اقتراب الخوف من المستبد... حول السياسة وإدارة المجتمعات

عبد الكريم العامري

 

شبكة النبأ: لمعرفة ردود الفعل عند الحيوانات الأهلية تجاه الأشياء، الألعاب، الحركات، الأصوات، نلاحظ انها تنخفض بنسبة متفاوتة يحددها مقدار احتكاك الحيوان بالأشياء، خيول الجر التي تعمل في المدن عند(باعة الغاز والنفط) أو تلك التي يضرب الناس بها الأمثال (حصان الشرطة) تكون أقل تأثرا بحركة السيارات من الخيول التي تعمل في القرى والأرياف والبادية والجبال.

أدرك الباحثين منذ وقت بعيد ان الإنسان والحيوان معا مروضان بالعادات المكتسبة، وان نسبة ردود الفعل عندهما تنخفض تدريجيا تجاه كل جديد وتنعدم تماما حينما يصبح هذا الجديد قديما. ان الخوف كان وما يزال من أهم الغرائز لحفظ البقاء، هو من الدوافع الأصيلة التي لعبت دورا عظيما في تقدم الإنسانية، فلولا الخوف على الحياة ما تطورت الحياة. كلما اكتشف الإنسان خصائص الأشياء، ازداد معرفة بالمجهول، ذهب خوفه.

لو لاحظنا، الصراع الإنساني ضد المجهولات، لرأينا كفة النصر ترجح فيها لمن يستطيع أن يوفر أكبر مقدار من المعرفة عن خصمه، لأن المعرفة تزيل الخوف، هذا نصف الانتصار. لذلك، الناس الذين يعتقدون بأن الأسد لا يخاف، ويعتقد الأسد بنفسه كذلك، هذا المعتقد غالبا يبطله الصياد المستأسد !.

في أحيان كثيرة، يتوقف سعي الإنسان نحو تحقيق إنجاز ما في الحياة، بسبب الخوف والتردد وصولا الى انهيار تام للشخصية وموضوعها أو طموحاتها المشروعة. الخوف يبدو للبعض سدا منيعا، يمثله شخص متضخم إداري أو عسكري..الخ يحول بينه وبين الوصول الى تحقيق بعض الرغائب حتى البسيطة. يتوقف البعض أمام الآخر، قبل الوصول إليه، تبدأ المخاوف بالفشل من المواجهة أو الاستمرار بالعمل، معتبرا هذه الشخصيات لا يمكن تجاوزها. لها سمات قاسية وقوية، خارجية أو طبائع داخلية، انهم أسود ضارية، تجلس في مناصب تعيق تقدم البشرية.

استغل كبار رجال السياسة والإدارة الى ترويض المواطن (الغلبان). الترويض في تدريب الحيوان، هو تشكيل سلوكه الغريزي بحيث يؤدي الحركات والتصرفات والمهام المطلوبة منه، يصل الأمر حد استئناس بعض الحيوانات البرية من خلال الترويض الذي يتوسل تقنيات معروفة. ما يجري من تشكيل لسلوك الناس في نظم الاستبداد والطغيان بحيث تخضع لتوقعات السلطة، وتستجيب تبعا لرغباتها، تتوجه نحو أهدافها المرسومة هو نوع من الترويض للإنسان يخضع للمبادئ والتقنيات نفسها، مع فارق في المستوى. فترويض الحيوان يتوقف عند سلوكه الحركي لأداء مهام ووظائف مطلوبة، أما ترويض الإنسان في هذه الحالة فيتجاوز السلوك الظاهري/ الحركي وصولا الى تشكيل الإدراك، الأفكار، القناعات، العواطف، بحيث يمثل امتلاك الإنسان من الداخل، على مستوى الوعي الذاتي والخبرة المعاشة أعلى مراحل التحكم.

تتنوع تكنولوجيا تعديل السلوك وضبطه، بين الإغراق الإدراكي الذي يوفر الحضور الكلي للمستبد في وعي الجمهور، وبين آليات التجميل والتفخيم والجذب والانبهار، وبين التأثيم المفرط والإخضاع من الداخل، خصوصا السحب من الرصيد الثقافي والديني الخاص بأخلاق الطاعة. من خلال تكامل فعل هذه المبادئ يتم ترويض السلوك، تتم لملمة الطاقات وإخضاع الإرادات، ومراقبة الذات والنيات من الداخل، وصولا الى التعلق بالمستبد، فيما يبدو أنه حال من الإعجاب الحقيقي به وبقوته وعظم مكانته..هذا يشكل في مجمله حالات متقدمة من هدر الكيان الإنساني.

هؤلاء ليسو أسودا بل نكرات جاءت بهم الأقدار وسوء الطوالع، يخافون من المواطن الأعزل من كل شيء، مع أول ريح لا مكان لهم بين الأسود. مجرد ثباتك أمامهم، تقدمك خطوة باتجاههم، يبدأ بعضهم (ينفس) انه لعبة مطاطية مملوءة بالهواء، لا يبقى لهم سوى الذكر السيء، تعجب انهم كانوا يصولون ويجولون!.. لكن، وقفت بينهم ويبن المواطن لقمة العيش.

في مذكرات واحد من العلماء يقول: في افريقية الوسطى، وقعت على مكان اجتمع فيه عدد من الأسود، كانت تجلس مع أشبالها. هيأت الأسد الذي كان معي ـ لعبة من المطاط مملوءة بالهواء ـ وضعته في مكان لا تخطئه أبصار الأسود الأصلية.

في البداية أقبل الأسد الكبير، لعله الزعيم، أقترب من الأسد التقليد، لكنه توقف على مسافة أمتار، ثم ربض متحفزا وهو ينظر إليه في حذر. بقي على هذا الحال مقدار عشر دقائق، ثم نهض في بطء شديد، أخذ يقترب من اللعبة بنفس البطء، فكان يقعد وينهض ويتقدم. طبيعي التقليد حافظ على رباطة جأشه فما ارتعد ولا تحرك. اقترب منه الحقيقي اخذ يشمه، لكن في هذه اللحظة هبت ريح، أوقعت التقليد على الأرض، الأسد الآخر ارتد مذعورا عشرون مترا، وأخذ يبتعد كأنه قد أعترف بالهزيمة!.

نصبت الأسد المطاط من جديد، ابتعدت الى المكان الذي جعلته للمراقبة، رأيت لبوة تقبل مع أشبالها على الغريب، لعلها كانت تقصد مصالحة المنتصر أو غير ذلك !.

رأيت اللبوة تربض بشكل جعلت فيه من جسمها درعا واقيا لأشبالها وتحرك الباقي بشكل مروحة سدت على الأسد المطاط سبل الفرار. انفصلت عن المهاجمين لبوة أخذت تقترب منه بخطوات خفيفة، حتى أصبحت على مسافة متر، جعلت تشمه في حذر شديد، فجأة أطبقت على أحدى أذنيه وعظته، وقع على الأرض وأخذ الهواء يخرج من ثقبه. لما فرغ الهواء، أصبح جلد من دون عظم ابتعدت اللبوة، ابتعد الأسود فكأنهم كشفوا اللعبة ولم يعد فيها ما يستحق الفضول والخوف.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/أيلول/2011 - 28/شوال/1432

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1432هـ  /  1999- 2011م