساد، فقد يقع فيه وقد لا يقع، والكلام هنا عن فعلية الفساد ووقوعه، لأنّ الإمام – السجاد عليه السلام- يقول: - ما فسد منّي- لا ما يقتضي أن يفسد، وليس كلّ فاسد يمكن إصلاحه بسهولة، علماً أنّ كلمة – ما- الموصولة في قوله سلام الله عليه: ما فسد منّي تفيد العموم والسعة والشمول، فتشمل ما فسد من أمور الدنيا والآخرة، ومن البدن والنفس، وكذا في المسائل المالية والنفسية والاجتماعية وغيرها).

ونظرا للخطر الكبير لمنظومة الفساد، وربما تجذّرها في النفس، فإن اللجوء الى الله تعالى لمساعدة الانسان – لاسيما ذوي المسؤوليات والسلطان الواسع- ينبغي أن يكون وسيلة الانسان لاصلاح ما قد يفسد في ذاته، ولأن السلطة لها سحرها الخاص كما تشير تجارب البشرية جمعاء، فإن أمر معالجة النفس وطموحاتها ورغباتها ونزواتها، خاصة لاصحاب السلطان كالملوك والرؤساء والحكام وأمثالهم، تتطلب لجواءا حتميا الى الله تعالى، لمساعدة الانسان الحاكم على تجاوز معضلات الفساد الذاتية التي تتجذّر في نفسه.

فالتأريخ يعج بالحكام الطغاة الظالمين، بغض النظر عن رمز التسلّط، فإذا كان رئيسا جمهوريا، أو ملكا، أو حاكما، قد لا تختلف جذور الفساد بين هذا وذاك، فالحجاج بن يوسف الثقفي، لم يكن ملكا ولا رئيسا ولا حاكما للدولة، لكنه كان واليا على جزء صغير من الدولة الاسلامية المترامية الاطراف، ومع ذلك تسببت نفسه الشريرة بأن يصبح مضرب أمثال للحكام الطغاة على مر التأريخ، بسبب قتله لمئات الآلاف من الناس، سواء بالمقصلة او بتركهم في السجون حتى الموت.

لهذا السبب يركّز سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه (حلية الصالحين) على ما يهدف إليه الامام السجاد –عليه السلام- من تنوير للانسان كي يحارب الفساد في ذاته، إذ يقول سماحته في هذا المجال:

(لا يخفى أنّ الإمام هنا بصدد تعليمنا وإرشادنا، فمعنى قوله سلام الله عليه هو: إنّ الإنسان لا يقوى على إصلاح ما فسد منه دون الاعتماد على قدرة الله تعالى وتوفيقه، فكلّ منا يمكنه أن يكون من خيار الناس، كما يمكن أن يكون من شرارهم ـ والعياذ بالله ـ فهؤلاء الأشرار الموجودون في المجتمع والذين بقوا كذلك حتى آخر عمرهم كانوا أناساً أيضاً، ولكنّهم لم يريدوا الصلاح، ولا استعانوا بقدرة الله تعالى لإصلاح ما فسد منهم، فاستمرّوا على ما هم عليه).

ولا يخفى على الجميع بأن إصلاح الفاسد، كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي بحاجة إلى الدعاء، (ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه: واستصلح بقدرتك ما فسد منّي)-1-.

وتتصدر قضايا الفساد العام، حالات التجاوز على أموال الامة او الشعب، حيث يقوم الحكام والمسؤولون بالاستيلاء على هذه الاموال بجميع الطرق المتوافرة لديهم، وجلها طرق وسبل غير مشروعة، كما اثبتت الوقائع الاخيرة التي نتجت عن ربيع الثورات العربية، والتي قادت في نهاية المطاف، بعض الحكام الفرديين، كحسني المخلوع، الى قبضة العدالة ليظهر للجميع حجم الفساد المالي له ولابنائه ومعاونيه وغيرهم.

ومع ذلك وكما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي، لا يمكن الحكم على أخذ المال من الغير بالفساد القطعي ولا بوصفه بالذلة او العزّة، إلا بعد معرفة الاسباب التي تكمن وراء مثل هذا الاجراء، إذ يؤكد سماحته في كتابه نفسه قائلا:

(هل يُعدّ أخذ المال من الغير مثلاً عزّة أم ذلّة؟ إنّ الملاك لكليهما يكمن في الموضع الذي يضع الإنسان فيه نفسه؛ فإمّا أن يكون مورد عزّة وقد يكون مورد ذلّة، فليس بوسعنا أن نحكم دوماً على عمل ما بأنّه مصداق للعزّة أو الذلّة ما لم نعرف نيّة المرء فيه. فإن كانت لله تعالى فهي عزّة، وإن كانت لغير الله كانت ذلّة).

هنا تتضح الصورة المعنية من حديث المرجع الشيرازي تماما، فقد يصبح أخذ المال بالقوة – قوة القانون والشرع- حالة مساندة للحق ضد الباطل، ومؤازة للمظلوم ضد الظالم، حيث يتم استرجاع ما تم التجاوز عليه من أموال بقوة السلطة، والشواهد الاخيرة تؤكد صحة مثل هذه الاجراءات السليمة تماما، حيث يتعاون الآن عدد كبير من المنظمات والحكومات عالميا على استرجاع مليارات الدولارات المسروقة وارجاعها الى الشعب المصري، او التونسي، او الليبي، وذلك عبر سلسلة من الاجراءات القانونية الصارمة في تجميد وحجز الاموال المنقولة وغير المنقولة لاولئك الحكام، وابنائهم، وعوائلهم، ومساعديهم، وهكذا تدل هذه الاجراءات والعمليات الواسعة في استرجاع اموال الشعوب، على صحة أخذ المال بالقوة كإجراء يعيد الحق الى نصابه.

وفي جميع الاحوال، يبقى الانسان سواءا كان فردا أو جماعة، حاكما او غيره، مسؤولا أمام الارادة الالهية التي ستحكم بين الجميع يوم (لاينفع مال ولا بنون)، هناك حيث يقف الجميع سارقا ومسروقا، ظالما ومظلوما، حاكما ومحكوما، بين يديّ الله تعالى، ويُسأل السؤال الذي لابد أن يجيب عنه شاء ذلك أم أبى.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد بوضوح لا يقبل الجدل: (لا بدّ أن تحضر جواباً حين يسألك الله سبحانه وتعالى في اليوم الآخر، ومعلوم ما هي تلك المسائل التي يجب أن تعنى بها والتي ستُسأل عنها غداً. فلن تُسأل: لماذا لم تأكل الأطيب أو تلبس الأنعم أو تركب الأسرع أو تختار ما هو أغلى للعيش وأجمل؟).

بل ستسأل لماذا فسدت نفسك ولم تحاول إصلاحها، باللجوء الى الله تعالى بوسائل التقريب المعروفة والسهلة المنال ايضا، لذا لابد لمن تضعه الاقدار الآن، في صدارة السلطة والحكم والقوة، سواء كان حاكما لدولة او مقاطعة او مدينة او مؤسسة او دائرة صغيرة، او سواها، أو فردا بسيطا، لابد لهم جميعا من الاجابة عن السؤال الالهي الحتمي، عن سبب التجاوز على حقوق الناس، وعن عدم ابداء العمل لاصلاح النفس، مع أن الفرصة قائمة وسهلة وفي متناول الجميع، وأولهم الاقوياء والحكام والوجهاء وغيرهم من أوائل القوم.

(1) الصحيفة السجّادية، دعاء 13 في التوبة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/أيلول/2011 - 30/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م